إذا كانت الهوية الأمازيغية قد تشكلت عبر ممر التاريخ، واستطاعت أن تفرض نفسها على باقي الهويات التي عرفتها بلاد شمل إفريقيا، فإن الفضل في ذلك يعود أساسا إلى نحت الرحل الأمازيغ لهذه الهوية في كافة المجالات، فأصبحت لهم مجموعة من الخصائص والخصال، والعادات، والسلوكيات، والقيم والأخلاق التي ينفردون بها عن غيرهم، والتي جسدوها في ملبسهم ومأكلهم ومشربهم وفي حرثهم وحصادهم، وأفراحهم وأتراحهم، وفي احتفالاتهم الاجتماعية، وتحفهم الفنية، وطقوسهم العقدية والدينية، وفي أساطيرهم وخرافاتهم، وفي عيشهم اليومي البسيط. فكيف استطاع الرحل الأمازيغ الجمع بين حياة الانتجاع ونحت هويتهم، بل الحفاظ على هذه الهوية من التلاشي والاندثار رغم الهزات والأعاصير التي مرت بها في ظل الرومنة والتعريب والفرنسة؟ استقى الرحل الأمازيغ خصائصهم وخصالهم من حياتهم اليومية التي اتسمت دوما بالصعوبة والقساوة، فكان عليهم أقلمة أنفسهم مع نمط عيش الترحال والتنقل، وصهر ذواتهم مع معطياتهم المجالية، ومؤهلاتهم الجغرافية، التي ظلت علامة بارزة في سيرورتهم التاريخية، وبلورة سماتهم الشخصية، فأدركوا قيمة مفهوم النظام وأهمية الزمن والمكان في كل صغيرة وكبيرة، فكان عليهم تنظيم مواسم الانتجاع، وضبط مواقيت الترحال والتنقل، فراكموا في هذا المضمار جملة من الأعراف التي يسيرون على هديها، والتي تؤطر كيفية الاستعداد وتأهب القبائل المرتحلة من أجل إعطاء انطلاقة موسمي الانتجاع الشتوي والصيفي؛ حيث تكون هذه اللحظة مدهشة، وغاية في الأهمية؛ لأنها أساس النجاح، أو فشل رحلة الموسم بكامله، نظرا إلى كونها تحمل في طياتها قيم مجتمع الرحل بعاداته وتقاليده ومعتقداته وقوانينه وتشريعاته؛ إذ يستوجب الأمر إحضار أصحاب الخبرة في تحديد المجالات الخصبة، ونقط الماء الكافية، مع مراعاة الجوانب الأمنية الضرورية. عندما يأخذ الرحل كافة احتياطاتهم، ويجمعون كل لوازمهم: من خيام، وحبال وأعمدة، وأوتاد، وأفرشة، وملابس، وأواني للطبخ وتخزين المياه والتنظيف، وأكياس لخزن المؤن وحاجيات الطعام، ومعدات الحياكة والنسيج، وأدوات الحفر والتنقيب عن المياه، والأسلحة البيضاء للدفاع بها عن النفس، ولاستعمالها في مآرب أخرى. عندما يتم إعداد كل هذا تأتي لحظة الانطلاقة المؤثرة، فيجتمع ما بين 20 و 150 خيمة تتكون من فخذات نفس القبيلة، أو نفس الخمس، حفاظا على التحامها وانسجامها وتماسك مكوناتها، ويتم تنظيم الموكب تنظيما محكما، وذلك بجعله على شكل خطة أمنية احترازية تشبه خطة الكراديس ذات الميمنة والميسرة والمقدمة والساقة والقلب؛ إذ تتكون مقدمة الر كب من الجمال والبغال والحمير التي تحمل الأمتعة والخيام، يرافقها أفراد أشداء، يسيرون وفق أوامر شيخ الانتجاع، ثم يأتي بعد ذلك الأطفال والنساء ومن يستحقون الحراسة والرعاية الذين يحتلون قلب الموكب، وبعدهم تأتي قطعان المواشي تتقدمها الأغنام وبعدها المعز، مصحوبة برعاتها والكلاب التي تحميها من الحيوانات المفترسة. لما يصل الموكب إلى المنتجعات المقصودة، تضرب الخيام على شكل دائري مع احترام مسافات محددة بين الخيمة والأخرى، فتنصب خيمة متواضعة في وسط المخيم خاصة بالفقيه المرافق للرحل، وتكون لها عدة وظائف كتلقين الأطفال مبادئ الكتابة والقراءة، وإيواء الأجانب. إن موقع هذه الخيمة تفسره الضرورة الاحترازية، أي مراقبة من يأويها؛ مما يعني أن الشك ظل دوما يساور هذه القبائل فيما يتعلق بسلوكيات الفقيه وعابري السبيل باعتبارهما غريبين عن الفخذات والعظام القبلية المتنقلة.