يتمتع الرجل بالموسيقى والغناء .عازفو الكمان والعود يتألقون ، عازف البيانو الوسيم، رجالات الإيقاع الذين يحركون نبض الجوقة المتناغمة . كان الرجل العاشق للموسيقى سعيدا هذا المساء، البهجة تهز قلبه. مقاطع الموسيقى تتخلل أنفاسه، تشده الأنامل وهي تعزف ، يتأمل الأشخاص والوجوه ، الأبيض والأصفر ، البدين والنحيل ، الهادئ والقلق، ،بالموسيقى يتآلفون . يدخل عازف الكمان إلى بيته وبعض الدريهمات في جيبه لا تسمن ولا تغني من جوع ، تتلقفه الزوجة والأولاد ، ينكس رأسه هاربا إلى غرفته . يشعل سيجارة ، يصعد الدخان إلى السقف ، تكتئب الحيطان ، تذرف دموع الخيبة والضجر. يدلف عازف العود إلى أول حانة، يطلب قنينتين يفرغهما في جوفه، عطشه لا يرتوي، وسجائره لا تكف عن الاحتراق. ترتسم ابتسامة شقية على وجهه الأزرق، محاولا التخفيف من وحدته، يخاطب من يجلسون قربه. الآخرون منعمون بسعادتهم يتجاهلون وجوده. يدخل إلى المرحاض منكفئا ، حاملا وزره . تطفئ الحانة مصابيحها، تخيب زينتها، ، تبدو خربة بلا أسنان ، تسقط باكورتها وعورتها تتعرى ، مهزومة تجوب الآفاق . الظلام يقودها إلى الأعماق. عازف الإيقاع البدين، مريض حتى النخاع، لا يقوى على حمل جسده الحزين. الرجل الذي يضبط نبض الفرقة الموسيقية، اختل إيقاعه، تلاشت صحته، منهزما تخلى عنه نبضه، انفض الجميع من حوله، غريبا يخاطب ظله. عازف العود يضع حدا للألم ، يختار نهايته، الجميع يحضر جنازته. عائلته تتلقى التعازي من كل الجهات ،الوطن يشكو من فقدان هرم. الحانة تصاب بالدوار ، تتجشأ أحشاءها ، تختنق. يتسكع عازف الإيقاع في الحدائق والبارات، في الحافلات، يتسول المارة، في عينيه تتجمع الأحزان ، تنتحب الأغنيات. عازفو الفرقة الموسيقية ينحدرون بإيقاع منتظم، ينسحبون بهدوء رهيب. أوتار أعصابهم الرهيفة تتقطع. يقبع عازف الكمان في زاوية بيته يحمل كمانه بين يديه، يشد عليه بقوة، ينظر أمامه مشدوها، فاغرا فاه. المعزوفات تسد الأزقة والدروب ، تصرخ في وجه المارة ، تقيم احتجاجا ضد الجحود. الناس تعبر الشوارع غير عابئة. تتلقفها آلات اليومي البغيضة، تعصر عمرها. تفرغ عقلها وقلبها، تعلمها الصمت والحيرة والعصيان. يخرج العاشق إلى الشارع في موكب كبير ، الموسيقى سعيدة ، وجهها مشرق، وفي عينيها تتراقص الأحلام .