في مثل هذا الاحتفال، من السنة الماضية، بشرنا الشاعر العراقي سعدي يوسف الفائز بالأركانة، آنذاك، وكان قد عاد للتو من الصين، بأن الصينيين يذكرون، بكل خير، بيت الشعر في المغرب الذي أعاد الغريب إلى وطنه... لم يكن الغريب سوى شاعر الصين الكبير بي ضاو، أول فائز بجائزة الأركانة العالمية. وقد أسهمت الجائزة في إعادة تأكيد مكانة الشاعر الصيني و رجوعه من منفاه الأمريكي إلى هونغ كونغ، حيث صار شاعر المختارات الشعرية الصينية الأول. حينها أحسسنا بأن رسالة الأركانة قد جاوزت الرمز إلى الفعل... من رمزية تكريم الشاعر ومنجزه الإبداعي، إلى الفعل المؤثر في صيرورة حياة الشاعر وفي تلقي شعره. تلك غاية جليلة أدركتها جائزتنا، وهي لاتزال في عمر البدايات. وما أروع أن تكون البدايات مثمرة جميلة. ولأن أهداف جائزة الأركانة نبيلة مضيئة كلها، وجدت التفافا ثقافيا وإعلاميا وجماهيريا حولها. وكانت لحظة الاحتفاء بمنح الجائزة للشاعرالفلسطيني الراحل محمود درويش، قبل سنتين، نقطة تحول في مسار الجائزة..حيث حفزنا نجاحها المتلألئ على إطلاقها كل سنة، بدل ثلاث سنوات، وعلى الزيادة في قيمتها المادية لتصبح عشرة آلاف دولار، وعلى الحرص أن يكون مكان الحفل هو فضاء مسرح محمد الخامس البهي الفسيح. ومن كرم المصادفات أن تجمع جائزة الاركانة العالمية للشعر بين مغربيين كبيرين هما: الشاعر محمد السرغيني، وهو من رواد الحداثة العربية في الشعر المغربي، و الشاعر الطاهر بن جلون، وهو أحد رموز الشعر المغربي المكتوب بالفرنسية. ونسعد كثيرا بأن الفائز بالأركانة، في دورتها الخامسة، هو العربي الأول الذي دشن التكريم العالمي لإبداعنا بحصوله، سنة 1987، على جائزة الغونكور الفرنسية الشهيرة. كما يسعدنا أن تذهب الأركانة إلى اسم الطاهر بن جلون الذي أصبح يتردد ضمن القائمة الأولى للمرشحين لجائزة نوبل. الشعر كان منطلق الطاهر بن جلون في الإبداع، منذ حوالي نصف قرن.واستمر منصتا لنداءات الشعر، وضرورته، و أسئلته المعرفية والجمالية، داخل منجزه الشعري والسردي معا. وشكل الطاهر بن جلون إلى جانب كوكبة من الشعراء أمثال محمد خير الدين، وعبد اللطيف اللعبي، ومصطفي النيسابوري، ومحمد الواكيرة، وغيرهم، جيلا من الرائعين الذين منحوا التخييل العربي و المغربي فرصة العبور إلى اللغة الفرنسية. ومنحوا الشعرية المغربية فرصة الإقامة في التعدد اللغوي و الثقافي، وفي الانفتاح على آفاق شعريات العالم ومباهجها. وما يميز عطاء الطاهر بن جلون الشعري المتمثل في أعماله الكاملة الصادرة عن دار غاليمار، هو تأسسه على ذلك الحوار العميق بين لغتين، وثقافتين، وحضارتين، وشكلين إبداعيين هما: الشعر و السرد.. حوار يشي بأسئلة قلقة في الوجود، في الحرية، في الهوية، في الاختلاف، في الألم، في العنصرية، في التطرف، في التسامح، في العدالة، في الظلم،.... ورغم أن روح الحوار التي تسكن إبداع الطاهر بن جلون تحلق في أفق كوني يشمل انشغالات إنسان عصرنا و مكابداته و أحلامه وإخفاقاته، فإنه يبقي تفاعلا حيا متواصلا، مع الهامش، ومع قضايا الهجرة، ومع قضايا أمته العربية، وفي طليعتها قضية الكفاح الفلسطيني ضد وحشية الاحتلال الإسرائيلي وجبروته. وقد كان قرار لجنة التحكيم منح الطاهر بن جلون أركانة هذه السنة مناسبة التفتنا خلالها إلى أن حضوره في المشهد الثقافي العربي لايتجاوز جانب الكاتب السارد، فقررنا أن نعمل على إصدار منتخبات من شعره باللغة العربية أنجزها زميلنا الناقد و الباحث خالد بلقاسم، مع تقديم عميق باذخ. وهو إصدار يتزامن مع حفل الجائزة ويواكبه ويزيد من رمزيته. و لأن للشعر غوايته، دوما، فقد كان سرورنا كبيرا حين استجابت فرقة ناس الغيوان، مشكورة، لتضيء احتفاءنا بصديقها القديم الطاهر بن جلون. شكرا جزيلا لكل من يدفع بهذا التقليد الجميل بعيدا نحو تحقيق الرسوخ و النجاح، وفي مقدمتهم شريكانا وزارة الثقافة ومؤسسة الرعاية لصندوق الإيداع و التدبير... شكرا لإدارة مسرح محمد الخامس على استضافتها الكريمة... شكرا للجنة تحكيم الجائزة التي حرصنا على أن تمثل وجوه الشعر والنقد والفن والإعلام ببلادنا... شكرا لوجوه الكفاح الوطني، والسياسة، والثقافة، والفن، والإعلام على حضورهم المعبر... شكرا لبهائكم جميعا... شكرا لبهاء الشعر...