هل يحصل معك مثل هذا؟ تخلد يوما إلى نفسك ويدور بك المقام،وأنت تستنزف وقتك، لحظة شاردة متكررة في دوامة صغيرة،لفكرة مائعة تتمدد في اتجاه اللامعنى..أقصد تعود منها كما لو كنت تنظر إلى نقطة ماء لا لون لها.. هل تصدق أن يكون هناك شيء ما _لا معنى له؟؟ يذهب بي الشرود أحيانا إلى مداهمة دروب لا متناهية من التفكير ثم لا أفتئ أعود إلى لحظة اليقظة كأن ما كان مني ضرب من نعاس أو حلم كبير. في تلك اللحظة وقف "عمو" الشيخ الكبير المسن ."عمو" الذي كان ينهانا عن مطاردة الصبيات. ونحن _نتوق للإمساك بذيول أشعرهن ،وهن ترفرفن _في قهقهات_ في كل مكان وعلى كل اتجاه كالفراشات في شتات.. امتداد ساحر. هو المكان يغيظني كما يغيظ الكفار نبات الزرع. أركان وبروج لسنين عددا، القصر الذي أمامي عليه وشوم من طين يقف "عمو" في شموخه العفيف، سلهام متوج بعمامة بيضاء ونعلين من جلد الجاموس، كثيرا ما يتخلص منهما فيمشي حافي القدمين، لأن تراب القرية كان طاهرا أو يلقي بسلهامه على الأرض،ويجلس متكئ على مرفقه،ويتنقل على ظلال اليوم من واحد لآخر من الجدار الشرقي مرورا بفيء الأثالة وانتهاء بظل العتبة،حيث ينتهي به المصير الى حافة المائدة أين يسد رمقه، هكذا على مدار الشمس إلى أن يؤذن لصلاة العصر . كان "عمو" لا يصبحني إلا لماما في رحلته اليومية إلى الغاب/ عشية يأخذ الحصان البني؟ يأخذه مجردا من صهوته،يفك قيده فيلقي _مسحا بيده_ يمتد من المقدمة فإلى الظهر وينتهي بمؤخرة الجواد، ويبدأ يربت إلى أن يومئ الحصان مؤذنا بمعرفة صاحبه بصهيل أصيل، يخرجني "عمو" معه إلى الغاب ويركبني من خلفه والجواد يمشي، و أنا أصر أن أركب في الأمام،بعد معركة أحصل على مقامي الأمامي ويقول لي_ وهو يرخي لي اللجام_ إن الخيل تعرف الطريق تلقاء، وتحافظ على سلامة راكبها، لكنه استثنى الحمير.. كنت أعشق الخروج إلى فضاءات النخيل،تتداخل جرائدها متعانقة لبعضها في حنو وحبور، مرغت عيني في أهداب شمس ذاك المساء،لكن الحكمة كانت قاسية ،أدركتها على صغري من فم "عمو". فأصبحت أضرب ألف حساب لحمار كان لنا،على ما أطعمته من حشيش وما أرويته من ماء البئر،كثيرا ما ينتهز فرصة صغري ويلقي بي أرضا أو يرجمني بركل أليم، ثم يعود كالمجوسي للاستعطاف،ويحفني بنفير متحسسا بي كلما أحس من جوفه ألم الجوع،فتأخذني به رأفة كعادتي،وما إن يشبع حتى يعود إلى فعله الحقير.ركلا بي في عشوائية لا نظير لها فأخرج من تسلطه بسيول من دماء. كانت الشمس لم تنه انكساراتها المبهرة ، وكانت الحقول تبدو على تمادي ظلال النخيل كفردوس هاجمه المساء،وأنا أتعلم الحش المغرق،على يدي آلة تدعى "المحشة" صاغها لي "عمو" عند الحداد لتناسبني حجما وقدًّا ،وكنت أحاذر أن أحش الزروع ،فإذا ما جذبت خصلة بها سنابل حذرني "عمو"،قائلا: هذي سنبلة يا بني فاعمل على تخليصها من طفيليات الحشيش،حذار أن يختلط عليك الأمر ثم يتبسم ،فأعلم أنه يريد مني ما يريد، هو يشير لي أن اربط الحمار في تلك النخلة لئلا يتمادى على زروع العباد يقول لي:خذ مسلكا لك من هنا حتى لا تهلك الحرث،أسرعْ أنا في انتظارك، ونصيبك من الحش لا يزال على ذمتك. آخذُ نصيبي من شخصيتي كعارف متأكد من حرفتي الصغيرة،وأعود إلى مبدأ الحش حيث كشفت عن عري مساحة متوسطة من الأرض،وأظهرُ ل"عمو" بين الفينة والأخرى مهارتي في تسوية الأرض وتصفيف أذرع الحشيش،وأراهن على أن أسبقه، لكنه رفقا بي يقلص هو من جهده ليترك لي فرصة امتلاك الريادة. ثم يختم ها قد سبقتني يا عفريت..ثم يتبسم كبر "عمو" في عيني وملأني محبة وودادا، حتى صرت لا أفارقه خطوة من حياتي،فقد علمني باللوح والصلصال مبادئ التهجي،وهو من يمسك بي دراجتي العارية في المسالك الوعرة،حتى أحتفظ بتوازني عليها،يمنحني الصمغ مقابل أن أقضي بعض مآربه، وكنت لا أعصى له أمرا. يحدث مرة في ذات عشية مملوءة بالبهاء،نسيت نفسي في متاهات اللعب مع الأقران،بعيدا عن الأسوار،وأنا في غفلة مع الصبايا والصبيات،نطارد بعضنا جريا في الحقول حتى إذا تخلصنا من التعب بدأت الصبيات ترصعن عرائسهن بالأثواب والزينة ويعدن لأنفسهن بيوتا وهمية أسوة بالنساء على أن يتولى الذكور أدوار الأزواج. كان يكفي لتكون لي دارا أن أحوط ركاما من الرمل على شكل مستطيل،وأترك فراغا صغيرا يمثل عتبة الدار ثم أقيم الزواج على سنة البراءة بإحدى الصبيات التي تتقبل الأمر على مضض وبكثير من الحياء والتردد،ثم يبدأ الحوار في مسرح غريب الأطوار، - اشتر لنا لحما الضيوف سيدركوننا هذا المساء. - سأمتثل لأمرك سيدتي لدينا اليوم ما يكفي من مال ..مرحبا بهم.. ثم تبدأ بنا رحلة الأحاجي وقص الحكايات ،كانت قصة الغول أول مطلبنا،يتولى سردها واحد يكبرنا سنا،يدخلنا في متاهات ودهاليز غريبة فنلتف ذودا لبعضنا خوفا من الغول،كان الغول بالنسبة لي شخصا يتخفى تحت إزار اسود ويتولى انتهاز فرصة التهام الصغار،كأنه آت من السماء يطير إلي فيختطفني من حِجْر أمي.فأصرخ ولا أجد من يغيثني فأحس بفقدان الأمان.. وأنا قابع مع الذراري ،أبني صروحا من الأوهام،الدروب تتوالى في مخيلتي، والأغوال تطير بأجنحتها السوداء،والساحرات الماهرات اللاتي تَحُكْن ألواح الفضة والذهب فتخرج العفاريت من خباياها شاقة جزء من دماغي الصغير،وألسنة النيران الحمراء والخضراء وبكل لون عجيب، والجنية التي سلبت أحد رجالات الإنس فمكث عندها سنين عددا،ويختلط كثير من البهاء في الحكي برعب يمتد لي، فأمسك بجلباب جليسي،فيغلب علي التيه في متاهات لا يرجو المرء/المستمع الخروج منها،الأبواب بحجم السماء والصرخات من أفواه العملاق الذي يده يسكنها الآلاف فيقضي في جيبه قوم بحجم قرية يأكلون ويشربون والدواب والجفان والانعام...و "عمو" يملأ فضاء القصر صراخا مناديا علي:محبوب ..وا محبوب.. تحرك هز عنيف بداخلي فأدركت العتبة جريا على الأقدام،مداهما كل من في طريقي.. فوجدت بعضا من أترابي في جوقة قالوا لي دفعة واحدة: "يا ما بقي عمو يصرخ لندائك، صرخ حتى جفت حنجرته " لقد توعدك بضرب أليم..