تسبب وباء كوفيد-19 بضغط كبير وحقيقي على أنظمة الرعاية الصحية في بلدان الاتحاد الأوروبي، وفيما نجح بعض تلك الأنظمة بالتأقلم مع الأزمة، واجهت أخرى صعوبات بالغة في كبح انتشار الفيروس وفي تأمين المطلوب منها على صعد أخرى. ما هو مؤكد هو أن الشعور بالضرر والضغط اللذين لحقا الأنظمة الصحية لم يكن واضحاً وجلياً للجميع بقدر ما كان واضحاً بالنسبة للفقراء وذوي الدخل المحدود، حيث أجلت المواعيد والمراجعات الصحية الروتينية، ولم تعد الرعاية الصحية أولوية بالنسبة لهم. كذلك فإن الوباء أدى إلى خسارة ملايين الوظائف حول العالم وخلق تالياً صعوبات مالية كبيرة، وأصبحت الطبابة "صعبة المنال" على البعض. ثمن الوباء الحقيقي عانى ذوو الدخل المحدود بشكل خاص حول العالم. فأعمال ووظائف هؤلاء وضعتهم أولاً في خطر لأنهم كانوا في "مواجهة مباشرة" مع الفيروس، وثانياً لأن التأثير المادي على شركاتهم، وتالياً رواتبهم، كان قوياً. في إسبانيا مثلاً، خلال أوّل ثلاثة أشهر من الوباء، طلب نحو 170 ألف شخص مساعدات من منظمة الصليب الأحمر لأول مرّة. ولم تتفرد إسبانيا بهذه الظاهرة إذ حدثت على امتداد الاتحاد الأوروبي بحسب ما تشير إليه إحصائيات الشبكة الأوروبية لمكافحة الفقر. بحسب المصدر نفسه، كانت هناك موجة كبيرة من الناس الذين طلبوا المساعدة والمعونات للمرة الأولى في حياتهم. ومن بين أكثر من طلب تلك المساعدة هناك أصحاب الأعمال والمهن الخاصة، العجائز، ذوو الاحتياجات الخاصة، الطلاب والنساء في مواقع مختلفة والمهاجرون والغجر (الروما). كما أن هناك بعض العاملين "على الخطوط الأمامية للجبهة" كعمال النظافة والبائعين في متاجر التسوق والغذاء، كانوا كلّهم معرضين (ولا يزالون) للإصابة بكورونا، وبعضهم أصيب في الاتحاد الأوروبي، ولم يعترف موظفوهم بأن إصابتهم "حادث عمل" وبالتالي، لم تغطِّ شركات التأمين نفقات طبابتهم التي أمست مهدورة. "لحمها يتآكل" ترى نويلي دينوميرانج من الشبكة الوالونية لمكافحة الفقر أن الناس مع انتشار الوباء وجدوا أنفسهم في وضع صعب، خصوصاً أولئك الذين كانت أوضاعهم حساسة وكانوا يعانون من ضيق مادي قبل انتشار الوباء، وتضيف أن هؤلاء عايشوا الفقر للمرة الأولى وهذا ما وضع الرعاية الصحية في "مأزق". وتشير دينوميرانج أن الشبكة حيث تعمل لاحظت سريعاً أنه على الرغم من إقفال معظم المستشفيات بوجه الجميع تقريباً، ما عدا المصابين بكوفيد-19، كان على الجميع أن يدفع مستحقات مالية لها علاقة بالرعاية الصحية. أكثر من ذلك، تقول دينوميرانج إن في إحدى الحالات "الصادمة" التي شهدتها، أبعدت امرأة كانت مصابة بمرض مزمن "يهاجم لحمها" (أصيبت به قبل انتشار الوباء)، وبحاجة إلى متابعة روتينية ودائمة، فقط لأنها لم تكن مصابة بكورونا، فلم تكن من أصحاب الأولوية. وتضيف دينوميرانج أن المرأة فقدت أصابعها ولم تبق هناك إلا جذوعها، وكانت لثتها تتقلص وكانت تتألم بشكل كبير ولم تعرف إلى أين تلجأ بحثاً عن العلاج، والآن وضعها أصعب بكثير من قبل. من بين المتأثرين أيضاً بالجائحة هناك الطلاب، حيث سجّلت عمليات انتحار على مستوى الاتحاد الأوروبي. وعلى درجة أقل خطورة فإن الطلاب الذين تركوا أسرهم لمتابعة تحصيلهم العلمي لم يتمكنوا في بعض الأحيان من مراقبة ومتابعة أحوالهم الصحية، ما أزم الحالة في بعض الأحيان فعجزوا عن متابعة دروسهم بسبب المرض. وفيما تتميّز بلجيكا على سبيل المثال بنظام "لا بأس به" للرعاية الصحية، فالنظام يشترط على من يريد الرعاية أن يكون مسجلاً فيه. وأما في حالات المهاجرين أو الناس الذين لا يملكون مسكناً فكان من الصعب عليهم أن يجدوا سريراً في المستشفى في حال احتاجوا إليه. الفقر مسألة صحية أيضاً شكل الفقر مسألة أوروبية كانت بحاجة إلى المعالجة قبل انتشار الوباء، خصوصاً وأن كلّ شخص بين خمسة معرض للفقر والعزلة الاجتماعية بداخل الاتحاد الأوروبي. وجاء كوفيد-19 ليعزز من نسب التفاوت الاجتماعي بحسب تقرير صدر عن الشبكة الأوروبية لمكافحة الفقر. وبينما كانت بروكسل تطمح إلى تحول كبير نحو الرقمنة (استعمال التقنيات الرقمية)، يشمل أيضاً قطاع الرعاية الصحية، بدا أن هناك أقساماً من الأوروبيين غير قادرة على اللحاق بهذا التحول، بينهم العجائز والفقراء وأيضاً الشباب الذين لا يمتلكون التكنولوجيا أو لا يعرفون كيفية الوصول إليها. وبالتالي فإن من لم يمتلك أو يتمكن من استعمال هذه التكنولوجيا، وجدَ نفسه معزولاً بدرجة أكبر عن نظم الرعاية الصحية. وتقول غراسيلا مالغيزيني من الشبكة الأوروبية لمكافحة الفقر أن الأمن الغذائي ليس مشكلة اجتماعية إنما صحية أيضاً، حيث أن الفقير لا يتمكن من استهلاك ما يحتاجه جسمه، وبالتالي فإنه يعرض نفسه للخطر والأمراض. وشهدت أوروبا ازدياداً بلغ 50 بالمئة للفقراء ممن يلجأون إلى "البنوك الغذائية" خلال الأشهر الستة الأولى من الجائحة في 2020 مقارنة بالأشهر الأولى من 2019. عوارض "إيجابية" للأزمة بينما فقد مئات الآلاف أرواحهم بسبب الجائحة، لقد حصلت تغيرات إيجابية لا يمكن تجاهلها، فتحت الباب أمام الفقراء للحصول على رعاية صحية أفضل في بعض الحالات، بحسب ما تقوله مالغيزيني. فالوباء من جهة أولى أدى إلى معاناة لا يمكن قياسها ولكن أدى من جهة أخرى إلى تسليط الضوء على نقاط الضعف التي تعاني منها أنظمة الرعاية الصحية الأوروبية. وعلى إثر ذلك حصلت ردات فعل إيجابية لسد العجز والثغرات وإلغاء أوجه القصور في نظام الخدمات المخصص للفئات المحرومة، بمساعدة الحكومات المحلية والاتحاد الأوروبي. لقد درست الأنظمة الصحية في البلدان ال27 خلال القسم الثاني من عام 2020، وتبين أن بعضها يعاني من نقص في الميزانيات، بحيث لم تستثمر فيها الحكومات كما يجب، وذلك يعني أيضاً أن تلك الأنظمة عانت من نقص في العديد والعتاد، وأيضاً في أجور العاملين في القطاع ومؤهلاتهم وكفاءاتهم. وكل هذه الأمور ستنكب المفوضية الأوروبية والجهات المحلية المعنية على دراستها وتحسينها. وتشير مالغيزيني إلى أن الوباء سلّط الضوء مطولاً على مشاكل قديمة كانت تعاني منها أوروبا، مثل الوحدة والصحة العقلية وتراجع الرفاهية واحتمال التعرض للأخطار، ولكنه ذكر الجميع بنفس الوقت بأن "لا أحد سيكون في أمان إلا حتى يكون الجميع في أمان". وتضيف مالغيزيني أن الفقر ليس فقط مسألة "ظلم" أو "لا عدالة" إنما أيضاً "مسألة أخلاقية تجعل من المجتمعات أضعف في وجه الأوبئة والصدمات والأزمات".