ثلاثة مشاهد ساحرة لفتت نظري في نهاية مسرحية (الزْمان) لمخرجتها أسماء هوري، خلال عرضها الثالث بمسرح بنمسيك بالدارالبيضاء مساء آخر يوم سبت من رمضان 2023. المشهد الأول: داخل قاعة العرض الكبيرة، كان من ضمن المتفرجين أطفال دون العاشرة من أعمارهم أو فوقها بقليل، جاؤوا برفقة أمهاتهم وآبائهم. كانت ضحكاتهم الجميلة والمتقطعة، في الربع ساعة الأخيرة، وسط صمت شامل إلا من مقاطع موسيقية متنوعة تعكس الحالات الاجتماعية والنفسية والثقافية للمشاهدين والمشخصين. ضحكاتهم المجلجلة تعلو فوق صرامة المتفرجين الآخرين الذين يتابعون مسرحية تتكلم بلا كلام، فقط بالجسد والرقص والحركات الفعلية. المشهد الثاني: مشهد مركب من عناصرمتنوعة مضفورة بجمال رائق. فوق الخشبة وفي نهاية المسرحية، طنين نحلة، أو ما شابهها، يعلو ويخفت لينتهي بضحك يطلع من أقصى درجات البهجة للمُشخصين، بعدما لم يستطيعا التخلص من الطنين فقاوماه بضحك حقيقي كان خاتمة المسرحية، وبموازاة ذلك طلع صوت أم كلثوم في مقطع "سنين ومرت زيّ الثواني في حُبّك"، مع تصفيق حار، في نهاية المقطع، ألهبَ مشاعري لمّا وجدته مقطعا موسيقيا آخر أبدعته الجماهير ولم يلحنه بليغ حمدي. تصفيقات للست (أم كلثوم)، وأيضا في نقل استبدالي رمزي، للسيدة أسماء هوري وللسيدة الممثلة سليمة مومني وللأطفال الذين كانوا خلفي في الصف الثالث والرابع والسادس وما بعده. العنصر الأخير في هذا المشهد الثاني، اخترت الجلوس في الصف الثاني لاعتقادي أن الذين يجلسون في الصف الأول هم جزء من المسرحية أو امتداد لها. كان أمامي في الصف الأول ثلاثة متفرجين، أما الذي كنتُ خلفه مباشرة فهو معني بتصوير المسرحية وإذاعتها في بث مباشر، بينما التي كانت على يمينه وهي شابة في الواحدة والثلاثين من عمرها، بيضاء أو صفراء لأن لونها شاحب بعيون مُطفأة، ترتدي لباسا أسود اللون، فيما الذي على يساره شاب في الأربعين أو أكثر قليلا بلحية خفيفة وحذر لافت، وكلاهما، الفتاة ذات العيون المطفأة يمينا، والفتى الحذر يسارا، كل منهما مستغرق داخل عالمه في حوار على تطبيق التراسل الفوري . المشهد الثالث: حينما انتهت المسرحية بكل ذلك المزيج الذي ذكرتُ في المشهدين، وسط صوت أم كلثوم وهي تُمجّد العشق في مقطع تعلوه التصفيقات الساحرة، قمتُ دون شعور من مكاني مسحورا، مُلتفتا أريد مشاهدة الأطفال وقد راموا الصمت مندهشين، فأبصرتُ في الصف السابع، الفنان فتّاح النگادي، بنظارتيه السوداوتين، وقد وقف ممتلئا بالبهجة. مسرحية الزْمان، بتسكين حرف الزاي، من إعداد فرقة (الأقدام الحافية) وفريق تقني وفني من ممثليْن راقصيْن شخّصا العمل بحرفية عالية (سليمة مومني ووجدي گاگي ، وموسيقى رشيد البرومي وإضاءة رضا العبدلاوي ومحافظة كرم عمراوي وملابس أمينة بحراوي، ودراماتولوجيا وإخراج أسماء هوري). المسرحية في حدود ساعة تقريبا، ذات ديكور بسيط ولافت، سيستكمله وجدي وسليمة بالطباشير، وحينما رسما بابا سمعا طرقات متتالية عليه فلم يفتحا خوفا من أن يكون الطارق عطبا آخر من أعطاب الزمان. نفس الشيء مع الهاتف الذي ظل يرن والتلفزة التي امتلأت بكل الأخبار المقلقة فتخلصا منهما وعاشا لحظات في صراع صاخب مع النظافة واستبدال المواقف وشرب الشاي والقبلة المستحيلة التي ستارها العيش المر. تتالت مشاهد الزْمان وهو يُمرّغ الإنسان، ضمن بُعد جمالي أروع ما فيه أنه يمنح المتفرج صفاءً ومشاركة ليكتب نصه الذي يريد، وكأن فريق المسرحية وضع لنا إطارا من مشاهد وحركات ورموز ثم تركنا نملأها بالكلام الذي نراه ملائما لما في خاطرنا. – ماذا يوجد في ذلك الرأس الساخن ذي القسمات الإغريقية لأسماء هوري(قلتُ في نفسي). اختارت المخرجة أسماء طريقا صعبا في مسرحيتها (شأن باقي أعمالها السابقة) لا تنفصل فيه عن الفن كما أسست له التقاليد الكبرى، والمغامرات الحداثية المجددة وهي تتشابك مع راهن الواقع وأصوات المجتمع في تنوع موسيقاه وحركاته ومزاجه والأفكار وخلاصات المعرفة، تستخرج استيتيقَا مفتوحة لا تقف عند اللحظة وإنما تتجاوزها لتحيا في الزمن والزْمان. قبل أن ألتفتَ، وقد هزّتني تلك النهايات الساحرة، وأبصر فتاح النگادي، كنتُ مستغرقا في متابعة المسرحية، استرعى انتباهي المتفرج الشاب الحذر، الذي كان أمامي بالصف الأول، على اليسار، وهو منشغل منذ بداية المسرحية في التراسل الفوري. ولأنني في مسرح فقد أجزتُ لنفسي استراق النظر إلى أجزاء من حواره الذي تابعته بشكل متقطع كما تابعتُ بعض أجزاء حوار الفتاة ذات العيون المُطفأة التي كان على اليمين، ولعلني فهمتُ أن الشاب الحذر كان يتحدث إلى شخص يخبره بأنه يوجد، في تلك اللحظة، بالمستشفى مع والده وقد فاجأته نوبة قلبية قُبيل آذان المغرب بدقائق، وحملوه على وجه السرعة إلى الانعاش وهم ينتظرون لطف الله.وكان الطرف الآخر يكتب إليه بعد كل فقرة كلمات المواساة. غفلتُ عنه واستطلعت ما تكتبه الفتاة فبدا أنها تراسل حبيبها وتقول لها بأنها لن تنساه أبدا ومستحيل أن يميل قلبها إلى غيره وأنها لم تذق النوم، ثم تتألم وتقول له كيف أمكنه أن ينساها.. أين قلبك وحنانك !! . ثم توقفتْ وكتبتْ: " كانت لي معك حكاية من أجمل الحكايات". لم أفرّط وأنا أقرأ ما يكتبان، في متابعة المسرحية. ففي اللحظة التي رمى فيها الممثل وجدي بزوج من الطماطم لسليمة وحملتهما ثم عجنتهما بقوة، فطلى وزرتها البيضاء بلون أحمر بدا مثل دم مشتعل. كان الشاب الحذر قد جعل مخاطبه يُصدّقه ويتعاطف معه ولن يتردد في تلبية أي طلب يطلبه، أمّا الفتاة الحزينة والشاحبة فكتبت جملتها الأخيرة ثم رفعت رأسها تستكمل مشاهدة المسرحية. فكرتُ لحظتئذ فيمَ كان يفكر رضوان أفندي الزجال، بلونه القمحي المعجون بحُبيبات التراب وصوته الطالع من شقاء الكادحين في تلك اللحظة، وهو جالس في الصف الخامس. هل فكر أن الصفوف الأربعة جزء من المسرحية، أم كان يدندن مع نفسه القلقة :(واخّا الظلمة / واخّا الغمّة/ واخّا الوحوش كلها تمّه)أم كان يكتب فوق ميم المسرحية قصيدة زجلية واحدة من كلمة واحدة ومن حرف واحد يصرخ أعلى مما في كلام عشرات الدواوين الصامتة. أما الآخرون الجالسون في كل الصفوف، وأنا وفتاح النگادي أسماء هوري فإن الله وحده، علاّم الغيوب، من يعلم ما في رؤوسنا. نعم .. فتاح النگادي، الفنان القدري، قاهر الظلام والظلم والظالمين. عازف البيانو والملحن والمطرب المغربي، خريج المعهد الموسيقي في الدارالبيضاء،ممثل وواضع الموسيقى التصويرية للعديد من المسلسلات والأفلام،"حرمته لحظة لعب طفولي نور البصر، لكنه عرف كيف يتجاوز محنة ما فقد، واستعاض عن ذلك بالذكاء السمعي والحس الذوقي. فتفوق في الكُتاب والمدرسة وأيضا على مقاعد المعاهد الموسيقية". حينما التفتتُ ورأيته واقفا شامخا، أدركتُ أن هذه المسرحية تُرى بالبصيرة وتُكتبُ قصيدة زجلية، وأنها بدون نهاية في الزمن لأن الزّمان لا يتوقف، وأدركتُ أيضا أن ضحكات الأطفال لو انتبه إليها الشاب الحذر ما استطاع أن يكذب ويحتال.أما الفتاة ذات العيون المُطفأة فقد استغربتُ كيف تزامنت نهاية المسرحية في مقطع أم كلثوم، مع ما كتبته في تخاطر فاتن، كتبت لحبيبها: "سنين مرّت زي الثواني في حبك أنتَ.. ولو أعاد الله لي القوة فإنني سأحبك مرة أولى وثانية وألف". خرجنا وكانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة والربع ليلا. بقيتْ أسماء في المسرح تجمع الحكايات التي تركناها خلفنا في القاعة، فيما خطا فتاح النگادي يصعد الأدراج وحيدا مستعيدا بصيرة الأطفال والصمت، أما رضوان أفندي فكانت خطواته طويلة ومسرعة. الشاب الحذر أيضا خرج لا يلتفت بعدما أقنع مخاطبه بسُلفة سمينة لمواجهة الظرف الطارئ ضاربا معه موعدا بعد نصف ساعة. خرجتُ وكان الليل يستجمع أنفاسه، فتحت هاتفي فتقاطرت رسائل متتالية من رقم واحد غير مسجل بذاكرة هاتفي، فاندهشتُ وسمعتُ خلفي صوتا يقول لي : ليلة سعيدة. التفتُ نحو الصوت فكان لنفس الفتاة، ذات العيون المطفأة، وهي تبتسم ابتسامة غامضة، استعجلتُ الخطو وأنا أفكر هل كان الصف الثاني أيضا جزءا من المسرحية.. يا لأفكار أسماء الساحرة… ثم اختفيتُ في الظلام.