في رؤية توثيقية مغايرة لما تبثه وسائل الاعلام الاخبارية العالمية، منذ عقود، من صورة نمطية شكلانية للصراعات المسلحة الناشبة في القارة الافريقية جنوب الصحراء، عكف المخرج النيجيري نيوتن ادوكا على ابراز وجه مغاير وأصيل لعمق هذه الصراعات، وذلك عبر فلمه "ازرا" الذي أرخ لجانب هام من الحرب الأهلية في سييراليون بين 1992 و 2002 والذي بحث في خفايا هذه الحرب التي شكلت هاجس مخرج الفلم من زاوية ملحميتها وأدوات الفاعلين فيها. هذه الأدوات كانت ولا تزال الأطفال الأفارقة الذين أبعدوا غصبا عن بيوتهم وعن عائلاتهم ومدارسهم ليجندوا في حرب لا يعرفون العدو فيها من الصديق، تماما مثلما نقلته الصورة السينماتوغرافية في فلم "ازرا" الذي تطرق لهذه القضية التي شغلت العالم في غفلة منه، وبلا مقابل ابستمولجي انساني يستثار معه ضمير الآخر الخارجي الجمعي للتفاعل مع هذه المحرقة السوداء. "هل الصمت ممكنا"، طبعا لا، لقد حكى ادوكا وترك لنا الاستنطاق، حكى في شريطه عن حرب وقودها الأطفال، عن أطفال يجندون لصراعات أهلية مسلحة دون أن يكون لوجودهم فيها من معنى، صراعات بلا عقل أو منطق تسفك فيها الدماء وتحتكم للغريزة ولسياسة الأرض المحروقة. لقد تحدث أيضا ادوكا في فلمه عن ازرا وعن بقية أصدقاء طفولته من التلاميذ الذين سرقوا بقوة السلاح من مدارسهم ليحملوا نفس هذا السلاح في عمر الزهور ضد عودهم المعلوم المجهول في الآن ذاته. ازرا مثلا لم يخلف وراءه ذكريات كثيرة، أو هذا ما أراد مخرج الشريط أن يبرزه لنا، سوى وقفة عابرة على النهر الذي يشق قريته، ولحظات غبطة طفولية ما كان لها أن تتكرر ثانية بعد اختطافه من مدرسته واجباره على حمل السلاح وخوض حروب عبثية لا يذكر منها شيئا، وخصوصا ذلك الهجوم الذي شنه على قريته ضمن الجماعة المتمردة التي جند داخلها، والذي انتهى بحرق القرية وقتل أبويه بلا وعي منه بفعل المخدرات الكثيفة التي كانوا يسقونها قبل خوض أية حرب أو هكذا تحدث على الأقل داخل محكمة المصالحة بعد أن هرب رفقة أخته وزوجته من المعسكر الذي قضى فيه قسرا سنوات طفولته ، ذلك المعسكر الذي قضى على براءته وعلى أحلامه الصغيرة. لقد خلفت له هذه الأحداث التراجيديا ندوبا يصعب علاجها، ندوبا تعكس شكلا آخر من أشكال عذاب الذاكرة التي وإن أضاعت الكثير مما مر به غير أنها احتفظت بصور عديدة للقتل العبثي الذي لم يفهمه ولم تقبله روحه ولا ذاكرته مما جعله يعيش هذا العذاب النفسي الذي لا يقارن البتة بالعذاب الجسدي، فهذا الأخير من الممكن علاجه ولملمته أما الآخر فيتغلغل في ثنايا الذات البشرية ليصبح خلفية لأفعالها بل ويتجاوز ذلك لتحديد مصيرها المفترض سواء نحو الخير أو الشر. ومن هنا يمكننا الوقوف على الأسلوب الفني الذي صاغ به المخرج شريطه التوثيقي والذي ارتكز بالأساس على حبكة درامية وسيناريو مركب ومتداخل حيث تتراوح الأحداث فيه بين زمنين، زمن الحرب التي خاضها مكرها ولا مبالى وزمن المحكمة التي أقيمت من أجل المصالحة الوطني بين ما يعرف اصطلاحا "الضحية" و"الجلاد"، وإن كان الأمر ليس بهذا الفصل التمييزي تماما بسبب التداخل في المواقع والأدوار بين الطرفين، وبسبب الظروف والوضعيات التراجيدية أيضا، والتي أخضع لها الطرف الثاني دون ارادة واضحة منه. اذا فقد تعامل المخرج مع الزمنين، زمن الحرب وزمن المحكمة بمراوحة دقيقة وتعامل ذكي نلحظه حتى في صورة ازرا الفلمية التي تخضع خصوصيتها وتركيبتها في حد ذاتهما إلى تمايزات يمكن وصفها في بعض الأحيان بالجوهرية لارتباطها بتأثيرات عامل الزمن المغاير في المرحلتين السابق ذكرهما. لقد انعكس هذا التعقيد الحاصل في الزمن وفي الشخصية المحورية وفي الصورة السينماتوغرافية التي أخرجها داكوتا باتقان وجمالية خلابة على تعاطي المشاهد مع السياق العام للشريط بشكل جعله يهضم كل تعقيدات الفلم وشخصياته وخلفية أحداثه بلا ضجر أو ملل، بل أن الصورة الفلمية استهلكت كل هذه التعقيدات وانتظارات المشاهد وفتحت آفاقا أخرى للفهم والتاويل لا نجدها مثلا في الكثير من الأفلام التجارية. وهذه الزاوية تنقلنا للرؤية الفنية العامة التي قارب به اداوكا موضوعه الذي اشتغل عليه، بحيث أنه لم يرتكن للقوالب الفنية السينماتوغرافية الجاهزة بل سافر بمخيلته بعيدا نوعا ما عن سجن التقنية دون التخلي عن أساسيتها، ولكن بثورة متجددة على التقليد الفلمي وبتجريب سينماتوغرافي جميل لاقى استحسان النقاد، حيث انه انطلق من واقع وحقيقة ما رنى تصويره بكاميراته قبل أن يبحث عن ضمان التطابق الحرفي لما تعلمه وخبره في الأكاديمية الانجليزية للسينما التي تعلم فيها أصول العمل السمعبصري، ودون التفريط في ذات الوقت في هذه المكتسابات التقنية والأكاديمية العالية. فمن الملاحظ والجلي إذا أن الوسائل الفنية التي اشتغل عليها ادوكا في غالبية مشاهد الفلم، خاصة تلك التي وظفها في جلسات محكمة المصالحة الوطنية، تخدم واقع قصة الحرب الأهلية في هذا البلد اكثر من هاجس ملاءمة هذه القصة مع هذه الشروط الفنية الموحدة والصارمة، الأمر الذي نلحظه مثلا عند استنطاق ازرا الشخصية المحورية للفلم خلال جلسات المحكمة، فما نطقت به هذه الشخصية وما عكسته ايحاءاتها لا يستجيب لما كان جميع الحاضرين يترقبونه مثلا، بمن فيهم أخته، حيث أن الجو العام السائد في القاعة وانتظارات الجميع وعلمهم بم اقترفه ازرا من جرائم، هو بريء منها في الحقيقة بالمنطوق الانساني لا الفعلي، استوجب برؤية عامة خطابا آخر واجابات مغايرة للتسلسل السينماتوغرافي الذي راهن عليه أدوكا، بيد ان كلمات ازرا وتصرفاته والنفي الذي تشبث به حتى آخر جلسات المحاكمة جعل الجميع يستريب من مختلف ما صدر عنه سواء أكان منطوقا أو سلوكا أو ايحاءات سلبية، وحينما نتحدث في هذا المقام عن الاسترابات الجماعية فإن الجماعة لا تقتصر على شخصيت الفلم فقط بل تصل إلى جمهور المشاهدين الذين كانت لهم انتظارات أخرى واجابات مختلفة لما قدم في هذه المشاهد. إنه الأمر الذي جعل المشاهد يستبطن أصلا تناقضات شخصيات الفلم، ولا يكون رحيما بالقدر الكاف مع شخصيته المحورية، وينقل الصراع والتناقضات في شخصيات الفلم المركبة إلى شخصية المشاهد في تواصل مبهر لا يقدر على صنعه إلا مخرج هذا الفلم الذي، وكما ذكرت سابقا لم يبقى سجين التقنية بل أبدع في استعمالها لمقتضيات الفلم وفي اخضعها لمتطلباته. ولقد حملت الجلسة الأخيرة من جلسات المحكمة التي صورها ادوكا تعبيرات برهانية لهذا النمط الفني الذي يحمل بصمته. فقد تلى أحد أعضاء الهيئة المترئسة للمحكمة في هذه الجلسة بيانا اعتبر فيه أن ماحصل مع ازرا من أحداث وارتكابه لفعل القتل لأهله ضمن المجموعة المسلحة كان مفهوما ولا يتحمل ازرا المسؤولية فيه، فالظروف ومناخ الشر الذي أجبر على أن يكون فيه هو الذي دفعه إلى القيام بهذه الأفعال العبثية، غير أن استمرار ازرا في انكار ما اقترفه ثم ارتعاده وسقوطه مغشيا عليه في الجلسة الأخيرة من محكمة المصالحة فتح الباب أمام تأويلات عدة ومتناقضة في بعض الأحيان، فمن ناحية يصلي ازرا في المشهد الأخير طالبا للمغرفة من أرواح الذين قتلهم في الحرب ومن ناحية اخرى ينكر أنه قتل أبويه، كما أنه يبدو من خلال المراوحة الزمنية على طول الشريط قويا ومتماسكا ولا يخشى شيئا، وفي وقت متراوح آخر ضعيفا يعلوه الوهن خلال جلسات محكمة المصالحة الوطني. وهكذا لا يمكن أبدا الاستغراب مركب التناقضات وحالة اللامنطق التي يظهر عليها بطل الفلم، فقد اجتث من طفولته واغتيلت براءته ورمي به في اتون حرب عبثية لا يعرف منها المنتصر من المهزوم، بل وليس من الطبيعي فيها أن يحب رفيق سلاحه وقائده ويكره عدوه وخصمه، الكل سيان بالنسبة له ويتبادلون الأدوار في مواضع عدة، والحسم الانساني لهذا العالم الاعتباطي المحيط به غير مطروح البته أمام ناظريه، بعدما فقد ما لا يمكن لأحد أن يفقده إياه وهو الحلم. لم يكن لأحد أن يفقده هذا المخيال الجميل،ولا حتى القدر، لم يكن لكائن من كان أن يخترق جمجمته ويحجب عنه الرؤية والحلم، الحلم بغد أفضل، بإكمال تعليمه، بحب امرأة وتزوجها، أو باجتراء المغامرات، لم يكن لأحد أيضا أن يتدخل في فزيولوجيته الناشئة والارتقائية، لم يكن لأحد أن يمنعه من أن يكون شاعرا أوصيادا أو طبيا أو رحالة..! لقد كانت الظروف الحياتية بالنسبة لازرا أقوى من كل الأشخاص والأقدار، ليجد نفسه في النهاية انسانا آخر متهالكا، لا يقبل مجددا أن يكون وقودا للحرب ولا يستطيع أن يسترد طفولته التي ضاعت وراحت بلا رجعة. خلاصة القول، لقد أراد المخرج النيجيري ادوكا عبر بطل فلمه ازرا أن يوصل رسالة للمشاهد العالمي أن الأطفال الأفارقة المجندين في الحروب والصراعات المسلحة ليسوا بمحددين لمصيرهم، وبانه من حقهم أن يحيوا كباقي أطفال المعمورة ويتعلموا ويلعبوا ويحبوا، بدل أن يحملوا الكلاشنكوفات ويتعلموا القتل والكره ويورطوا في حروب عبثية لا طائل منها. وقد استعمل ادوكا من أجل هذه الغاية لغة فلمية لا تخلو من مكونات فنية وتقنية متميزة ومبدعة صهرت مختلف الخطابات الانسانية والنفسية والاجتماعية في خطاب سينمائي متطور ومتجدد ومغاير للمقولات الازدرائية الغربية للصورة السينماتوغرافية الأفريقية. بدر السلام الطرابلسي صحفي وناقد تونسي مقيم بالدوحة.