تبين لنا إذن أن التصوف السني ليس مجرد ذكروعبادة وصلاح قلب ورقي روحي بل هو مع ذلك بذل وعطاء وإحسان للمخلوقات، شكرا للمنعم جل جلاله وأداء لحقوق العباد. ورأينا كذلك أن الإحسان القلبي- الذي هوالمعنى المطابق لمدلول التصوف- يولد إحسانا متنوعا، تارة في حقول العلم والعرفان، وتارة في ميادين المجتمع وخدمة الإنسان، وتارة في مجالات البيئة وعوالم الحيوان، وتارة في مكارم الأخلاق وحسن الخصال. ولا حصرلتنوع العمل الإحساني المنبثق من قلب الصوفي، فهوحيثما حل أوارتحل، يزرع خيرا، ويبذرمعروفا، ويخلف آثارا طيبة، كالمسك الذي حيثما وضعته عبق بشذاه المكان، وانتعشت برائحته الزكية نفس الإنسان . ولما كان المال عصب الحياة، وأساس التنمية، وضرورة وجودية، توقف عليه سيرمختلف مرافق المجتمع، وطلبه كل قادر، ووجب عليه أن يسلك إليه سبل الكسب الحلال - كما أمره الله- لكن الصوفي ، مع سعيه وطلبه وتحصيله للمال يعلم علم يقين أنه ليس هو مالكه الحقيقي ، بل لا يملكه إلا مجازا، لأن المالك الحقيقي لكل شئ هو الله مالك الملك، من بيده خزائن كل شئ ، فهو الغني المالك الواجد الوهاب الرزاق ذو الفضل والإحسان والجود والكرم. وما بأيدي الناس من أموال إنما هي عارية مسترجعة، وهم مستخلفون فيها ومحاسبون عليها كسبا وإنفاقا، ولذلك فالصوفي يسأل الله تعالى دائما ألا يجعل المال في قلبه وإن جعله في يده، وهذا هوالزهد القلبي المطلوب، فكم من فقيريدعي الزهد وهو يرغب في الدنيا كلها، وكم من غني صالح كسب مالا من وجه حلال وأنفقه في وجه حلال مع زهده القلبي فيه بحيث لا يجعله غايته في الحياة وإنما وسيلة إلى الغاية العظمى والمطلب الأسمى الذي يجب أن تسمو إليه نفس كل مؤمن، ويتطلع إليه قلب كل مسلم، وهورضوان الله سبحانه. وبما أن المال هذه حقيفته وأن المطلوب من الإنسان توظيفه لبلوغ هذه الغاية العليا، فقد توخى الصوفي استثماره استثمارا أخرويا، وبذله في وجوه المعروف بذلا يقوم على أساس الحب كما رأينا : حب الله تعالى المنعم على الخلائق بمختلف النعم وأنواع العطايا، وحب الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم الذي على يده وصلت للإنسانية أعظم نعمة، نعمة الإسلام، والذي هو القدوة في الجود والكرم والإحسان، مثلما أنه الإسوة لكل مؤمن في باقي الخصال، وحب العباد من حيث أنهم خلق الله، ويتسع مفهوم الإحسان هنا، كما رأينا، ليشمل مختلف أنواع المخلوقات، هذا الحب الصوفي هو الذي يحفظ نعمة المال فتفيض منافعها على صاحبه وعلى الأغيار، بدلا من أن يتحول إلى نقمة يشقى بها صاحبها ولا ينفع بها نفسه ولا غيره. والحقيقة أن غنى النفس الذي هو الغنى الحقيقي، ثمرة من ثمارالتربية الصوفية، وهومنبع هذا البذل غيرالمحدود من قلب الصوفي. وحينئذ يزكو المال، وتزكو النفس، ويزكو المجتمع . وما يصدق على المال يصدق بالمثل على العلم . فهومن أعظم النعم، ولا يبذله لأهله إلا سخي، ولا يبخل به على أهله إلا شحيح. وقد قيل : «أقبح من كل قبيح صوفي شحيح». وبإنفاق العلم - الذي هوكذلك موهبة من الله ولا يملكه الإنسان إلا مجازا {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [ البقرة ] - يزكوهو نفسه، وتزكو معه النفس الإنسانية ، ويزكوالمجتمع . بناء على هذا فإن العمل الاجتماعي الذي يقوم على أساس الإحسان الصوفي المالي والعلمي، يثمربدوره صلاح الحياة الاجتماعية، وتربية مرضية للأفراد، ويبث في المجتمع قيما إسلامية لا غنى له عنها وهي قيم نابعة من طاقة الحب وخلق الرحمة ووشيجة التراحم، فيسود التضامن والتكافل والتعاون والتناصروالتعاضد والإيثاروالتضحية والمواساة والعطف والمحبة . وقد تميزالصوفية بالتفطن إلى حوائج الضعفاء، وكانوا يسألون عنهم ويتفقدونهم، ويحرصون على أن يبلغوا إليهم المساعدات المتنوعة دون أن يعلم بهم أحد إخلاصا لله من جهة، ومراعاة لأنفس هؤلاء المحتاجين، فهم يعلمون أن هؤلاء المحتاجين إنما يتلقون العطاء من المعطي الحقيقي الذي هو الله تعالى ، وهذه هي الحقيقة التي يوقنون بها، فما من عطاء ولا موهبة إلا ومن خزائن الوهاب سبحانه فاضت على العباد، وما الإنسان الذي يقدم مساعدة لأخيه الإنسان إلا سبب مظهري دنيوي، والله هو الوهاب . إن الباعث على الإحسان إلى عباد الله لدى الصوفي هوحب الله ورسوله وخلق الله، ومقصده من وراء ذلك هو رضى خالقه الذي أمره بالإحسان في عديد الآي،. وبين ذلك الباعث النبيل وهذا المقصد الأسنى تتفاوت الهمم، ويتسابق الفرسان، ويتبارى المحسنون المفلحون { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } . هذه المفاهيم والمبادئ والقيم الإسلامية الصوفية - أو إن شئت قل الإحسانية - بنت أعظم حضارة في التاريخ ، وشيدت أكثرالمجتمعات البشرية إنسانية، حتى أن هذه الصفة - الإنسانية - امتدت بخيرها وصلاحها وإصلاحها إلى عوالم الطبيعة والحيوان والنبات . والشواهد على ذلك من تاريخ التصوف الإسلامي لا تكاد تحصر. واتسعت ميادين البذل والعطاء لتشمل مختلف المرافق الا جتماعية، من مؤسسات عبادية علمية واستشفائية وتربوية واجتماعية فيها الجوامع والمساجد، وفيها المدارس والجامعات والمكتبات، وفيها المارستانات والمستشفيات والعيادات، وفيها دورالأيتام وذوي العاهات والعجزة، وفيها الخانقانات والرباطات والزوايا، وفيها الفنادق لاستقبال المسافرين عابري السبيل والا عتناء بهم وتقديم الغذاء والكساء لهم والكلأ لدوابهم، وفيها مروج للرفق بالحيوان ومداواته حتى يسترجع قوته فيعود إلى فضائه الطبيعي، إلى غيرذلك من ميادين الإنفاق في سبيل الله، وقد كانت الأوقاف الإسلامية ولا تزال من أهم الطرق الشرعية لتنظيم هذه العطاءات وحفظها واستثمارها وتوظيف عائداتها في المجالات المتعددة التي ذكرنا بعضا منها على سبيل التمثيل. هذا هو المضمون القيمي والعملي الواقعي للعمل الاجتماعي الصوفي، الذي لم يكن أصحابه يقصدون من ورائه مقابلا ماديا ولا معنويا، فهم لا يبغون بربهم تعالى بديلا.