الحياة في الشارع تستيقظ باكرا، يأتي القرويون على دوابهم يحملون عليها التين والألبان، ويصطف بجانبهم بائعو النعناع، وتنغل المحطة بالناس في الساعات الأولى من الفجر... يتسابقون على "الترانزيتات" يتجهون إلى الأسواق المجاورة. هو الآخر ألف الاستيقاظ باكرا، يحمل صندوقه الخشبي...يجوب الشارع من أقصاه إلى أقصاه وعيناه لا تبرحان الأرض تراقبان بدقة أقدام المارة والجالسين في المقاهي لعله يجد حذاء يلمعه مقابل درهم أو درهمين في أحسن الأحوال، وإذا حالفه الحظ تفضل عليه واحد من أصحاب السيارات الفاخرة بمبلغ يتراوح بين ثلاثة وخمسة دراهم. الساعة تشير إلى حوالي الواحدة زوالا، في هذه الوقت يقيل الشارع، فالشمس الحارقة قد تبرجت في كبد السماء، وأرسلت بأشعة فتنتها فاحتجب منها الناس، بينما كان هو يرفع رأسه ويصوب نظره نحوها متحديا، ويطلب من صديقه "زريقة" أن يعد له : واحد ...اثنان...ثلاثة...عشرة. آه لم أعد أرى شيئا غير الظلام، أين أنت؟ خذ بيدي فإنني أكاد أسقط. أين أنت يا ولد ...وهو يتحسس الفضاء أمامه. جلس القرفصاء يفرك عينيه ثم التفت يمينا ثم يسارا، واكتشف أخيرا أن صاحبه يقف خلفه، طارده وجرى وراءه كالسهم وهو يتوعده بأشد العقوبة. انتهت بهما المطاردة إلى مقهى "محماد"، بدأ صاحبه يطوف حول خوان وهو يجري خلفه، علقت قطعة قماش من معطفه الممزق بأحد الكراسي، فسقط الكرسي محدثا صوتا تناهى إلى سمع النادل فخرج يلاحقهما وهو يسب"انتظرا أيها اللقيطان، سأشبعكما ضربا، آه لو ألحق بكما يا أولاد الكلب"، انطلقا يسرعان هاربين ويلتفتان إليه، حتى إذا يئس من اللحاق بهما ونكس على عقبه إلى المقهى، أبطئا إبطاء المجهود وهما يقهقهان ليغيظاه. أحس بالجوع يقطع أحشاءه، الشارع مليء بالأطعمة، ودخان الشواء يملأ الأفق ورائحته تزكم الأنوف، ولكنه لم يكن يملك نقودا، زادت حسرته عندما تفقد جيوب معطفه فلم يجد غير بضع دريهمات قليلة، دريهمات قد لا تكون كافية لتقيه غضب زوج أمه، ذلك السكير الذي حدثته نفسه أكثر من مرة بقتله، حتى يرتاح وترتاح معه أمه. عاد يجرجر رجليه حتى وقف أمام المقهى، كان يتوقع مداهمة النادل في أي لحظة...جال بنظره في الموائد؛ أطباق مختلفة...لحم مشوي، دجاج، كفتة، ماء بارد، مشروبات غازية مختلفة الأشكال والألوان، بطاطا مقلية، أسماك...آه كم أكره الأسماك! وتذكر يوم أعطاه رجل لمع حذاءه قطعة خبز محشوة بالسمك، فعلقت شوكة في حلقه...بكى...شرب الماء...أكل الخبز، لكن دون جدوى، أدخل إبهامه وسبابته أمسك بالشوكة وأغمض عينيه ثم انتزعها بقوة، فتدفق الدم في حلقه...ابتلع منه جزءا ولفظ جزءا آخر. عاوده ذلك الشعور المقرف فلفظ لعابه متقززا....سحقه برجله ثم عاد يحدق في الزبناء...أولاد الكلب يلتهمون بنهم...يمسحون أفواههم ثم يعودون إلى الأكل...ألا يعلمون أن أمثالي كثير يقتاتون على فتات الموائد؟...رمق أحدهم قام من كرسيه يدفع بطنه أمامه، فاقترب من المائدة...أوف أوف السمك أي حظ هذا؟، عاوده الإحساس بطعم الدم في حلقه، ولكن لا خيار لديه، عصفور في اليد خير من عشرة في الشجرة كما يقال، وما أدراه إذا ظل ينتظر، أيترك الآخرون شيئا؟ أو لعل النادل يداهمه، اقترب من المائدة وارتمى عليها كم ينقض الوحش الجائع على غزال صغير... كان يجمع بقايا السمك والخبز وعيناه تراقبان النادل، صدق حدسه وحدث ما كان يتوقع، فخرج النادل كعادته يسب ويتوعد، وداهمه فلما لم يلحق به رماه بقنينة ماء كان يحملها لأحد الزبناء، اتكأ على القنينة فسقط منه صندوقه الخشبي... أخذ النادل وعاد أدراجه. تابع سيره وهو ممسك بالقنينة وببقايا المائدة غير مكترث بما حصل، فقد أعماه الجوع، وصل عمودا كهربائيا فاتكأ عليه، وفتح الكيس البلاستيكي، رفع اللقمة الأولى إلى فيه، لكن نفسه لم تطاوعه أن يأكل دون صديقه...فقام مناديا "زريقة! يازريقة! تعال نأكل معا"، وما إن تناول القنينة ليفتحها حتى كانت يد "زريقة" قد سبقته إلى الفتات...أخذا يأكلان وهو يحكي لصاحبه عن فصول المطاردة مع النادل، وهما يقهقهان بصوت مرتفع ليسمعا خصمهما ويزيدان من غيظه. في تلك اللحظة خرج النادل يضرب بالصندوق الرصيف حتى كسره قطعا صغيرة...توقف عن الأكل، وتذكر الوحش الذي ينتظره في المساء، فتوقف الطعام في حلقه. ضمه "زريقة" إلى صدره، ومسح دمعه : لا تحزن أخي سأعطيك صندوقي...