الرد الهادئ والأنيق الذي لجأ إليه ثيودور بانقالوس، وهو النائب الاشتراكي في البرلمان اليوناني، لتبرير رفضه قبول الهدية التي تلقاها من السفير الإسرائيلي في أعياد الميلاد، حمل في طياته أكثر من رسالة في دروس الديبلوماسية الهادفة وفن العلاقات العامة بما منح هذا النائب، لا احترام ناخبيه الذين منحوه أصواتهم وثقتهم لتمثيلهم تحت قبة البرلمان اليوناني فحسب، ولكن أيضا احترام كل من تابع خطوط تلك الرسالة التي نشرها على موقعه في محاولة منه لمنحها أكثر من بعد إنساني وسياسي وأخلاقي. فقد آثر النائب بانقالوس إعادة الهدية المتمثلة في ثلاث زجاجات من النبيذ المصنع في هضبة الجولان المحتلة إلى مرسلها، على أن يسمح لنفسه بالاشتراك في جريمة الترويج لبضاعة اسرائيلية مشبوهة تصنع وتوزع وتروج من هضبة الجولان السورية المحتلة منذ نحو أربعة عقود. وفي تبريره لأسباب الرفض، عمد النائب، بأسلوب لايخلو من الحكمة والجرأة في التعامل مع الأحداث، الى استعراض جملة من القوانين الدولية والقرارات الأممية التي من شأنها أن تعيد الى ذاكرة السفير الإسرائيلي تلك الحقيقة التي عمد الى تجاهلها بأن الجولان التي لا تزال تخضع للاحتلال، تشكل جزء من التراب السوري، وهي بالتالي حق للشعب السوري طالما أنه لم يعلن ولم يقرر التنازل عنها. ولعل الطريف أن يبادر النائب اليوناني في مستهل رسالته، بعد توجيه آداب التحية لمخاطبه وإصراره على تقديم التهاني له ولعائلته ولموظفيه ولشعبه بمناسبة حلول العام الجديد، أن يذكره بأسلوب واضح ومباشر أنه تعلم، ومنذ طفولته المبكرة، ألا يرتكب السرقة والنهب، وألا يقبل أي شيء أتى بتلك الطريقة، وأنه قرر بالتالي إعادة الهدية ومعها رسالة توضيحية بعد أن لاحظ وجود علامة «صنع في الجولان» على الهدية التي تلقها وهو مايتعارض مع قناعاته ومبادئه، وما لم يكن بالإمكان قبوله أو غض الطرف عنه. وأيا كانت الأسباب أو الدوافع التي جعلت النائب اليوناني يقدم على مثل هذا التصرف، وسواء كان ذلك استجابة للدعوة السورية الاحتجاجية التي طالبت مسؤولي الأممالمتحدة برفض هدايا مماثلة تلقوها من السفير الإسرائيي في نفس المناسبة، أو سواء كان عن قناعة خاصة وعن رفض لتجاوز الشرعية الدولية والقوانين الدولية، فإن الأكيد أنه أعاد بهذا الموقف الى السطح ما كان يصدر عن أعضاء في البرلمان الأوروبي في أكثر من مناسبة من تلويح بمقاطعة البضائع الإسرائيلية القادمة من المستوطنات في الضفة والقطاع وهي التلويحات التي لم تتجاوز في أحيان كثيرة إطار التلميح درءا للملامة ليس إلا، قبل أن تتراجع وتصمت نهائيا أمام تهديدات اسرائيل ولجوئها في كل مرة إلى رفع تهمة معاداة السامية وعقدة الضمير الأوروبي معها. لقد انتهز النائب الفرصة ليوجه للسلطات الإسرائيلية تأنيبا ضمنيا بسبب سياساتها إزاء الشعب الفلسطيني، ويذكرها بأن ممارسة العقاب الجماعي لايختلف في شيء عما كان هتلر يمارسه ضد اليهود، وبأن ما يحدث اليوم في غزة تكرار للمحرقة التي تعرض لها اليونانيون، من كالافرتا الى ديستومو وغيرها. لقد كان واضحا أن المفاجآت القادمة من العاصمة اليونانية، أثينا، والمواقف الإنسانية الجريئة التي تواترت على مدى أيام العدوان على غزة، لم تعد بالأمر الغريب عن الأرض التي ارتبطت بكبار الفلاسفة وأشهر المفكرين المتمردين على السائد والمألوف مهما كان غارقا في الخطأ والباطل، وبعد أن رفضت أثينا السماح بمرور شحنة الذخيرة الأمريكية المرسلة الى إسرائيل خلال حرب الثلاث والعشرين يوما، وبعد أن كانت تلك المسيرات الشعبية الاحتجاجية على العدوان، وبعد انضمام النشطاء والحقوقيين اليونانيين الى سفن كسر الحصار على غزة..