أحيانا تأخذني تطلعاتي إلى التأمل في الأشياء الغامضة التي تشبه غموض الدنيا في عين الشيخ الزيتوني، ويكون الباعث على حالتي هذه هو وقوعي في قبضة فتنة تطلعاتي التي تنتابني فتُشعرني بأنني جدير بالمعرفة التي يتعلمونها بالمدرسة..والتي عادة ما تورّطني في محاولة تفسير كل ما يُحيط بي..! فالذي يسمع طفلتي وهي تنادي أمها صائحة: لالّي تْشاتْشو ابُّووووو !(أي: انزعي عني التبان لأتبوّلْ) أو يسمعها وهي تَزُفّ إلى أمها خبر امتثالها لقواعد النظافة، صائحة وبغبطة: مّا ! مّا ! تْشي أنا ابّابو( أي: مامّا، مامّا، غْسْلْت أنا بالصابون) فالسامع لكلمات طفلتي هاته حتما سيُصاب بتطلعاتي أو بفتنتي المعرفية..وحتما سيهتمّ مثلي بتفاصيل حكايتي مع مرحاضي المشترك مع جاراتي..فالحاصل هو أنني وضمن أسرتي التي تتكون من طفلتي وزوجتي، نقتسم سكنا بالفوقي مع الشيخ الزيتوني وزوجه العجوز اختيتي السعدية، إضافة إلى جارتنا فاطمة وزوجها حسن وابنيهما الصغيرين مراد ومحسن، وجارتنا الرابعة سعيدة وزوجها الدكالي وإبنهما الوحيد، الذي أنجباه قبل 17 سنة وتوقفا عن الإنجاب.. والسكن عبارة عن أربع غرف، لكل منا غرفته، وردهة مشتركة بيننا يوجد بها المرحاض المشترك بيننا والمستعملات المشتركة بيننا..والحاصل كذلك في اشتراكنا للمرحاض أنه يحدث كثيرا أن يقتحم أحدنا، أي أحدُ أفراد الأسر الأربع على جاره ساعةَ مرحاضه..بل حدث هذا كثيرا وقد أصبح أمرا عاديا بيننا، لدرجة بدأ يأخذ جدارته ضمن خطابنا الصامت إلى بعضنا البعض: "انتَ اقتحَمتَ عليّ ساعة مرحاضي أمس، ها أنذا أقتحم عليك ساعة مرحاضك اليوم" ! وطبعا نحن لا نتحمل مسؤولية اقتحاماتنا المتبادلة بيننا، لأن باب مرحاضنا المشترك بيننا هو الباب الوحيد الذي يستحيل أو يستعصي إصلاحه..كما هو الحال بالنسبة لكل ركن من أركان الدار التي تتوزّعنا غرفُها الأربع وليس مرحاضنا فقط ! فباب مرحاضنا، وبداية من خصره، أي بداية من نصفه الذي عادة ما يكون موضعا للقُفل، يشرع في الميل نحو الوراء وهو يتفكك ويكاد ينسلخ عن الإطارَيْن/الضلعين الخشبيين المستديمة له رويدا رويدا، حتى يكتمل الميل عند رأسه باكتمال انفكاكه عن الإطارَيْن/الضلعين الخشبيين بالكامل ! وهكذا يتضح أن النصف التحتي لباب مرحاضنا المشترك يكاد يستقيم، لولا نصفه الأعلى المأخوذ بجاذبية الميل إلى الوراء ليتعذر انصفاقه تماما، أي أن باب مرحاضنا المشترك نصفه التحتي منصفق ونصفه الفوقية مشرع ! والحاصل مع وضع باب مرحاضنا المشترك هذا أن أقتحم، طوعا لنوبتي، ساعةَ مرحاض العجوز الزيتوني..فعندما تُقتَحَم عليّ ساعة مرحاضي، وبالشكل الذي تباغثني به اختيتي السعدية، لم أستطع يوما أن أفسر لماذا أقع في هوس الإضطراب اللساني وتجتاحني هذه الهجمة الشرسة من الحروف المباغثة:(أْ أْ أْ أْ أْ..!)وبالمقابل تكون اختيتي السعدية، المقتَحِمةُ عليَّ ساعةَ مرحاضي، أهوس اضطرابا مني لدرجة تتشظى على لسانها كافة التعبيرات الجاهزة التي يمكن أن تعتذربها عن اقتحامها، فتعوّض احتباس لسانها بهذه الهمهمة:(م م م م.. !) وهي تُعيد باب المرحاض إلى عهده وتنسحب ! إذن يتضح من خلال هذا الإضطراب المشترك بيننا حتى في لساننا أن باب مرحاضنا المشترك بدوره مضطرب، لذلك فهو لا ينصفق بتاتا، ويبقى تشقع نصفه الأعلى يوحي لمن تأخذه ساعةُ مرحاضه أن المرحاض خال لا يخصه سوى النظر في وجهه العزيز ! إلا إذا أراد أن يتأكد فسيطرق الباب، وهذا نادرا ما يحصل بيننا، كوضع تواضعنا عليه ! فحين جاءت نوبتي واقتحمتُ على العجوز الزيتوني ساعةَ مرحاضه أذهلني أن أسمع على لسانه: "مَن؟" هكذا بلغة مدرسية من دون ريب، هو الذي بينه والمدرسة مسافة غموض الدنيا في عينه، من أول عهده بها حتى إشرافه على الثمانين من عمره ! مَن!؟ هل العجوز الزيتوني هو من يقول مَن؟! وبالفصاحة المدرسية يا للهول ! كيف خرجت من لسانه من؟ هكذا فصيحة في أواخر لحظات حياته، ولم تخرج من لساني أنا الشاب الذي يسيل لعابي للحديث بهذه الفصاحة ولو ليوم واحد في حياتي؟! ألا ينطبق على الشيخ الزيتوني البِلى والتآكل والإنسلاخ عن عنفوان شبابه، كما هو الحال مع باب مرحاضنا ؟ إذ لا أظن أن باب مرحاضنا كان منسلخا عن ضلعيه الخشبيين عند شبابه! فالمطلوب حسب قانون الأعمار أن يكون الشيخ الزيتوني فصيحا في ريعان شبابه وليس عند هرمه وتآكله وانسلاخ جلده عن عظامه، كما انسلخ باب مرحاضنا عن ضلعيه..أليس كذلك؟ وأنا أتأمل هذه المفارقة الحاصلة بين الشيخ الزيتوني الطاعن في السن وباب مرحاضنا الطاعن في السن هو الآخر، إذا بتأملي يضعني في مفارقة أخرى، وكأنه يودّ أن يُنبهني أن لا فرق بين الشخ الزيتوني والشيخ المرحاض، كما لا فرق بين شبابي وشباب المرحاض..إذ رجعت بي ذاكرتي إلى سني المبكرة حيث كنتُ لا أكاد أنجو من مرض حتى يُداهمني مرض آخر.. فإذا بي اليوم، وسني تربو على الخمسين، أتمتع بعافية لا قبل لي بها..مما يعني أن باب مرحاضنا المشترك الطاعن في السن قد يتعافى في يوم ما، كما تعافى الشيخ الزيتوني ونطق بالفصحى بعد كل هذه السنين المتعبة..