مما لا شك فيه أن دراسة نص مسرحي يمكن أن تتخذ أشكالا متنوعة، منها التركيز على قيمته الفنية، أو تحليل فكره قصد تحديد خلفيته النظرية، ويمكن أن تنصرف الدراسة إلى بيان أصالة النص حسيا ومفهوميا؛ أي فنيا وفكريا. وهذه الدراسة الأخيرة هي التي فضلناها، ولم يكن ذلك الاختيار ممكنا إلا ضمن علاقة يمكن تبريرها منطقيا، حيث إن الأمر يتعلق بالكاتب والمفكر المسرحي برتولت بريشت الذي نهل من مشارب مختلفة، فهل يمكن أن نصنف كتاباته ضمن مسرح ذهني، أم أنه يكتب بذهن مسرحي؟ من المعلوم أن النقاد أكدوا على علاقة خاصة بين المسرح الملحمي والماركسية، ومن أسس الفكر الماركسي نذكر دعامتين: المادية التاريخية والمادية الجدلية. إذ تقوم الأولى على التوزيع والانقسام اللذين يخضعان إلى الإنتاج وطريقة تبادل المنتوجات، وتختزل الثانية قوانين الجدل التي تتمثل في قانون تداخل الأضداد (لا نهائية التطور) وقانون التحول من الكم إلى الكيف (التحول من حال إلى حال)، ثم قانون نفي النفي (كل الأشياء تتحول إلى نقيضها). كما أكد النقاد أن بريشت كثف بين عنصري: الإبداع الحسي والإبداع المفهومي. وهذا التكثيف له صفات: قد يكون إبداعا، أو استغراقا، أو تساويا... فهل لغة بريشت جسدت مسرحا ذهنيا؟ أم أنها نتاج لذهن مسرحي (عقلية مسرحية إبداعية)؟ وتحديدا، ما علاقة المسرح الذهني بانتمائه النظري؟ للخوض في الموضوع، سنتناول مسرحية «الشحاذ أو الكلب الميت» ، وهي دراما من مشهد واحد، ترصد موضوعاتها احتفالات نصر القيصر على عدوه، وأثناء ذلك يجري حوار بين القيصر والشحاذ، حيث يتلذذ الأول بالموتى الذين حققوا له النصر، ويبكي الثاني على آلام الموتى الذين قضوا تحقيقا للنصر. إنها مفارقة طريفة شحنت بالعز والجاه من ناحية، والمحنة والألم من ناحية ثانية: - القيصر: كيف هو جيش القيصر «تالي» الذي حفر الخنادق في رمال الصحراء؟ - الشحاذ: لقد زحف القيصر عبر الصحراء ورجاله قالوا: إنها بعيدة جدا. عد أدراجك يا «تالي». لكنه قال: هذه الأرض ينبغي غزوها. هكذا راحوا يتقدمون كل يوم حتى اهترأت أحذيتهم وتشققت جلودهم لكنهم استمروا في التقدم. الزوابع أربكت جملا وأبعدته عن الدرب فمات تحت أبصارهم إلى أن جاؤوا إلى واحة وقالوا: هكذا هي أرض الوطن. هناك سقط الابن الصغير للقيصر في الجب وغرق. حزنوا عليه سبعة أيام. آلامهم كانت بلا حدود، كانوا يشاهدون خيولهم وهي تنفق. ولم تستطع نساؤهم أن تضاجعهم. ثم جاءت الريح والرمال التي غمرتهم، وانتهى كل شيء وبدا ساكنا، وأصبحت تلك الأرض ملكا لهم. لقد نسيت أسماءهم... (ص38/39). تلمح الموضوعة إلى الطبقة والإنسان، وتتأسس على ثلاثة عناصر: الحدث، والشخصية، والحوار. فيما يخص الحدث، حاول الكاتب الدرامي تبيان مآسي الحروب، وأبرز أن مفاهيم السلطة، والحب، والملكية... مفاهيم ذات حرارة هامدة كما يبرز الشحاذ، وليست لافحة كما يعتقد القيصر وعموم الناس. يقول القيصر: - أنا السلطة السائدة على الناس. من هنا يأتي الإجلال. - يجيب الشحاذ: اللحام يظن أيضا أنه سيد الحصان، منقار السنونوة يظن أنه القائد الموجه للسنونوة، وقمة النخلة تظن أنها هي التي تسحب النخلة باتجاه أعالي السماء.(ص.43) وفيما يتعلق بشخوص المسرحية، رسم الكاتب شخصيتين متقابلتين: القيصر، والشحاذ. إنهما الشخصيتان الوحيدتان في الدراما، حيث يرفض الشحاذ لعبة التوافق، ويختار أن يضع القيصر أمام مرآته الحقيقية. أما الحوار، فهو يمتاز بالتوتر، ومن خلاله يكتشف المتلقي الشخصيتين اللتين تتجاوزا وجودهما المادي إلى الوجود الرمزي، ولا يتعلق هذا الأخير بتصور ميتافيزيقي محض، بل هو إطار مرجعي ينظم الدوافع والأفعال. ومن ذلك، يمدنا عنوان المسرحية «الشحاذ أو الكلب الميت» بهوية النص التي تختزل هرمية اجتماعية تماثل الشحاذ بالكلب الميت، وهي هوية تحفر أخدودا في الوعي الإنساني. وبعد ذلك تبدو في النص المسرحي بنيتان : بنية الموت (الشحاذ) وبنية الحياة (القيصر)، ونعثر في المسرحية على أنساق دلالية اجتماعية لفظية تستعمل أصواتا متلفظا بها قصد أغراض تواصلية: يقول الشحاذ: «أحيانا يكدرني غلام جعل من أمه ملاكا بينما كانت مهمتها اقتلاع البطاطا» (ص38) ويصيح: «لا يوجد أي قيصر. وحده الشعب يعتقد بوجود مثل هذا القيصر» (ص40) ثم يتابع: «الفئران التهمت كل الحقول... لكن هذه الأسنان البشرية الأخيرة أهلكتها» (ص40). بينما يقول القيصر: «أنت رجل خطر جدا مصاب بجنون الاضطهاد. أنت مجنون» (ص41) ويؤكد: «أنا السلطة السائدة على الناس» (ص43)... وهناك أنساق دلالية اجتماعية غير لفظية وتتكون من أنساق شيئية: رث الثياب، كلسي أبيض، يرتدي معطفا. ومن أوضاع تتمثل في وضع الجسد: كان الكلب ينام على صدري (ص41)، ووضع السمع: قرع الأجراس (ص37). كما يحضر أيضا النسق المؤسسي: يمشي مغادرا يحرسه الجنود (ص44) ... نخلص من هذا التمييز أن الأنساق الدلالية ذات قيمة وذات معنى بالربط بين العمل المسرحي وحركية المجتمع، فالأمومة لا يمكن عزلها عن الوجود الاجتماعي، والأم / الملاك هي التي يتوجب عليها العمل؛ أي أن العاطفة تمثل الدرجة الصفر، والعمل يستحوذ على الامتلاء. ويتصاعد في كلام شخصية الشحاذ الصراع بين الوظيفة الترفيهية والوظيفة التعليمية بنفي وجود القيصر وهو موجود. فماذا يفيد ذلك؟ إن النبر التقابلي يؤدي إلى نتائج مضبوطة على أساس قول الحقيقة، وليس على أساس الانعكاس المرآوي، الشيء الذي يعني رفض قاطع لوجود مواضعات داخل النسق الاجتماعي - الثقافي الذي قد يجسد قيمة الاحتواء من جهة، ويحرص على تغيير الواقع بإيقاظ وعي المتلقي من جهة ثانية. إن «الأعمال الأدبية لا تحيا حياتها الأدبية النوعية إلا بواسطة عمليات ومؤسسات وأنشطة التلقي والتفسير والتقييم .. فالأدب يغمر نسيج الحياة الاجتماعية المعاصرة ماثلا فيها بوصفه إعلاما وإقناعا وإغراء وحثا وفتنة للحواس والذهن والوجدان جميعا» . وفيما يتعلق بألفاظ القيصر، فهي تنقل القارئ من خطاب لفظي يعري إلى خطاب لفظي يبقي ويسيطر، إذ إن الشخوص تتحرك ضمن إطار من العلاقات الاجتماعية-السياسية السائدة، وضريبة النضال هي الاتهام بالجنون داخل الوطن، فالشحاذ مجنون. في حين يقوم الحوار على انتقال من المعطى إلى المبني من زاوية أن الفنان يقف في طليعة الصراع ويلاحقه بغرض إثبات أن التناحر هو حقيقة ملموسة وأبدية. تبعا لذلك، تقيم الحقيقة في التناحر، لذا تنزع نحو النشاز ولا تبقي التوافق. ومن ثم، يتبين أن المجتمع والتناحر كليهما عنصران فاصلان يحدثان الحقيقة. واستعان النص بعلامات سيميولوجية تميز بين النبيل والحقير، وبطبيعة الحال فإن ذلك لابد أن يفضي إلى نتائج ذات دلالة، فهي تشمل الوعي في انعكاس فريد لمجموع العلاقات الاجتماعية، وهو ما يحدث صوتا قويا، وصراخا يذكي الوعي بالذات وبالحياة. إن تزايد التمايز الاجتماعي يستتبعه إفقارا إنسانيا وتجريدا للعلاقات من طابعها الإنساني، ويصير الإنسان نمطا شيئيا. ولمواجهة الشيئية يستخدم الممثل علامة كونية تجسدها الموسيقى: يقول الشحاذ: «بسبب هذه الحفنة من الموسيقى سيرى الجمهور أن السماء أكثر جمالا وأن الأرض أكثر خصبا وسيطول عمر أعمارهم وسيغفرون لبعضهم ولجيرانهم بسبب هذه الحفنة من الأنغام» ( ص 44) . يشكل صوت الجرس نوعا من التواصل بين النزعة الفردية والإطار الاجتماعي، وقد أصبح العنصر الاجتماعي ذاتيا في صورة الأنا. يقول القيصر: «أمشي إلى احتفالات النصر على عدوي الغاشم وإذ تزدهي البلاد باسمي» (ص37). إن الفرد هو الأساس بنطق لفظ «عدوي» وليس عدو الجماعة، الشيء الذي يعكس مجتمعا قائما على الفردانية والدوافع الخاصة، ويطغى الافتخار بحراسة الجنود للقيصر. وهنا، يمكن أن نسجل تفاوتا في المسرحية بين الفردي والجماعي، فماذا يعني ذلك؟ إنه تهكم، ويظهر هذا الأخير جليا في اقتران لفظتي البلاد واسم القيصر، فمبدأ التهكم يحمل عناصر جمالية تجعل وعي المتلقي يقظا وحذرا بين قطبين: قطب القبول وقطب النقد. ومن المعلوم أن بريشت اعتمد تقنية التغريب تجسيدا لواقع التناقض؛ لأن الحقيقة تتخذ شكل صراع بين القضية والنقيض، فأن يتحقق اللقاء بين الشحاذ والحاكم صدفة فهو أمر بديهي، لكن تتمثل الصدمة في أن اللقاء أصبح التقاء، وهو ما يبعث على الدهشة سواء أكان في المنام أو في اليقظة. ومن ثم، يندرج الحدث ضمن غرائب الزمن، إلا أن الصورة الغريبة تمكننا من إعادة معرفة الشيء من مبدإ أن العمل المسرحي يسعى إلى تحرير الإنسان بأن يضع جميع عناصر الإطار أمامه ويربط الأحداث في تعالق بين المعنى الحرفي والمعنى المجازي: عالم واقعي/ عالم لا واقعي، عالم غريب/ عالم عجيب. كان هدف المسرح بالنسبة لبريشت هو « تغيير الطبقة والإنسان والعالم، ولقد حطم مسرح بريشت الملحمي تقاليد المسرح الطبيعي الذي استعبدته فكرة المحاكاة الأرسطية. وبذلك أنقذ المسرح من أن يظل قابعا تحت وطأة مبدأ نقل صورة طبق الأصل من الطبيعة إلى خشبة المسرح» . إنه تغيير في طريقة الإبداع، وفي وظيفة المسرح بإيقاظ العقل والتركيز على فعاليته من ناحية، وحجب فكرة التقمص أو التعاطف من جهة ثانية. فماهي علاقة التعاطف باليقظة؟ يقوم التعاطف على التوتر الذي يصعد من الأحاسيس، وتحمل اليقظة انتصاب الذهن الذي ينتج من العقل، لكن ذلك لا يعني فصلا بين القوتين. إن الفصل نظري فقط، أما عمليا، فهناك التقاء في الخشبة. وهذه الأخيرة هي الرابطة الجوهرية بين الإحساس والعقل، مما يعني أن الشجرة واحدة وفروعها هي لقاء. لذا، نعتقد أن الحديث عن تقابل هو في عمقه لقاء. فهل يمكن أن نقول عن بريشت أنه أرسطي؟ لم يتجاوز بريشت المسرح الدرامي، وإنما عقد معه تناصا أفضى إلى ولادة قيصرية راكمت بعض عناصره، ثم انزاحت عن التراكم. إن الانزياح هو إعلاء، وهنا تكمن فاعلية العمل الأدبي. ومن ثم، ترتبط فعالية الخطاب في المسرحية على تعاقد بين المرسل والمرسل إليه بتخطي المنطلقات ليبلغ الكلام مبتغاه. ويتوزع المجتمع بين الفرد والجماعة وينعكس ذلك على المجال اللغوي، ونسوق المثال الآتي: يقول الشحاذ للقيصر: «أنت تتكلم خافضا صوتك، إذن أنت قانع خاضع. أنت تسأل كثيرا، إذن أنت شغوف بالمعرفة... وإذا امتنعت عن الاهتمام بالأمور التي لا علاقة لك بها، تتحرر معرفتك ولا تبقى مكتوفة اليدين» (ص42). إذا عرفنا أن الإنسان موجود «تاريخي» يعمل في صميم الواقع، وتقوم الحرية في القدرة على معرفة الضرورة، فإن كلام الشحاذ للقيصر هو إيمان بالقدرة على التحرر من المصالح المتعارضة، ومن سلطة الأطراف المتصارعة، ولا مندوحة أن تتحرر اليدين، فهل يمكن أن نتحدث عن انتقاء للعناصر الدرامية والعناصر الفكرية؟ تبرز المسرحية أن مجتمع القيصر هو كمية ثابتة بإمكانها أن تتجه نحو كمية متغيرة، فكل من الممثل والمشاهد يهزه نضال الشحاذ الذي يلبي مساعيه من خلال علامات صوتية: صوت جرس احتفالات النصر، وصوت جرس الموت، وصوت رائحة البؤس؛ بمعنى أن هناك صوتين: صوت يحيل على احتفالات القيصر بانتصاره، وصوت يحمل آلام الشحاذ التي تئن بآلام الجنود تحقيقا للنصر، لكن ألا يشكل ديكور الاحتفالات والحروب... تحديا لخشبة المسرح الملحمي؟ يعتبر بريشت أن مخيلة الجمهور كفيلة بأن تكمل التلميحات. لكن المنطوق في وجوده الخاص هو وظيفة تتقاطع مع الصورة، وتركيز النص المسرحي على الدرس التربوي الذي لقنه الشحاذ للقيصر دون اهتمام ملفت بالديكور الثابت أو المتغير يحمل إغفالا يحد من القيمة الفنية للنص. فمثلا اللوحة الخلفية للمقطع أعلاه تنقل خبرا مبتورا؛ إذ إن صندوق الموسيقى الذي يلعب به الشحاذ لم يتجاوز منطقة الأدواتية إلى منطقة الغائيات؛ لأن مادة الصورة لم تثبت موضوع الصورة إلا بما هي نواة لرؤية السماء أكثر جمالا والأرض أكثر خصبا. فلابد من ضمان المشاركة في الخطاب ليس إلى درجة التقمص، وإنما في المسافة بين النص والمتلقي الذي ينبغي إقناعه من أجل عدم الاكتفاء بالبنية السطحية، وإنما باستكشاف البنية العميقة... ويظهر جليا أن المسرحية تتمحور فقط حول إبراز التناقض بين طبقتين، لكنها لم تقنع بظروف وسياق الصراع، وينتفي مبدأ السببية. لا ينكر أحد أن الظاهرة غير قائمة، وأنها تتجلى أكثر فأكثر، لكن يجب التماسها مثلا بجدلية السؤال / الجواب، أو بديكور يخفف من شدة اللغة الطبيعية. فلقد تناسلت الأسئلة والأجوبة بين الشحاذ والقيصر، إلا أنها أسئلة مضمرة وأجوبة مضمرة: - هل أتعبك أنا؟ يجيب الشحاذ: ذلك هو السؤال الأغبى بين ما سألته اليوم... ( ص 43 ) يحتاج المتلقي إلى استحضار جميع المؤشرات لفك شفرات النص، وهذا يثير مللا للمتلقي لأن هناك مرارا « حذف باعتماد على الإطار، وتقدير هذا المحذوف يحتاج إلى تفكير واحتياط واستحضار لجميع عناصر الإطار بخلاف أنواع الحذف التي تقدر بالاعتماد على الجمل السابقة واللاحقة، ويقرأ البياض بدلالة مستقاة من السواد ومشتقة منه» . هذا الجهد المبذول من لدن القارئ للتحاور مع النص ينعكس على العلاقات المنطقية بين الجمل، ويظهر النص مفككا نظريا وممارسة، فينتج اختلال للتفاعل بين الفكر والواقع ويسود شبه– ثبات، في حين تؤكد الماركسية أن كل شيء في صيرورة... إننا لا نجزم بغياب الصيرورة في النص، أو نقول إن المسرحية ينبغي أن تعكس الفكر الماركسي آليا، ولكنها صيرورة ما ورائية تتلحف بأكوام من الركام تتطلب يقظة ما فوق إنسانية لإدراكها، أو تنبؤا خارقا لاستيعابها. ومن ثم، ليس هناك تدرج في المسرحية، إضافة إلى ضمور مبدأ العلية مما يؤدي إلى إرباك قارئ النص وتخييب أفق توقعه. إن المسرحية بصبغة مثالية لا تساعد على التغيير، إذ تظهر منفصلة عن الشروط الواقعية لحياة المجتمع، وتسير على وتيرة واحدة من الحركة ذات الإيقاع البطيء... حيث أعطى بريشت أهمية للغة الكلامية كما أوضحنا، وكثف من البعد السخري من خلال إنسان منهوك ومهمش يأمر قيصرا؛ فالشيء يفهم بشيء مناقض له. لكن بدت هذه الآليات معزولة، ولم تسمح ببناء يكف فيه الانفصال بين اللغة الطبيعية واللغة البصرية. إن الرؤية التي سادت في الماركسية واحتضنها بريشت تضمن انتقالا من الفلسفة إلى الأدب، ومن الأدب إلى الفلسفة في مفارقة، فما يتوقعه المتلقي من توسط النص المسرحي هو الأثر نفسه، ولكن لا يتلقى نفس الأثر-على الأقل هناك تفاوت في الدرجة- فهل سيتمكن النص المسرحي من البقاء بعد انمحاء إطاره النظري؟ لا يبتغي السؤال القول بأن اللحظة الماركسية قد تراجعت، ولكن يبتغي الانتقال من المشروع النظري إلى الإبداع الأدبي باشتغال الحضور الحسي للفكر لأنه من الخطأ أن ندرس نصا من خلال انتمائه، فيتموقع ضمن خانة المسرح الذهني مسبقا. إن عملية الانتقال تخفض الصورة النمطيةcliché إلى أدنى مستوياتها وتنتج عملا جديدا يتحمل عناء الإدراك والتأمل، وتنتج هذه الوضعية تفاعلا إيجابيا يتمثل في تسهيل التغيير وتحقيق أقصى الإمكانات بالانتقال من المسرح الذهني إلى الذهن المسرحي. وهذا الانتقال يفضي إلى تحرير النص، فمثلا تبتدئ المسرحية بلفظ «الساعة»: - القيصر: في هذه الساعة، إذ أمشي إلى احتفالات النصر على عدوي الغاشم (ص37) . وتنتهي بلفظ «النهار»: - الشحاذ: لن يأتي الغلام في هذا النهار. ( ص 44). إنه تقابل مرتبي: الأكبر / المتوسط / الأصغر. والواقع أن هذه الفكرة تترقى في تجربة حياتية تقوم على تحول ذي طابع انفجاري، حيث نجح اللفظان في إظهار ثراء النص المسرحي، فقانون العالم وحقيقته نضال بين الأضداد داخل عملية وصل وفصل في آن واحد، مما يحقق الائتلاف والاختلاف بين النص وتصوره النظري. ويعني ذلك أن الامتداد بين الساعة والنهار ينعش العمل الإبداعي، لأن كل شيء في صيرورة مما يجعله قادرا على الوجود في تخوم الحدود الجغرافية وأنه أكثر من مجرد إقامة في بيت الطفولة. لذا فالعمل الفني يحتاج إلى القوة للخروج من المآزق لأنه «حينما يكون القائد أو الملك أحمقا ويقود رجاله إلى مآزق، فإن الأمر يحتاج إلى شجاعة الجنود، وإلى الفضيلة. وإذا كان بخيلا جدا ولا يجند غير عدد قليل جدا من الجنود، فلا بد أن تكون قوتهم كقوة هرقل. وإذا كان لا يهتم بشيء ولا يبالي، فلا بد أن يكونوا حصيفين كالأفاعي، وإلا كان الهلاك مصيرهم» . تبعا لذلك، شكلت البريشتية نقلة من حيز التغيير إلى حيز الفعل الإنساني، واختارت الفعل المسرحي نظرا لأنه انبلاج ممارسة الفضيلة في دلالتها الأنطولوجية والأسطورية وحضور فضيلة الأثر العملي التي تسوَغ الاستلاب والفردانية وتعلن الحروب والإبادات. ومن ثم، يلعب الفن دورا قياديا يمكن توصيفه بأنه أشبه بكون مصغر يحفظ التعين في اللامتعين، فهو تفكير في شروط الصراع وتشكلاته وإمكاناته على صعيد الجماعة في علاقتها بالفرد. ومن هنا أمسى المتفرج واعيا بقناع الشمولية وتصادم الحضارات، وأكثر من ذلك صار راهنيا ويبحث في الراهن، وهذا الأخير يتأسس على أقانيم ثلاثة: ذهن مسرحي، ومبدع، ومتلقي . وبالتالي، ليس هناك مسرح ذهني بل هناك ذهن مسرحي، وهنا يكتمل الإبداع في هندسته الجمالية، لذا فحينما يكون المسرح في مأزق يحتاج إلى شجاعة وفضيلة، وحينما يكون بخيلا فهو يتطلب قوة، وحين لا يهتم بشيء ولا يبالي يحتاج إلى حصافة.