بيت الحكمة تطرقت في الجزء الأول إلى مشكلات الترجمة التي تناولها كمال أبوديب وبسط موقفه منها. يتعلق الأمر بمشكلة المصطلح النقدي أو الأدبي أو الاجتماعي أو السياسي أو العلمي، ومشكلة طاقة اللغة على تمثيل النص المترجم دقة وإيجازا واطرادا ومشكلة صلاحية المصطلح أو المقابل العربي للدخول في علاقات تنظيمية متغيرة (كما يفعل المصطلح الأجنبي الذي نحاول ترجمته، والتشكل ضمن علاقات تترك أثرها على بنيته المورفولوجية)، ومشكلة «الدلالة الصيغية»؛ أي الدلالة الإضافية التي تنبع من تغير صيغة الكلمة المورفولوجية إما عن طريق اللاصقات البدئية أو النهائية. إن طرح المشكلات «التقنية» للترجمة إلى العربية لم يعف كمال أبوديب من طرح تصوره للترجمة، كما يفهمها ويمارسها فعلا. ذلك أن حل تلك المشكلات هو جزء من التصور العام الذي يحمله ويطرحه عن الترجمة. من ثمة، لا يتردد في القول إن الترجمة في معظم نماذجها الشائعة والتي أتيح له أن يراجعها (صدر الكتاب في طبعته الأولى سنة 1981 عن مؤسسة الأبحاث العربية) هي «صب لما يفهمه المترجم من نص ما على صعيد بنيته الدلالية المباشرة في قالب مسبق هو العربية». أما طموح الترجمة التي يمارسها أبوديب فهو أن «تجسد ما تستطيعه من بنية الفكر المنشئ أولا، وأن تسهم في توسيع بنية اللغة التي أترجم إليها ثانيا». ومرد ذلك إلى الحاجة إلى توسيع بنية اللغة العربية القائمة وتمديدها وإغنائها وتقوية طاقاتها. وهذا ما يجعل المترجم يحدد علاقته بالكتاب المترجم والكاتب المترجم له، وبالتالي يحدد تعريفه لمهمة المترجم. كتب في فقرة رائعة من المقدمة (مقدمة المترجم): «ذلك أن النص الممثل تجسيد لفكر، لطريقة في معاينة العالم والتعامل مع اللغة، لبنية فكرية ثقافية تتحدد فيها فاعلية بنية اللغة بفاعلية العقل الفردي المبدع (في هذه الحالة اللغة الانجليزية وعقل إدوار سعيد). وفي تصوري إن مهمة المترجم هي؛ أو ينبغي أن تكون تمثيل حصيلة الفاعليتين (أي النص) في اللغة التي ينقل إليها». ويبدو أن كمال أبوديب يحمل تصورا ثوريا للغة العربية، فيما يظل أسير المنظور الميتافيزيقي للترجمة. فهو ينطلق من مفاهيم الأصل والأمانة والنقل والهوية والاكتمال والنقاء.. في علاقته بالنص المترجم. بالمقابل، لا يتردد في الدعوة إلى الجرأة والابتكار والمغامرة في علاقته باللغة العربية «المنقول إليها». هكذا، لا يكون الهدف هو تثوير اللغة العربية، وإنما الحرص ما أمكن على عدم «خيانة الأصل». وهذا ما يظهر بشكل واضح جدا في قوله: «أنا قادر على كتابة «الاستشراق» بطريقة مخالفة لطريقة إدوار سعيد. لكن الإنشاء (الخطاب) الناتج سيكون إنشائي، لا إنشاءه. والبنية الممثلة ستكون بنية تجسد حصيلة تفاعل عقلي خالص مع بنية اللغة العربية؛ أي نصي سيكون نصا آخر، وذلك ليس نقلا أو ترجمة». هنا مربط فرس الميتافيزيقا: الترجمة نقل لفكر ولخطاب آخر له «مالكه الشرعي» هو المؤلف، وذات المترجم لا علاقة ولا دخل لها في الموضوع، أي أن النص المترجم «يعبر عن رأي كاتبه لا عن رأي مترجمه». هل هذا صحيح؟. كل القرائن والتجارب تؤكد محدودية هذا التصور الميتافيزيقي وتبرز كيف تكون الترجمة إبداعا وإعادة تأويل لا متناهية... كما أوضحت غير ما مرة. في كل الأحوال، لا يسع القارئ العربي إلا أن يشكر هذا المترجم الكبير على الجهد الذي بذله في ترجمة إدوار سعيد، وخاصة كتاب «الثقافة والإمبريالية» وكتاب «الإستشراق» الذي يبقى أحد أهم كتب البشرية في القرن العشرين. شكرا كمال أبوديب وشكرا للسيد صلاح حويلة. من هو صلاح حويلة؟. ترجم كتاب «الإستشراق» إلى العربية بفضل منحة من هذا السيد/الإسم العابر. وهذه إشارة عابرة في بداية الكتاب قد لا ينتبه إليها أحد.