أول افتتاحية في الموسم الثقافي الجديد، منشورة في ملحق "العلم الثقافي" ليوم الخميس 12 شتنبر 2024. يتجاوز الدُّخول السِّياسي حتى لا أقول الثقافي، كل الأظْرِفة بما فيها ظرْفَا الزمان والمكان، وأوْسع الأظْرِفة بأفواهها المفتوحة، تلك التي ينْعقِد برلمانها الآن في كل بيت، لمناقشة ميزانية الدُّخول المدرسي بصِفْر درهم، ومن أين للأُسَر المغربية الفقيرة في سوادها الأعْتَم، القُوّة لمواجهة أبسط مُتطلّبات العيش الكريم، صحيح أنَّ الأزمة عالمية، ولكن في الدول التي تضع قيمة الإنسان فوق كل اعتبار، لا تني تجد الحُلول الاقتصادية السّريعة حتى لا يختلَّ التوازن بين الأجور وغلاء الأسعار، أمّا عندنا فأغلب الأطياف السياسية أو النقابية، رفعت اليد مُتنصِّلة من واجبها أو ضميرها في الدفاع عن حقوق المواطن، ألم تَرَ كيف هضَم الجشع مُكْتسبات الشّعب في الدّعْم الاجتماعي المعقول، عندنا عليك أنْ تكون ظريفاً مع الأظرفة حين ينقلب الصيف خريفاً، أن تتوفر على حَدْس الخِرْفان، لِتطْفو مع السُّيول كالتي انفجرت في طاطا بطوفان، عندنا عليك أنْ تغمض عيناً على أشياء وتفتحها على أخرى لترى أوضح، أنْ تخْرس وتقفز كالقرد على أكثر من حبْل دون أنْ تدُقَّ الجرس ! نعودُ للقلم ملاذنا الأوّل والأخير، مُسْتعيرين ما أسْقطتْهُ الرِّياحُ من أوْراق الشّجر، لِنكْتبَ فصلاً أو موسماً ثقافياً جديداً، فنحن لا نمْلكُ إلا أنْ نُحاكي الخريف في نبْرته الذّابلة، لا نمْلكُ إلا فكرةً تولدُ من وجودٍ أو عَدمٍ دون رحِمٍ أو قابلة، لا نمْلكُ إلا هذا الخريف.. خريفنا الطويل والموجع، ذاك الذي امتدَّ قروناً تنُوء رؤوسنا بأغصانها كالأيائل، ألم تَرَ كيف فقدْنا كُل الفصول ومعها الأثر والمَرْجِع ! نعود إلى الكلمة في طقس باتَ يفْقِدُ براءته كلّما لاح قوْس قزح في الأفق، مُوقِنين أنَّ أقلامنا اتخذت هيئةً تُشبه فُوَهات البنادق، فلا نُصوِّبُها إلا إلى بعضنا البعض عسانا نُفرغ شُحْنة اليأس والإحباط، يا للفريسة حين تصبح في ذات الطَّلْقة هي الصيّاد، لذلك ربما قال بودلير في مواجهة مثل هذا المرض البشري الخطير: "أنا الجرح والسكين، أنا الضّحية والجلّاد، أنا عدوُّ نفسي"، وكأننا نصنع عِوض النّجاح فشلا جماعياً، ولا عجب، فنحن في قومٍ يؤيِّدون مَقُولات مسْمومة من قبيل البلوى إذا عمّتْ هانتْ، يؤيِّدون الأنين ويستلِذُّون بعذابات الآخرين حتّى في الطَّرب! أمّا الأدب، فما عاد يُنبِتُ إلا الجَزَر البُرتقالي والمُعدّل وراثياً الأخضر والأصفر، وذلك بعد أنْ عجَّ الحقل على امتداد مسافات طويلة أو قصيرة، بجوائز مشْبُوهة تُسِيلُ لُعاب الأرانب! أمّا الفلسفة فقد أُطْفِئتْ عنوةً مصابيحها في حُجُرات الدَّرس، لا يُريدون جيلا يحْمل في العقل شُعلةً موقوتة تُسمّى التفكير، يعيش فقط كالبهيمة، وأقصى خياله لا يتجاوز علّافة تصِلُ بمقدارٍ بين العُنق والبطْن، والأدْهى أن بعض فلاسفتنا قد انكفأوا ببلاهة العقل المُفْلِس، في نُخْبوية فجّةٍ ومريضة بتضخُّم الذات على فراغ، فانخرطوا في مفاهيم مُسْتوردة لا يفْهمُها أحد، فَهُم في وادٍ يلعبون مع باقي الأولاد، والمجتمع بصرخته المُجلْجِلة، في وادٍ آخر تتخبّطه الهموم دون بوصلة، يا لبُؤس هؤلاء الفلاسفة، فقد بلغوا في الخُنوع لأفْكار جاهزة على المقاس، درجةً جعلتهم يَقْبَلون عن طِيبِ أو جيْب خاطر، الاصْطفاف في طوابير أمام مؤسّسة تُعيد ال "تَّكْوين"، حقّاً ثمة مَنْ يحْمل القلب، رابِط الجأش في مواقف تخصُّ البشرية مثل سُور منيع، وثمّة من يَحْمِله القَالَب ولا يستطيع أنْ يرْبط حتّى الجحْش، لِيغْدو مُجرّد صنم ناطقٍ باسم القطيع ! نعُود إلى أقلامنا.. فهل تعود إليْنا وتُسْعِف بِكلمةٍ صادقة، أم أنّ هذه الأقلام المُقتلعة من جذور، سَتُوثر العودة إلى مكانها الأصلي في الأشجار مع باقي الأغصان، على الأقل حَقُّ التَّعبير هناك في عالم الوحيش مَكْفولٌ بِقُوة الطّبيعة، لا أحد يستطيع مَنْع غُصْن شَحَذَتْهُ عوادي المناخ، مِنْ أنْ يُصبِح سهْماً يُصيبُ الطغيان في مَقْتَلْ !