صدر عن مطبعة الرسالة كتاب (الأستاذ محمد العربي المساري : الصحافي، الدبلوماسي، رجل الدولة : كلمات في تأبينه ومقالات في رثائه)، في مائة وتسعين صفحة، في مبادرة من أسرة الفقيد وجريدة "العلم" ومطبعة الرسالة. يضم الكتاب رسالة التعزية والمواساة التي بعثها جلالة الملك محمد السادس إلى أسرة الفقيد. كما يشتمل الكتاب على الكلمات التي ألقيت في الذكرى الأربعينية لوفاة الأستاذ المساري بقاعة المكتبة الوطنية في الرباط، والمقالات التي نشرت عنه بعد وفاته في الصحف المغربية. وقد أشرف الزميل عبد القادر الإدريسي على إعداد الكتاب للنشر وجمع مواده ومتابعة طبعه، وكتب تقديماً للكتاب جاء فيه : « صنّاع التقدم في الأمم هم قادة الفكر، ورواد العلم، وأقطاب الثقافة، وحملة الأقلام الذين هم بذواتهم المعنوية وبشخوصهم، مصابيح على الطريق نحو بناء مستقبل الشعوب، ومصادر للقوة الناعمة التي تصنع الحضارة، وترتقي بالإنسان في مدارج الكمال، ليكون بانياً للنهضة الشاملة التي تزدهر فيها الحياة الإنسانية. الأستاذ محمد العربي المساري في الطليعة من هؤلاء القادة البُناة للنهضة الحضارية من مواقع التأثير الفكري، والتوجيه الثقافي، والتنوير السياسي في مجتمعهم الذي ينتمون إليه، ويخلصون في خدمته من أجل تحقيق طموحاته إلى التقدم والرقيّ في الميادين جميعاً. وهذه النخبة التي بفكرها المستنير ونضالها المستميت وعطائها المستمر، تصنع التقدم في مدلولاته العميقة ومفاهيمه الشاملة، هي القبيلة الذهبية التي كان المساري أحد أبرز وجوهها وأكثرها إشراقاً وأسطعها نضارةً وأوفرها رواءاً وأوفاها بهاء، من مناحٍ كثيرة، وعلى مستويات عديدة، وبدرجات عالية من السخاء في العطاء، ومن الوفاء في العمل، ومن الإخلاص في الكفاح المدني من أجل بناء المغرب الديمقراطي المتماسك المترابط المتناغم مع أمجاده والقويّ بمقوماته التاريخية وبخصوصياته الثقافية والحضارية. لقد كان المساري نسيج وحده، بالمعنى الحرفي الدقيق، لا نظير له يزاحمه في مواقعه التي انطلق منها يؤدي واجبه الوطني أَوْفَى ما يكون أداء الواجب من مختلف المناصب التي شغلها، فكان فيها النجم الساطع بقلمه الذي لا يُجَارَى في تدفقه وتفوقه وتألقه، وبفكره الثاقب الراجح، وبرؤيته الواضحة النافذة التي يستشرف بها آفاق المستقبل، وبنضاله الوطني سياسياً وفكرياً وثقافياً واجتماعياً ونقابياً، وبسلوكه المهذب المتزن الرصين، وبأخلاقه الراقية التي كانت تقربه إلى أطياف المجتمع كافة، وينفذ بها إلى القلوب جميعاً، وبما وهبه الله من ملكات متنوعة، وقدرات متعددة، كانت من مزاياه الفريدة ومن سجاياه الحميدة. كان محمد العربي المساري مدرسة في الصحافة المغربية قلّ مثيلها بين المدارس الصحافية العربية؛ لأنه جمع بين الصحافة التي مارسها مهنةً وتعاطاها رسالةً وأدّاها أمانة، وبين الثقافة التي استقاها من منابع متعددة واستمدها من مشارب متنوعة، فكان بحق وعن جدارة واستحقاق، الصحافيَّ المثقف، بالمعنى الواسع وبالمدلول العميق للثقافة، والصحافي الخبير الذي يرجع إليه ويعتمد عليه ويؤخذ عنه ويوثق فيه، والصحافي الموسوعي، الذي ينفتح على آفاق المعرفة ويمخر عباب بحارها، ولا يقف على شاطئ واحد منها. فلم تكن الصحافة عنده حرفة فحسب، بل كانت رسالة ثقافية، وأداة تنويرية، وسبيلاً إلى الولوج لحقول شتى من العمل الفكري والإنتاج العلمي والنضال السياسي، فبقدر ما كان كاتباً صحافياً بالغ الاقتدار، ومعلقاً سياسياً كامل الأدوات، ورئيساً للتحرير عارفاً بأصول المهنة، ومديراً مسؤولاً حريصاً على الاضطلاع بالمسؤولية على خير الوجوه، وبارعاً في إدارة العمل الصحافي وضبط تسييره، كان مفكراً واسع الأفق صاحب رؤية، وكان مؤرخاً يتعمق في فهم التحولات، وفي إدراك المتغيرات، وفي تقييم الأحداث، وفي استخلاص النتائج من تطورها المتلاحق، كما كان سياسياً مناضلاً جسور القلب، راجح العقل، رابط الجأش شجاعاً صلب العود في غير اندفاع، يمارس العمل السياسي بنبل الأصفياء، وبهدوء الواثقين من قدراتهم، وبثقة العارفين بواجباتهم، وبأمانة الناهضين بمسؤولياتهم، وقد خولته هذه السجايا الخلقية والخصال الثقافية والخبرات المهنية، أن يكون رجل دولة، سواء من موقعه الوزاري أو تحت قبة البرلمان، متميزاً في أدائه للمسؤولية وفي تعامله مع الواقع، وفي تقديره للملابسات المحيطة وللاحتمالات المتوقعة وللنتائج التي قد تترتَّب على قراراته. وبتلك المقدرة العالية والدراية الفائقة والكفاءة النادرة، نهض بمهمته الدبلوماسية حين اختاره جلالة الملك الحسن الثاني، سفيراً للمملكة لدى جمهورية البرازيل، فكان خير ممثل للدولة المغربية قدم لها خدمات جلى خدم من خلالها القضية الوطنية المركزية، بديبلوماسية راقية، وبنضالية عالية، وبروح من نكران الذات والاندماج في أداء الواجب الوطني قبل إنجاز المهمة الوظيفية. فكان السفير الذي ملأ الدنيا وشغل الناس في القارة الأمريكية اللاتينية، وليس في الدولة البرازيلية فحسب. هذه المعاني السامية وتلك الصفات الراقية، أجمع كلّ مَن تحدث عن المساري أو كتب عنه بعد وفاته، على الإشادة بها والثناء عليها وإظهار التقدير لها. وكانت برقية التعزية التي وجّهها جلالة الملك محمد السادس، إلى أسرة الفقيد العزيز، شهادة عالية القيمة من عاهل البلاد في حق الأستاذ محمد العربي المساري. فقد قال جلالة الملك : « وإننا لنستحضر في هذا الظرف الأليم، مدى الرزء الفادح الذي حلّ بأسرتكم وفقدان المغرب لأحد رجالاته البررة المشهود له بدماثة الخلق وصادق التفاني والإخلاص في النهوض بمختلف المهام والمناصب السامية التي تقلدها، سواء الحكومية منها أو الديبلوماسية أو السياسية أو الحزبية أو الإعلامية، إذ كان، رحمه الله، مثالاً للوفاء المكين للعرش العلوي المجيد، ووطنياً غيوراً على وحدة المغرب وسيادته ومصالحه العليا». ذلكم هو الأستاذ محمد العربي المساري الذي افتقده المغرب وهو في عز عطائه الذي لم ينفد قط حتى بعد وفاته، لأن آثاره الفكرية الغنية والمتميزة، ستظل نبراساً للباحثين ودليلاً لشداة المعرفة العاشقين للمغرب تاريخاً وحضارةً وثقافةً. وإن هذا التقدير الملكي الكريم والثناء المولوي السامي لشخصية المساري يعكسان المكانة المرموقة التي كان يتبوأها في المحيط المغربي، وعلى أصعدة أخرى. وفي هذا الاتجاه سارت المقالات التي نشرت عنه في مختلف المنابر الصحافية، والكلمات التي قيلت في حقه في الذكرى الأربعينية لوفاته، والتي عبرت جميعها، أبلغ ما يكون التعبير، عن القيمة المضافة التي أثقلت ميزان هذه الشخصية الوطنية الفذة المحبوبة من الجميع، مما يبرز بالوضوح الكامل، في هذا الكتاب التوثيقي الذي ينشر بمبادرة من جريدة "العلم" ومطبعة الرسالة، وأسرة الفقيد الأستاذ محمد العربي المساري، أسكنه الله فسيح جناته، وأمطره بشآبيب رحمته ورضوانه».