الخطاب الذي وجهه جلالة الملك محمد السادس إلى القمة الثالثة والثلاbثين لجامعة الدول العربية التي افتتحت أشغالها اليوم الخميس بالمنامة بمملكة البحرين كان مركّزا لكنه كان أيضا هادفا ودقيقا في تحديد المعضلات الرئيسة التي تعانيها الأمة العربية في الوقت الراهن. ثلاث قضايا وملفات حساسة يمكن أن نعتبرها عصب الأزمة التي تخترق الوطن العربي منذ عقود طويلة: القضية الفلسطينية والتكامل الاقتصادي وواقع الشباب العربي. اختيار جلالة الملك هذه القضايا الثلاث لطرحها في خطابه التاريخي ينمّ عن رؤية ملكية عميقة وعملية تسعى إلى التركيز على الأهم وتجاوز إضاعة المزيد من الفرص وهدر الوقت في شعارات عاشت الأمة على عناوينها العريضة لعقود طويلة دون جدوى. القضية الفلسطينية على رأس هذه الأولويات لأنها تمثّل فعلا أحد الأسباب الرئيسة في مختلف الأزمات العربية البينية، وتعثّر الكثير من مشاريع التكامل والتطوير وتعزيز التبادل بين الدول العربية، وكذا بين هذه الدول وبقية أرجاء العالم. الخلافات التي ظهرت حول مقاربة هذه القضية وتوظيفها للأسف سياسوياً من طرف بعض الأنظمة والجهات كانت دائما سببا في حالة عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، وهي الحالة التي أضاعت على البلدان العربية الكثير من فرص الانتقال الديمقراطي والتأهيل التنموي والالتفات إلى أولويات الألفية الثالثة بدلا من الاستمرار في دفع ثمن باهظ للمقاربات الفاشلة لهذه القضية. مسؤولية الاحتلال الإسرائيلي قائمة طبعا في استمرار هذه المعضلة، لكن من الضروري أيضا أن يكون الصف العربي في مستوى التحديات على الأقل من خلال توحيد الرؤية بخصوص المطالب العربية في هذا الملف، والمنطلقة أساسا من ضمان حقوق الشعب الفلسطيني كما يتصورها هو. لذلك كان من الضروري أن ينبه جلالة الملك في هذا الخطاب إلى أنّ: "قطاع غزة جزء لا يتجزأ من الأراضي الفلسطينية، ومن الدولة الفلسطينية الموحدة" وهي إشارة مهمة جدا إلى أن ما يحدث من جرائم على هذه الأرض يجب أن يظل أولوية بالنسبة لكل الأطراف العربية التي تؤمن بحق الشعب الفلسطيني في دولته المستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. فغياب الرؤية الموحدة في تصور القضية الفلسطينية ليس سوى مظهر من مظاهر التنافر التاريخي العربي. لكن ماذا عن مشروع الوحدة في المجالات الاقتصادية؟ في هذا السياق يحرص جلالة الملك في خطابه على التذكير في عزّ هذا الانشغال بملف الحرب الدائرة في غزة بأن "التكامل والاندماج الاقتصادي، بين بلدان منظمتنا، لم يصل بعد إلى المستوى الذي نطمح إليه، رغم توفر كل مقومات النجاح لدى دولنا". هذا ما يمكن أن نسمّيه إعادة ترتيب الأولويات. صحيح أن القضية الفلسطينية تمثّل عصا الرحى في مشروع التقارب والتكامل العربي، لكن يجب ألّا ينسى قادة الدول العربية أن المشروع الوحدوي العربي الأصلي كان يقوم على فكرة تحقيق الاندماج الاقتصادي على غرار ما حدث في تجارب عالمية رائدة كالاتحاد الأوربي مثلا. ومن مظاهر عبقرية القراءة الملكية لهذا المشروع الذي لم يُكتب له أن يرى النور بعد عقود طويلة الإشارة التي وردت في الخطاب عندما قال جلالته: "يجب التأكيد على أن هذا الوضع، ليس قدراً محتوماً، وإنما يتطلب اعتماد رؤية واقعية". ولعلّ دعوة جلالته إلى الرؤية الواقعية تنطوي على تشخيص دقيق لأسباب فشل هذا المشروع التاريخي على الرغم من كل المراحل والتجارب التي حاولت تنفيذه وفقا لهذه المنهجية أو تلك. لا شيء يمكن أن يقرّب بين الدول العربية ويُنجح هذا المشروع دون مقاربة واقعية. لكن ما المقصود هنا بالمقاربة الواقعية؟ لقد شرح جلالة الملك محمد السادس رؤيته هذه قائلاً: "تؤمن بالبناء المشترك، وتستند إلى الالتزام بمبادئ حسن الجوار، واحترام السيادة الوطنية للدول ووحدتها الترابية، والامتناع عن التدخل في شؤونها وعن زرع نزوعات التفرقة والانفصال". تأمُّل هذه الشروط يؤكد بالملموس والمنطق أنها كانت السبب المباشر في فشل كل مشاريع التكامل والوحدة العربية منذ الخمسينيات. كانت سببا في فشل تجربة الوحدة السورية المصرية، وتجربة الوحدة الأردنية العراقية، وتجربة اتحاد المغرب العربي. ويمثل هذا الاتحاد على الخصوص نموذجا حياً لما يمكن أن تحدثه نزوعات التفرقة والانفصال في أيّ مشروع وحدوي مهما توفرت له شروط ومقومات النجاح أو سبقته النوايا الحسنة. لذا كان من الضروري أن يذكّر جلالة الملك في خطابه بفشل مشروع اتحاد المغرب العربي وتعثّره في القيام بدوره في التنمية المشتركة للدول الأعضاء. ما الفائدة إذاً من قمة عربية لا تركّز على معالجة هذه الاختلالات وتقييم أسباب الفشل في تحقيق التكامل الاقتصادي؟ وكم كانت الإشارة الملكية الثالثة أكثر ذكاء وفطنة في تحليل الواقع العربي؟ إذا كانت القضية الفلسطينية ما تزال موضوع مزايدات لدى البعض، وإذا كانت مشاريع التكامل العربي قد فشلت في معظمها بسبب التفرقة والخلافات الداخلية، فمن الضروري أن يكون البديل لهذا الواقع مرتبطا بالأجيال الصاعدة والقادمة. لذا؛ اختار جلالة الملك محمد السادس أن يهتم في المحور الثالث من خطابه بقضية الشباب والأدوار المنوطة بهم في بناء مستقبل أفضل للأمة العربية. إذا كانت الأجيال السابقة قد عجزت عن تذليل صعوبات الوحدة العربية وبناء مشاريع التكامل والاندماج بعيدا عن الحسابات السياسية والاستغلال الأيديولوجي والخلافات العقيمة فإنّ الأمل معقود إذاً على شباب هذه الأمة كي يحملوا المشعل من جديد. لذلك كان جلالته صريحا وواضحا عندما ختم خطابه بالقول: "إنّ إعداد وتأهيل شباب واع ومسؤول، هو الثروة الحقيقية لدولنا، وهو السبيل الأمثل لتعزيز مكانتها، وجعلها قادرة على النهوض بقضاياها المصيرية، وأن تكون فاعلا وازنا في محيطها الإقليمي والدولي".