المتابعات والتحقيقات التي تطال عشرات البرلمانيين والمئات من رؤساء وأعضاء الجماعات الترابية بتهم الفساد، من خلال استغلال النفوذ والتمترس وراء مهامهم الانتدابية، أعادت إلى السطح مرة أخرى الدعوات التي طالما أطلقها المجتمع الحقوقي والمدني، بضرورة سن تدابير قانونية من أجل محاربة الإثراء غير المشروع ومحاصرة الفساد الذي يكلف خزينة الدولة ملايير الدراهم سنويا.
بعد انتخابات 8 شتنبر 2021، كان من أولى الإجراءات التي قامت حكومة عزيز أخنوش باتخاذها مباشرة إثر تعيينها الإقدام على سحب مشروع القانون رقم 10.16 المتعلق بتتميم وتغيير مجموعة القانون الجنائي، والذي سبق أن قدمه وزير العدل الأسبق مصطفى الرميد، متضمنا مقتضيات من أجل تجريم الإثراء غير المشروع، لتنطلق التساؤلات حول مرامي وأهداف سحب هذا المشروع رغم أن الناطق الرسمي باسم الحكومة مصطفى بايتاس، أعلن مباشرة بعد توصل مجلس النواب بمراسلة لسحب مشروع القانون هذا بتاريخ 9 نونبر 2021، أن هذا السحب يرمي إلى تجويد النص قبل إعادته للبرلمان. وبعد مضي ما يفوق عامين ونصف من تعيين الحكومة لا تلوح أية بوادر في الأفق توحي بإعادة طرح مناقشته داخل البرلمان.
الدفع بعدم دستورية التجريم
عبداللطيف وهبي، وزير العدل، والذي كان وراء سحب المشروع من البرلمان، ما فتئ كل مرة يدافع عن هذا السحب ويعتبر أن التنصيص على تجريم الإثراء غير المشروع لا يتماشى مع الحقوق التي يمنحها الدستور للمواطنين. وكان آخر هذه التصريحات في يوليوز الماضي عندما أثار الجدل خلال جلسة الأسئلة الشفوية المنعقدة يوم 24 من الشهر ذاته بمجلس النواب، عندما دافع عن هذا السحب موضحا أنه فقط سحب لجزء من منظومة القانون الجنائي وليس كلها، «لكون بعض الفصول تطرح إشكالا ومنها الإثراء غير المشروع إذا تم تطبيقه والذي يتناقض مع مبدأ قرينة البراءة المنصوص عليها دستوريا»، بل أكثر من ذلك ذهب إلى أنه في حالة التنصيص على ذلك فقد يتم الدفع بعدم دستوريته، رغم أنه لم يكشف عن التصور النهائي لمشروع القانون الجنائي الذي لا يزال حتى اليوم حبيس جدران وزارة العدل.
إسكوبار وكشف المستور
شهورا قليلة بعد هذا التصريح المثير للجدل، انفجرت قنبلة ملف «إسكوبار الصحراء» في وجه وهبي نفسه، فأماطت اللثام عن مجموعة من الممارسات غير الشرعية والتي تصب كلها في إطار تبييض الأموال ومراكمتها دون وجه حق، بمتابعة 25 مشتبها بهم من بينهم قياديان داخل حزب وهبي نفسه، الذي كان يقوده حتى العاشر من فبراير الحالي. لتطفو مرة أخرى على السطح دعوات المطالبة بتجريم الإثراء غير المشروع، خاصة من طرف بعض الجمعيات العاملة في المجال، وعلى رأسها الجمعية المغربية لحماية المال العام التي تنصب نفسها طرفا في مجموعة من القضايا التي يتم تداولها أمام المحاكم، والتي لها علاقة بالفساد والإثراء غير المشروع، كما هو حال الملف رقم 771/2625/2021 الذي يتابع فيه رئيس جماعة ثلاث نيعقوب بإقليم الحوز منذ 2017 والمتواجد حاليا بمحكمة الاستئناف بمراكش بسبب الفساد المالي، وكذا الشكاية رقم 698/3101/2023 والتي تقدمت بها أحزاب المعارضة بجماعة إيغود بإقليم اليوسفية والتي تم تعطيلها ومحاولة التعتيم عليها بسبب اتهام رئيس هذه الجماعة في الابتزاز والرشوة واستغلال النفوذ، وهي الشكاية التي تطالب رئيس النيابة العامة بالتدخل من أجل الإفراج عنها، فضلا عن متابعة مطالب فيدرالية جمعيات المجتمع المدني بجماعة أوريكا بسبب رفضها إنشاء صهريج لمعالجة المياه العادمة، والتماطل في صرف إعانات الزلزال بالجماعات المنكوبة وغيرها من الملفات التي يتابع فيها برلمانيون في عدة مدن، وذلك حسب ما صرح به محمد الغلوسي، رئيس الجمعية المغربية لحماية المال العام ل»الأيام».
حماة المال العام والتصعيد
الغلوسي الذي كان يتحدث ل»الأيام» يوم السبت الماضي على هامش الوقفة الاحتجاجية التي تم تنظيمها أمام البرلمان من طرف الجمعية تحت شعار «تجريم الإثراء غير المشروع مدخل أساسي لمكافحة الفساد»، أكد أن «الحكومة والبرلمان يتملصان من مسؤوليتهما السياسية والأخلاقية والقانونية والدستورية «، معتبرا أن سحب مشروع القانون الجنائي الذي تضمن تجريم الإثراء غير المشروع يعكس وجود إرادة تقاوم كل الآليات والتدابير التي كان ينبغي القيام بها من أجل أن تساهم في مكافحة الفساد ونهب المال العام، مضيفا: «اليوم تعرفون أن هناك متابعة تطال 30 برلمانيا من طرف القضاء وهو رقم لم يسبق لأي دولة أن سجلته في ولاية واحدة، ونحن نعتبر أن هذا البرلمان يشكل مقرا للفارين من العدالة لأن معظمهم متورطون في تبييض الأموال، وفي دفع الشيكات بدون رصيد وفي اختلاس الأموال العمومية، وبعضهم في الاتجار بالمخدرات، وآخرون في ما يتعلق بالسمسرة في العقار العمومي وغير العمومي وتزوير وثائق هذه العقارات بغرض السطو عليها، وبالتالي نحن في الجمعية نعتبر أن الفساد وصل إلى مستويات غير مقبولة وقياسية ويشكل خطورة حقيقية على المجتمع والدولة وعلى كل البرامج العمومية التي توجه للتنمية، لذلك ندق ناقوس الخطر ونقول بأنه لابد أن يتم إيقاف الفساد وإطلاق مسلسل المحاسبة ومحاكمة المتورطين في هذه القضايا وأن ينالوا العقاب وأن تصادر ممتلكاتهم» يشدد الغلوسي.
تضييق وتضايق
رئيس جمعية حماية المال العام، استغل هذه المناسبة أيضا ليندد بسلوك وزير العدل عبداللطيف وهبي، الذي يتجاهل كل هذه الملفات، ويلجأ عوضا عن ذلك إلى محاولة تكميم الأفواه والتضييق على حرية الرأي والتعبير «وهو الذي يتضايق من كل الأصوات التي تدعو إلى محاربة الفساد بل وسبق له أن هدد نشطاء جمعيات حماية المال وتوعدهم بوضع فصل يقضي بمعاقبتهم بعشر سنوات سجنا، وبالتالي فمسيرة وزير العدل الحالي هي مسيرة التضايق من كل الآراء المنتقدة والمزعجة والتضييق عليها، وآخرها سلوكه مسطرة الشكايات ضد بعض النشطاء وهو أسلوب مرفوض وغير مقبول من مسؤول حكومي لا يتسع صدره للانتقادات التي توجه له من طرف الصحافيين والحقوقيين»، حسب تعبير الغلوسي، الذي كشف عن برنامج جمعيته في المطالبة بتجريم الإثراء غير المشروع، وذلك من خلال مجموعة من الإجراءات والتدابير، من بينها إطلاق عريضة إلكترونية موجهة إلى كل المغاربة للتوقيع عليها من أجل حث البرلمان والحكومة على تحمل مسؤوليتهما في تخليق الحياة العامة وتجريم الإثراء غير المشروع والاستعداد لتنظيم ندوة عمومية تهدف إلى تسليط الضوء على تجريم الإثراء غير المشروع، خاصة وأن المغرب صادق على اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الفساد منذ عام 2008 والتي تتضمن بنودا ملزمة للمغرب ومن بينها المادة 20 التي تجرم هذا النوع من الإثراء، وذلك في سبيل الدفع نحو القطع مع الفساد والإفلات من العقاب وتخليق الحياة العامة وفق استراتيجية وطنية ومندمجة ومتعددة الأبعاد والمقاربات، تهدف للحد من نزيف الفساد وتطويق مخاطره على الدولة والمجتمع، خاصة بعد تفجر قضية إسكوبار الصحراء وما تشكله من خطر على الدولة بحكم تورط بعض النخب الحزبية، فضلا عن الكلفة الثقيلة للفساد والتي تلتهم حوالي 5% من الناتج الداخلي الخام، أي ما يوازي 50 مليار درهم سنويا»، يختتم الغلوسي حديثه مع «الأيام».
مجموعة برلمانية تحرج الأغلبية
الإجراءات والتدابير التي تحدث عنها رئيس جمعية حماية المال العام، تتطابق مع مضامين مقترح القانون الذي وضعته المجموعة النيابية لحزب العدالة والتنمية بمجلس النواب لدى رئاسة هذا الأخير، وذلك من أجل منع الإثراء غير المشروع الذي اعتبرته في ديباجة هذا المقترح «مشكلة كبيرة» تنعكس على مستوى محاربة الفساد، وتضر بصورة وسمعة الدول، لذلك تتم محاصرتها من خلال آليات تشريعية وتنظيمية ومؤسساتية.
مبررات التجريم
تعزو المجموعة تقديمها لهذا المشروع إلى «ما بات يشكله الفساد من تهديد بنيوي، يعرقل التنمية، وبالنظر إلى سحب الحكومة لمشروع القانون الجنائي، دون أن تبادر إلى نص تشريعي جديد بتعلق بالإثراء غير المشروع»، حيث «تنطلق في مقترحها، من الالتزامات الدولية للمغرب، في مجال مكافحة الفساد، وخاصة بعد التوقيع على الاتفاقية الأممية لمكافحة الفساد، وضرورة تأهيل وتحيين المنظومة القانونية الوطنية وملاءمتها مع هذه الالتزامات، إضافة إلى تراكم مظاهر الاستغلال السيء للوظيفة العمومية من طرف المسؤولين السياسيين، وكذا الموظفين العموميين ذوي المسؤوليات الملزمين بالتصريح بالممتلكات، وبروز مظاهر الإثراء غير المبرر لهؤلاء المسؤولين، منتخبين وإداريين، وفق ما ترصده الصحافة الوطنية، وتقارير جمعيات المجتمع المدني المشتغلة في مجال حماية المال العام».
مقترحات للمحاصرة
المجموعة دعت من خلال مقترح القانون هذا الذي يتكون من 21 مادة إلى إسناد «مهام البحث والتحري في الإثراء غير المشروع للهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها»، إلى جانب تضمنه مجموعة من العقوبات في حق المتورطين في ارتكاب جريمة الإثراء غير المشروع، وآليات للتتبع والتحري في شأنها. وحسب المادة 3 من هذا المقترح، فإن أحكام هذا القانون يخضع لها «كل شخص ملزم بالتصريح الإجباري للممتلكات طبقا للتشريع الجاري به العمل» و»كل شخص ذاتي، سواء كان معيّنًا أو منتخبا بصفة دائمة أو مؤقتة، تُعهد إليه صلاحيات السلطة العمومية أو يعمل لدى مصالح الدولة أو الجماعات الترابية أو المؤسسات أو المقاولات العمومية سواء كان ذلك بمقابل أو دون مقابل، وكل من له صفة موظف عمومي أو من يعيّنه القضاء للقيام بمهام قضائية» و»الجمعيات والأحزاب السياسية والأشخاص المعنوية المتعاقدة مع الدولة بأي وجه كان والتي تخضع للمتابعة والعقوبات الخاصة بجريمة الإثراء غير المشروع المنصوص عليها»، فيما تقدم تعريفا للإثراء غير المشروع من خلال مضامين المادة الرابعة التي تنص على أنه «تعتبر إثراء غير مشروع كل زيادة كبيرة وغير مبررة في موجودات الموظف العمومي أو أولاده القاصرين أو المتكفل بهم أو زوجه، تطرأ بعد تولي الوظيفة أو المهمة أو قيام الصفة، وكانت لا تتناسب مع موارده مقارنة مع مصادر دخله المشروعة وعجز عن إثبات مصدر مشروع لها»، أو «كل زيادة هامة في مكاسب الشخص الخاضع لأحكام هذا القانون تحصل عليها لفائدته أو لفائدة من تربطه به صلة، أو زيادة ملحوظة في حجم إنفاقه تكونان غير متناسبتين مع موارده ولا يستطيع إثبات مشروعية مصدرهما».
آليات التتبع والعقاب
ومن خلال الباب الثاني من مقترح هذا القانون وابتداء من المادة 8، تم اقتراح آليات تتبع جريمة الإثراء غير المشروع وعلى رأسها «الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها»، فيما دعت المادة 10 النيابة العامة إلى النظر في دعاوى الإثراء غير المشروع بعد إحالتها عليها من طرف هيئة النزاهة، ورفع الحصانة عن كل من تورط في هذه الجريمة (المادة 11)، ودعوة المشتبه بهم إلى إثبات مشروعية مصادر ثروته أو إنفاقه (المادة 12)، فيما تم التنصيص في الباب الثالث على مجموعة من العقوبات والتي تبدأ من المادة 15 والتي تنص على أنه «يعاقب كل شخص اقترح هدية و كل شخص خاضع لأحكام هذا القانون قبل هدية، خلافا لأحكام هذا القانون بغرامة تعادل قيمة الهدية المتحصل عليها إذا كانت قيمة هذه الأخيرة أقل من 100000 درهم، مع الحكم بمصادرة الهدية لفائدة الدولة»، هذا إلى جانب سن عقوبات سجنية ما بين سنتين إلى خمسة وغرامة من 100 ألف درهم إلى مليون درهم (المادة 16)، والمنع من مزاولة جميع الوظائف والمهام العمومية ومن حق الانتخاب لمدة عشر سنوات (المادة 16 أيضا)، فضلا عن المنع من المشاركة في الصفقات العمومية لمدة خمس سنوات على الأقل (المادة 17) وغيرها من العقوبات والتدابير التي تم اقتراحها، لكن يبقى السؤال الأساسي هو حول ما إذا كان سيكتب لمقترح القانون هذا أن يرى النور خاصة وأنه صادر من نفس الهيئة السياسية التي سبق لها أن قدمت نفس التدابير من خلال مجموعة القانون الجنائي ومن موقع مسؤولية تدبير الشأن العام وظل يراوح مكانه لمدة خمس سنوات قبل سحبه من طرف الحكومة الحالية.