قرأتُ في أحد المنابر الرقمية مقالا، حزَّ في نفسِ كاتِبِه أن يُصادِف نصَّيْن قَصَصِيْن شديديْ التشابه، لدرجة أنّه شكَّ في أن يكون أحدُهُما "مسروقٌ" أدبياً من أخيه. وعلى الرغم من أن كاتب المقال (وهو قارئ متميّزٌ وحذر)، قد قدّم لقارئه "القرائن" الأدبية والفنّية التي أجبرتْه على طرح سؤال "السرقة الأدبية"؛ إلا أنّنا نؤاخذه بكامل المحبّة الأدبية، عن كونِه لم يقدّم لنا "قرينتين" اثنتين، كان من الممكن أن تدعما طرحَه إلى حدود الإقناع التام: أوّلا: لم يُشر الكاتب في مقاله إلى الزمن التي كُتبتْ فيه كلُّ قصة. ثانيا: لم يشِر إلى حضور أو غياب علاقة تعارف بين كاتبيْ القصتين. ذلك، لأن "السبْق الزمني" قد يفيدُ اعتماد كاتب لاحق النقلَ عن كاتب سابق، ولأن حدوث التعارف بين كاتبين وحصول "الصداقة" بينهما، وبحكم مناقشتهما للأمور القصصية، قد يدفعُ كلَّ واحدِ منهما إلى كتابة قصّة قصيرة يعتقدُ أنّه مبدِعُها، فيظهر للقرّاء، ذلك التشابه المحيّر... إنّنا لا نعتقد، أنَّ الأديب (أيّ أديب يريد لنفسِه هذه الصفة) يرغبُ في المخاطرة بسمعتِه الأدبية من خلال سرقة أعمال غيره؛ ولكن "التشابه" الأدبي والفنّي، قد يحدث. وبسبب هذه الإشكالية، رغبنا في تقديم بعض الأفكار حول ما يُسمّيه النقّاد ب"التناص"، وما نسمّيه ب"التلاصّ" (من لصَّ، يلِصُّ، واللصوصية). ولكيْ لا يقعَ أيُّ أديب، وتخصيصاً؛ الأدباء الشباب (وحتى الأشخاص الذين قررواْ حمل بيرق الأدب وقد جاوزوا ما اصطلح عليه ب"سن الشباب")، سنتكلّم عن الحدود الفاصلة بين "التناص" و"التلاص". التناص في مفهومنا الأدبي النقدي؛ هو تقاطع بعض النصوص الأدبية (والفنّية) إلى حدّ أنّ نصّا، أو عملا فنِّياً/ يذكِّرُنا بآخر. وهذه حالة حادثة ومعروفة في الشعر، والقصة، والرواية، والسينما، والمسرح... أمّا "التلاصُّ"، فهو أن يأخذ (أديبٌ) أو (فنّان) عمل غيره، ويُجري عليه بعض التعديلات البسيطة، ثم يدّعي أنّه عملُه، وهو يعلمُ أنّه، لم يبذل أيّ جهد إبداعي. بعضُ "التلاصّ" يسمّيه بعضُ المسرحيين "اقتباساً"، ويجْنون منه المال، والشهرة، ولا يطرف لهم جفنُ الحياء. ويحدث في السينما العربية الأمر نفسُه، من دون أن يسمّي "المخرجُ" (عملَه) السينمائي، لا تناصّاً، ولا اقتباسا. ولقد رأينا أفلاما عربية مستنسخةً بشكل رديء عن أفلام أمريكية، ولا نعرف هل اشترى (المخرجُ المستنسخ حقوق الاستنساخ) أم (قام بكلّ بساطة بسرقة فنّية). "العنوان"؛ عنوان العمل الأدبي أو الفنّي، لا يمكنُ بأيّ حال من الأحوال أن يشكِّل دليلا على وقوع "التلاصّ"؛ إذ نجد أعمالا تحمل نفس العنوان، ولا علاقة بين مضامينها. نجد في مئات آلاف (إن لم نقل الملايين) النصوص التي تتكلّم عن نفس "التيمة" أو الموضوع من دون أن يخطر ببالنا أيّ تناص. فالتيمة الأكثر شهرة، والأكثر استعمالا في مجالات الأدب والفنون، هي تيمة "الحب"، ومع أنها تُعنى بتلك العاطفة النبيلة الحادثة في الغالب بين رجل وامرأة، إلا أنّ المبدعين عالجوها بأشكال عديدة ومتنوعة جدّا؛ حتى أنّنا لا نملُ من قراءة مئات الروايات والأشعار ومشاهدة مئات الأفلام. تيمات أخرى استأثرها المبدعون ومنها: الشجاعة، الغيرة القاتلة، المنفى، الأنانية المرضية،الأرض، الظلم، الجريمة، الانتقام، الموت، العنصرية، الشيخوخة، الفقر، الطموح... عند حدّ التيمة المشتركة، لا يمكن بأيّ حال التحدث عن "السرقة الأدبية". تأتي "الفكرة" فكرة القصة، الرواية، القصيدة، الفيلم، المسرحية... وهي عندما تُصاغُ وتُكتبُ بخط اليد أو الآلة تشكّلُ وثيقة مرجعية حول العمل الأدبي أو الفني؛ مثال ذلك:[أخوان يقعان في غرام نفس الفتاة الجميلة الثرية، الأول ترقى اجتماعيا بطرق غير مشروعة، والثاني، التزم بالأخلاق النبيلة وعاش فقيرا...من منهما سيمتلك قلب الفتاة؟] كثير من النصوص عالج هذه الفكرة بالذات، ومع ذلك، ظهرت للقراء والمشاهدين كأعمال رائعة أو جميلة أو جيِّدة؛ من دون أن تجعل الناقدَ يفكر في "التلاصّ"، أو تجعل المتلقي يشعر بأنها أعمال منقولة عن غيرها ، مكررة، ورخيصة. لذلك، نرى أنّ "الفكرة" المشتركة، لا يمكن الاعتماد عليها لتبرير حكم "السرقة الأدبية أو الفنية". تأتي "القصة"، قصة القصة، الرواية، الفيلم، المسرحية... وهي تصاغ بعدد وافر من الكلمات، وترسم الخط أو الخطوط الأساسية لتطور الأحداث، مع ذكر الشخوص، وبعض مميزاتهم الجسمية، النفسية، الفكرية، و الاجتماعية؛ ومحاور الصراع. عندما تتشابه "القصة"؛ يبدأ الشكّ؛ ويصير الناقد ملزماً بالبحث الشاق، المتأنّي، والحذر، قبل أن يصدر حكمه عن العمل الذي بين يديه بأنه "سرقة". في هذا المستوى، ننصح المبدعين الشباب والمبتدئين، بتحديد "التيمة" التي سيشتغلون عليها، ثم صياغة " الفكرة"، ثم الرجوع إلى أكبر عدد من النصوص التي عالجت ما هم مقدمون على معالجته، وتأمل " قصة" تلك الأعمال، فإذا وجدوا "قصة" واحدة مشابهة ل"قصة" عملهم، فليتراجعوا. لدينا نموذجٌ لكاتب عربي، يظهر أنّه "تأثّر" بشكل عميق برواية (مائة عام من العزلة) ل(غارسيا ماكيز)، فجاءت "روايتُه" كنسخة رديئة ومضحكة للرواية الخالدة، والتي تأثرنا بها جميعا من دون أن ننتحِلَ فكرتَها وقصّتَها. تأتي "الحبكة"، وهي ذلك النسيج الخفي الذي نسج عليه المبدع جميع العناصر التي تجعل من النص يبلغ أهدافه: الشخوص بمميزاتهم، الأمكنة، الأزمنة، الأحداث، الوصف، الأسلوب... هنا تتأكد "السرقة". تتأكد "السرقة" ولو أخفاها السارق في بعض التمويهات من قبيل: استبدال اسم "كاترين" ب"فاطمة"، عاهة "الصمم" بعاهة "العمى"، "بغداد" ب"مراكش"، القرن 15 بالقرن 20 ، استخدام "... وكان فمُها مثل حبّة كرز" نَسْخاً عن "... وكانتْ عينُها تشبهُ عين سمكة مقلية"... لكن ماذا عن "التقليد"؟ هل يمكن اعتبارُه "سرقة أدبية" و"تلاصّاً"؟ إن أي أديب أو فنان مبتدئ، واقعٌ تحت تأثير الإعجاب بالكتاب الكبار والعظماء، فتراه، في مراحل الكتابة الأولى، يُقلّد أسلوب أساتذتِه، ويعالجُ نفس التيمة التي عالجوها وتأثر بها كثيرا، وينطلِقُ من نفس الفكرة التي انطلقوا منها واستهوته. إنّنا نتفهّمُ "التقليد" الشبابي، ونحترمُه لأن التجربة بيّنتْ لنا أنّ "التلميذ" (بعد أن يشتدَّ عودُه، ويعرف نفسه، ويتحرّر من سلطة الأقدمين) قادرٌ على تجاوز "أستاذه"؛ مع حفظ قيمة أعمال الأساتذة. يبقى "الأسلوب" الذي أساسُه، طريقة الكتابة وشكلُها؛ طول أو قصر الجملة، الاستطرادات، التقنيات السردية،القاموس اللغوي المعتمد... هل تشابه "الأسلوب" دليل على "السرقة الأدبية"؟ إنّ "الأسلوب" في نظرنا؛ هو "الهندام" الذي يتهندمُ به النص؛ مثل اللباس الذي يرتديه الشخص. فهل مشاهدتُنا لشخصين يرتديان ملابس متشابهة، يسمح لنا بالقول: إنّهما نفس الشخص؟ أو أنّ أحدَهُما، سرق طريقة لباس الآخر؟ وحتى لو تأثر شخصٌ بطريقة لباس شخص آخر، فهل هذا التأثر يمحي كلّياً الشخصية المتفرّدة لأحدِهما أو لكليهما؟ للموضوع بقيّة؛ وإنّا نأمل من القراء الكرام أن يساهمواْ فيه بالإضافة والنقد البناء، درءً لأيّة أحكام قاسية في حق بعض النصوص، وتحصيناً للناشئة الأدبية والفنية.