تُعد أسواق "الخردة" أو "الجوطية" ظاهرة متجذرة في المشهد الاقتصادي والاجتماعي المغربي، حيث أصبحت جزءًا لا يتجزأ من دورة الحياة اليومية لشرائح واسعة من المجتمع. ورغم أن هذه الأسواق تساهم في توفير سلع بأسعار منخفضة للفئات الأقل دخلًا، إلا أن تأثيراتها الصحية الخطيرة على السكان والبيئة تحظى بقدر ضئيل من الاهتمام والبحث. وتُعتبر هذه الأسواق ملاذًا اقتصاديًا للكثير من الأسر المغربية، لا سيما في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تواجهها فئات اجتماعية متعددة. إذ توفر هذه الأسواق بديلاً ميسور التكلفة للعديد من المنتجات، بدءًا من الملابس والأدوات المنزلية، وصولًا إلى الأجهزة الإلكترونية. كما تُعد مصدرًا للدخل بالنسبة للكثيرين من البائعين الذين يعتمدون عليها كوسيلة للعيش. المخاطر الصحية الكامنة إحدى أخطر الممارسات التي تتم في هذه الأسواق هي إعادة بيع المنتجات الإلكترونية والكهربائية المتقادمة، والتي تحتوي على مواد خطرة مثل الزئبق والرصاص والكادميوم. يمكن أن يؤدي التعامل غير الآمن مع هذه المواد إلى تسربها إلى البيئة، ومن ثم التأثير السلبي على الصحة العامة، مسببًا مشاكل صحية تتنوع بين التسمم الحاد، واضطرابات الجهاز العصبي، والتهابات الجهاز التنفسي. على سبيل المثال، يتم حرق الإطارات المطاطية القديمة والبطاريات المستعملة في المناطق العشوائية لاستخراج المعادن، وهي عملية تُعد مصدرًا رئيسيًا لانبعاث الملوثات السامة مثل الديوكسينات والفورانات، التي صنفتها الوكالة الدولية لأبحاث السرطان IARC على أنها مواد مسرطنة. لا تقتصر الآثار الصحية لهذه الممارسات على من يتعاملون مباشرة مع هذه المواد، بل تمتد إلى عموم السكان من خلال تلوث الهواء والمياه. كذلك تُشكل الملابس المستعملة والأحذية التي تُباع في هذه الأسواق مصدرًا آخر للمخاطر الصحية. قد تكون هذه السلع ملوثة بالبكتيريا، والفطريات، والطفيليات، خاصة إذا لم يتم غسلها وتعقيمها بشكل صحيح قبل عرضها للبيع فحسب المركز الأوروبي للوقاية من الأمراض ومكافحتهاECDC فقد تم تسجيل زيادة في حالات الأمراض الجلدية، والتهابات الجهاز التنفسي المرتبطة بهذه الممارسات في جميع الدول المستوردة لهذه الملابس المستعملة ومنها المغرب. ضعف المراقبة والتوعية تعكس هذه الظاهرة غيابًا واضحًا للرقابة من قبل الجهات المختصة، سواء على مستوى وزارة الصحة أو وزارة البيئة أو إدارة الجمارك والضرائب غير المباشرة، إذ لا توجد قوانين واضحة تحدد طرق التعامل الآمن مع المواد الخطرة المتداولة في هذه الأسواق. كما أن غياب التوعية الصحية لدى العامة يفاقم المشكلة، حيث يركز الناس غالبًا على الجانب الاقتصادي المباشر لهذه الأسواق دون إدراك المخاطر الصحية على المدى الطويل. ومن أجل التعامل مع هذه الظاهرة بشكل فعال، يتعين على الحكومة المغربية اتخاذ خطوات متعددة الجوانب. أولًا، يجب وضع إطار قانوني ينظم تداول المواد الخطرة في أسواق "الخردة"، ويحدد معايير السلامة الواجب اتباعها. ثانيًا، ينبغي تنفيذ حملات توعية تستهدف البائعين والمشترين على حد سواء، حول المخاطر الصحية والبيئية المرتبطة بتداول هذه المواد. بالإضافة إلى ذلك، يمكن تعزيز دور المجتمع المدني في مراقبة هذه الأسواق وتوجيهها نحو ممارسات أكثر أمانًا. كما يمكن الاستفادة من التجارب الدولية الناجحة في إدارة هذه الظاهرة، مثل تجارب الدول الأوروبية في تدوير المخلفات الإلكترونية بطريقة آمنة وصديقة للبيئة. وفي الأخير فإن أسواق "الخردة" في المغرب تمثل ظاهرة مركبة تجمع بين الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والصحية. ورغم أهميتها بالنسبة للعديد من الأسر المغربية، فإن تجاهل المخاطر الصحية المرتبطة بها يشكل تهديدًا حقيقيًا للصحة العامة. لذا، فإن وضع هذه القضية في صلب السياسات الصحية والبيئية يعتبر خطوة أساسية نحو ضمان بيئة صحية وآمنة للمواطنين.