إذا كان لا تكليف إلاّ بشرط العقل كما قال علماء الأصول، فذلك لأنّ بالعقل يميز الإنسان بين الخير والشر، والحق والباطل، والنافع والضار، والمصلحة والمفسدة، والصدق والكذب؛ ولذلك عندما جعل الإسلام التكليف بشرط العقل احترم هذه الموهبة الإلهية التي منحها الله تعالى لعباده، وجعلها مناط التكليف، ومدار الاجتهاد، وعماد الفهم والتفهيم، وجند الإنسان في مقاومة الهَوى والتّسويل، وميدان التكريم والتفضيل، إذ على قدر صحة العقول وصوابها، وتمييزها وجودتها، تكون درجات التقوى ومقامات الإيمان والإحسان، التي تتفاوت فيها منازل العقلاء، وينالون من الكرم والفضل بحسب ذلك. ولما كان الإنسان مزودا بعقل يمكنه أن يميز به بين تلك الأضداد، وهبه الله سبحانه إرادة واختيارا يكون له بهما حرية واسعة المجال، فسيحة الميدان، يمكن للإنسان أن يختار عند تمتعه بها الطريق الذي يسلكه في هذه الحياة، وأن يبحث بفضلها عن الحق، ويطلب الحقيقة، ويسعى إلى التمسك بها في حياته والعمل بمقتضاها في دنياه. قال الله سبحانه: (إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً) (1)، وقال: (وقل الحق من ربكم فمَن شاء فليومن ومن شاء فليكفر) (2)، وقال: (وهديناه النجدين) (3)، وقال: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها؟!) (4)، وقال: (قُل كُل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا) (5) وقال: (إنها لإحدى الكبر نذيرا للبشر لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر، كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر ) (6). وبما أن الإنسان قد خلق حرا، فالإسلام يكفل حريته بغض النظر عن دينه وجنسه ولغته.... إلا إذا حارب الدين الحق، وسعى في الأرض فسادا. ومن مشمولات هذه الحرية الإنسانية العامة المطلقة حرية التدين وذلك ما أشارت إليه الآية الكريمة: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي. فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها. والله سميع عليم)(7)، وقد التزم المسلمون بهذا التعليم الإلهي، الذي يضمن حرية التدين لكل إنسان، على مدى تاريخهم، حتى ضرب بهم المثل من حيث احترام عقائد الآخرين، وكفالة حريتهم الدينية، وضمان ممارستهم لطقوسهم وشعائرهم في دار الإسلام نفسها. لقد أثار هذا السلوك الحضاري، وهذا الاحترام لعقل وحرية وكرامة الإنسان من حيث هو إنسان إعجاب العديد من المستشرقين. فالحضارة الإسلامية لم تتعرض لمعابد غير المسلمين من يهود ونصارى ومجوس بالهدم، وهذه ميزة عظيمة من ميزات هذه الحضارة، لقد كتب الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل إيليا عهدا يؤمنهم فيه على أنفسهم وكنائسهم وصلبانهم لاتسكن كنائسهم ولاتهدم ولاينتقص منها ولا من حيزها ولا من صليبهم. يقول المستشرق ليفي بروفنسال في كتابه «إسبانيا الإسلامية»(9) «إن المستعربين وهم الذميون كان يحكم بينهم قاضٍ خاص هو قاضي النصارى أو قاضي العجم» وقال المستشرق آدم ميتز: «لقد كان وجود النصارى بين المسلمين سببا لظهور مبادئ التسامح التي نادى بها المصلحون المحدثون، فكانت الحاجة إلى المعيشة المشتركة وما ينبغي أن يكون فيها من رفق. مما أوجد من أول الأمر نوعا من التسامح الذي لم يكن معروفا في أوربا في العصور الوسطى. ومظهر هذا التسامح نشوء علم مقارنة الأديان أي دراسة الملل والنحل على اختلافها والإقبال على هذا العلم بشغف». وقال ول ديورانت: «لقد كان أهل الذمة المسيحيون والزرادشتيون واليهود والصائبون يستمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح لانجد لها نظيرا في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فقد كانوا أحراراً في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم.. وأصبح اليهود يتمتعون بكامل الحرّية في حياتهم وفي ممارسة شعائر دينهم في بيت المقدس، وأثروا كثيرا في ظل الإسلام في آسية ومصر وإسبانيا، كما لم يثروا من قبل تحت حكم المسيحيين. وكان المسيحيون في بلاد آسية الغربية خارج حدود الجزيرة العربية يمارسون شعائر دينهم بكامل الحرية، وبقيت الكثرة الغالبة من أهل بلاد الشام مسيحية حتى القرن الثالث الإسلامي..» (11). هذه بعض شهادات المستشرقين حول احترام الإسلام لحرّية التديّن وإقراره لحق الاختيار. والحقيقة أنّ هذا المبدأ الإسلامي الحضاري الإنساني الذي يكفل لكل إنسان حرّية اختيار دينه، وممارسة شعائره كان ولايزال من أعظم أسباب دخول الناس أفواجا في هذا الدّين الخاتم، فضلاً عن أنّه يزيد الذين آمنوا إيمانا. وذلك أنّ بشاشة الإيمان إذا خالطت قلباً، لم يبغ صاحبه عن الإسلام بديلاً، وأمّا غير المسلمين فعندما يرون أنَّ هذا الدين يقوم على العقل، والاقتناع، والحجة والبرهان، لا على الإكراه والإجبار، أو الإغراء واستغلال حاجات الضّعفاء والمرضى، فإنّهم يسارعون إلى دراسته، والبحث في مصادره التّشريعية، فيدرسون القرآن الكريم والسنّة الشّريفة، وتاريخ المسلمين وحضارتهم ويقارنون الإسلام بغيره من الأديان فتنفتح عقولهم على حقائقه ومعجزاته ومقاصده ومكارمه، كما تتفتّح قلوبهم لاستقبال نوره، فيبادرون إلى إعلان إسلامهم، والنطق بالشهادتيْن، والعمل بتعاليم الإسلام. فالحرّية الدينية - من منطلق إسلامي - بابٌ عظيم إلى الهداية، وإلى الإيمان المبني على الاقتناع، والاستدلال بالعقل، والمنطق، ودلائل الإعجاز، وبراهين المعجزات، وحجج العلم الحديث. ولذلك فلاعجب أن يزداد عدد المسلمين الجدد في أمريكا وأوروبا وآسيا وإفريقيا وأستراليا لما يرونه من مخاطبة الإسلام العقل، والفطرة، واحترامه الحرّية الإنسانية ومن ضمنها حرّية التديّن، لأن الإيمان يقوم على العلم، وإكراه الناس على الدّين، لايسمح لهم بطلب العلم الدّال على الإيمان، فيكون إيمانهم - في ظروف الإكراه - كاذباً، أو مذبذباً، بخلاف من اقتنع عقله بأدلّة العلم، وانشرح صدره ببراهين العقل، وانفتح قلبه لنور الوحي، وذلك بفضل استعماله حرية تديّنه استعمالاً صحيحاً، بطلب الحق، والحقيقة، ولاشيء غير الحق والحقيقة ثم العمل بمقتضى ذلك. وهذه هي خلاصة دعوة الإسلام: «قُل إنَّما أعظكم بواحدة، أن تقُوموا لله مثنى وفُرادَى ثم تتفكروا. ما بصاحبكم من جنّة إنْ هو إلاّ نذيرٌ لكُم بين يدَي عذابٍ شديد» (12). فدعوة الإسلام إلى التفكر أي إلى استخدام العقل، وتوجيه النظر والفكر إلى استنباط الحقيقة، واستنتاج الحق. وهذا لايتمّ إلاّ بالحرّية. أجل إنّ لواء الحرية في الإسلام يحمله أولو الألباب. وبقدر ما يتسع مجال الحرّية الفكرية بقدر ما يصلُ الإنسان إلى الحقائق بواسطة المنهج العلمي والاقتناع والدّليل. مما يُنافي التّقليد والإكراه والحجر على العقل الإنساني. إنّ الإكراه يحجب الحقيقة، بينما الحرّية تكشفها. ولذلك كان المقتنعون بالإسلام مؤمنين أحراراً، وعقلاء أبراراً. هوامش: 1) سورة الإنسان: 3. 2) سورة الكهف: 29. 3) سورة البلد: 10 4) سورة الحج: 44. 5) سورة الإسراء: 85. 6) سورة المدثر: 35 42 . 7) سورة البقرة: 256 . 8) ينظر «تاريخ الأمم والملوك» للطبري 609/3. 9) ترجمة عبد الرؤوف اليمني 192/1. 10) الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، آدم ميتز، تعريب محمد عبد الهادي أبي ريدة ص 75 دار الكتاب العربي بيروت 1967. 11) قصة الحضارة، وال ديورانت 132/13ترجمة محمد بدران. الهيئة المصرية العامة للكتاب 2001. 12) سورة سبأ: 46.