عندما سقط ريان طفل المغرب الذي لم يتجاوز الخامسة في بئر يصل عمقها إلى أكثر من ثلاثين مترا، خطف بطفولته قلوب العالم، لأن الطفولة بحد ذاتها كانت وتظل أغلى لحظات الوجود التي لا تتكرر، فيها كنا نرى العالم ببراءة كما ينبغي أن نراه: بسيطا وعادلا ومفرحا، لا يعرف الفوارق الفكرية والمادية بين البشر، وفيه تختفي الحواجز بين الخيال والواقع وتمسي أمنياتنا حقيقة واقعة بمجرد اغماضة عين. الطفولة ترى العالم كما كان قبل ظهور الدولة والمال والفوارق والمناصب الاجتماعية، وهذه البراءة هي التي تجذبنا بشدة إلى الأطفال الصغار حين نصادفهم عند أقاربنا فنترك كل شيء وننصت إليهم وهم يلثغون بينما يجرفنا الحنين إلى ما فقدناه وأصبح مستحيلا. ربما لذلك قال الأديب الروسي دوستويفسكي: " معاشرة الطفولة شفاء للروح". ولو أن الذي سقط في البئر في اقليمشفشاون بالمغرب كان رجلا وليس طفلا ما أثار كل ذلك الاهتمام، ولحسبنا أن ماجرى كان مجرد " حادثة مؤسفة"، إما أن يسقط طفل في الخامسة وتطوقه الأتربة ويهدده الموت تحت الأرض، فإن في ذلك تهديدا لمعنى الطفولة، ولطفولتنا. سقط طفل، لهذا لم يسأل أحد عن ديانته، ولا حجم الثروة التي قد تحتكم عليها عائلته، أو الأراضي التي تمتلكها، أو المنصب الذي ربما يشغله والده، لم يخطر لأحد سوى أن لحظة الطفولة مرمية في عمق الأرض يطوقها التراب ثلاثة أيام متصلة ومازالت تعيش على أقل الهواء من دون طعام أو أوصوت انساني يحنو. خطفت الطفولة بحد ذاتها قلوب العالم فأخذ يتابع بلهفة وقلق وأمل محاولات انقاذ ريان بمعدات الحفر، وبالحبال، ثم خطة الحفر عموديا وأفقيا واستخدام الأنابيب والحرص على تفادي الانهيارات الترابية، لهفة تظهر أننا قد نغض النظر عن أي شيء إلا أن يردموا الطفولة، الرؤية البكر للعالم. وقد اعتبر الفنان العالمي بيكاسو أن عظمة الفن تكمن في الوصول الى عيني الطفولة الأولى حين قال : " كنت وأنا صغير أقلد كبار الرسامين وحين نضجت صار كل همي أن أرسم مثل الأطفال"، في الأدب عاشت ومازالت القصص التي جسد فيها الأدباء عذاب الطفولة، مثل قصة " فانكا" للعظيم أنطون تشيخوف ويصف فيها شقاء صبي صغير يعمل خادما في المدينة ويكتب خطابا لجده في القرية. ويظل الحنين للطفولة يجذب الشعراء فيقول إبراهيم ناجي:" آه من يأخذ عمري كله ويعيد الطفل والجهل القديما"، ويغترف صلاح عبد الصبور من نفس المعنى قائلا : " أعطيك ما أعطتني الدنيا من التجريب والمهارة، لقاء يوم واحد من البكارة". في السينما ظلت الأفلام التي صورت الطفولة من أجملها، مثل فيلم شارلي شابلن " الطفل" الذي ظهر عام 1921، وفيلم" ياسمين" 1950 الذي طارت به إلى النجاح طفولة فيروز مع أنور وجدي. حادثة ريان ليست الأولى من نوعها، فقد سقط طفل عمره عام ونصف في بئر في العراق عمقها خمسون مترا، وتم انقاذه، وكانت هناك واقعة مماثلة في ايطاليا وفي حينه توجه الرئيس الايطالي إلى موقع الحادثة وظل واقفا 15 ساعة حتى تم انقاذ الطفل، كما شهدت الصين والهند وقائع مماثلة. أثار ريان المغرب كل ذلك التعاطف، لأن الناس كانوا يتابعون معه ليس انتشال ريان فحسب، بل انتشال طفولتهم هم أيضا من تحت الأتربة، الطفولة العزيزة التي لا يسأل أحد عن ديانتها، أو معتقداتها، أو ثروتها، الطفولة التي أصبح اسمها فجأة " ريان" ، والتي كانت ومازالت حدثا لا يتكرر في حياة كل منا، رأينا على ضوئه ذات يوم العالم والحياة بمنطق الانسانية البسيطة البريئة التي لم تعرف بعد الحروب والكذب والطغيان. أخيرا قد تجدر الإشارة إلى السؤال الذي طرحه الكثيرون : لماذا لم يشفق أحد على أطفال اليمن وسوريا الذين يموتون كل يوم بالعشرات؟ وجوابي أننا مع الضمير إذا تحرك ، أينما تحرك واستفاق. اليوم ريان وغدا أطفال شعوبنا الأخرى.