الوزير قيوح يدشن منصة لوجيستيكية من الجيل الجديد بالدار البيضاء    حقائق وشهادات حول قضية توفيق بوعشرين مع البيجيدي: بين تصريحات الصحافي وتوضيحات المحامي عبد المولى المروري    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    الدورة ال 44 لمجلس وزراء الشؤون الاجتماعية العرب بالمنامة .. السيد الراشيدي يبرز الخطوط العريضة لورش الدولة الاجتماعية التي يقودها جلالة الملك    حصيلة سنة 2024.. تفكيك 123 شبكة لتنظيم الهجرة غير النظامية والاتجار في البشر    الدكتور هشام البوديحي .. من أحياء مدينة العروي إلى دكتوراه بالعاصمة الرباط في التخصص البيئي الدولي    التجمع الوطني للأحرار يثمن المقاربة الملكية المعتمدة بخصوص إصلاح مدونة الأسرة    فرض غرامات تصل إلى 20 ألف درهم للمتورطين في صيد طائر الحسون بالمغرب    الدفاع الحسني يهزم الرجاء ويعمق جراحه في البطولة الاحترافية    38 قتيلا في تحطم طائرة أذربيجانية في كازاخستان (حصيلة جديدة)    رحيل الشاعر محمد عنيبة أحد رواد القصيدة المغربية وصاحب ديوان "الحب مهزلة القرون" (فيديو)    المهرجان الجهوي للحلاقة والتجميل في دورته الثامنة بمدينة الحسيمة    انقلاب سيارة على الطريق الوطنية رقم 2 بين الحسيمة وشفشاون    المغرب الرياضي الفاسي ينفصل بالتراضي عن مدربه الإيطالي غولييرمو أرينا    رئيس الرجاء يرد على آيت منا ويدعو لرفع مستوى الخطاب الرياضي    الإنتاج الوطني من الطاقة الكهربائية بلغ 42,38 تيراواط ساعة في متم 2023    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    الندوة 12 :"المغرب-البرتغال. تراث مشترك"إحياء الذكرىالعشرون لتصنيف مازغان/الجديدة تراثا عالميا. الإنجازات والانتظارات    حركة حماس: إسرائيل تُعرقل الاتفاق    أخبار الساحة    الخيانة الزوجية تسفر عن اعتقال زوج و خليلته    روسيا: المغرب أبدى اهتمامه للانضمام إلى "بريكس"    عبير العابد تشكو تصرفات زملائها الفنانين: يصفونني بغير المستقرة نفسياً!    السعودية و المغرب .. علاقات راسخة تطورت إلى شراكة شاملة في شتى المجالات خلال 2024    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    الريسوني: مقترحات مراجعة مدونة الأسرة ستضيق على الرجل وقد تدفع المرأة مهرا للرجل كي يقبل الزواج    التنسيق النقابي بقطاع الصحة يعلن استئناف برنامجه النضالي مع بداية 2025    تأجيل أولى جلسات النظر في قضية "حلّ" الجمعية المغربية لحقوق الإنسان    بعد 40 ساعة من المداولات.. 71 سنة سجنا نافذا للمتهمين في قضية "مجموعة الخير"    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    ابتدائية الناظور تلزم بنكا بتسليم أموال زبون مسن مع فرض غرامة يومية    جهة مراكش – آسفي .. على إيقاع دينامية اقتصادية قوية و ثابتة    برنامج يحتفي بكنوز الحرف المغربية    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    مصرع لاعبة التزلج السويسرية صوفي هيديغر جرّاء انهيار ثلجي    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    لجنة: القطاع البنكي في المغرب يواصل إظهار صلابته    ماكرون يخطط للترشح لرئاسة الفيفا    بطولة إنكلترا.. ليفربول للابتعاد بالصدارة وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    نزار بركة: 35 مدينة ستستفيد من مشاريع تنموية استعدادا لتنظيم مونديال 2030    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالإضراب    مجلس النواب بباراغواي يصادق على قرار جديد يدعم بموجبه سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية    باستثناء "قسد".. السلطات السورية تعلن الاتفاق على حل "جميع الفصائل المسلحة"    تقرير بريطاني: المغرب عزز مكانته كدولة محورية في الاقتصاد العالمي وأصبح الجسر بين الشرق والغرب؟    تزايد أعداد الأقمار الاصطناعية يسائل تجنب الاصطدامات    مجلس النواب بباراغواي يجدد دعمه لسيادة المغرب على صحرائه    ضربات روسية تعطب طاقة أوكرانيا    وزير الخارجية السوري الجديد يدعو إيران لاحترام سيادة بلاده ويحذر من الفوضى    السعدي : التعاونيات ركيزة أساسية لقطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني    ارتفاع معدل البطالة في المغرب.. لغز محير!    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    ما أسباب ارتفاع معدل ضربات القلب في فترات الراحة؟    "بيت الشعر" يقدم "أنطولوجيا الزجل"    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تمغربيت
نشر في العمق المغربي يوم 06 - 05 - 2024

"إنّ فكْرةً خاطئةً وواضحةً تكون أَقوَى وَأشَدَّ تأْثيرًا عند الحشودِ مِن فِكْرَة صَحِيحَةٍ ولكنّهَا مُرَكّبةٌ". توكفيل.
انْتشَرتْ فِي السَّنواتِ الأخيرة دعواتٌ تُبشِّرُ ب"خِصيصَةٍ" جَديدةٍ عند المغاربةِ أطْلقوا عليْها "تَمَغْربيتْ". يتعلّقُ الأمرُ ب "هُويَّةٍ" غريبةٍ تَمتَحُ عَناصِر تَشكُّلِها مِن كُلِّ ما يقودُ أو يجبُ أنْ يَقُود إِلى بَلورَةِ "شَخصِيّةٍ" تَتَحرَّك خَارِج مُحدّدَاتِ المواطنةِ والحقّ والواجبِ وخارج مركزيَّةِ الفردِ في الدَّولة المدنيَّة الحديثةِ أيضاً. بَعضُ هذه العناصرِ دِينيٌّ، وبَعضُها عِرْقِيٌّ صريحٌ، وبَعضُها جِهوِيٌّ، وما فضَلَ منها يُصنّفُ ضِمنَ ما أطلقوا عليه: "التّعبيراتُ الشعبيّة"[1]. فكانت "تَمَغْربيتْ" هي الشّكلَ الوجوديَّ الذي يجمعُ بيْنهَا. إِنَّها بذلك تُؤسِّسُ لِكيانٍ جديدٍ لا يَكتَرِثُ فِي الغالبِ لِلشَّرْطِ الحياتيِّ كمَا يُمكنُ أنْ يُعَاش حقيقةً ضِمْن بِنياتٍ اِجْتماعيَّةٍ قَائِمةٍ على تبايناتٍ في المالِ والجاهِ والحُظوةِ والسّلطةِ والنّافعِ من الوطنِ وغيرِ النّافعِ.
قد يُحيلُ ذلك على سلّميّةٍ تصنيفيّةٍ تُوجَدُ خَارِج النَّاس وفوْقَ شرْطِهم الحياتيِّ، إنّها تَسمو على السيّاسةِ والإيديولوجيا، وهي بذلك قطعيّةٌ غَيْرُ قَابِلةٍ لِلتَّعْديل ولا يُمْكِن التَّداولُ في أحْكامِها. إِنَّها مُتعاليةٌ لا يَصلُها رذاذُ الصّراعِ الاجْتماعيِّ، ولا تنالُ منها عَوادي الدّهرِ، وهِي أيضاً فِي مَنْأى عن كُلِّ التَّجاذبات السِّياسيَّةِ القائمةِ على صِرَاعٍ للمصالِح لا دِفاعًا عن "شعب تَمَغْربيتْ". إنّها تُشيرُ بخاصياتِها هاتِه إلى سلوكٍ "فِطْرِيٍّ" شبيهٍ بِ"الجينات" الأصليّة السَّابقةِ على وُجودِنا فِي الحيَاةِ، فهي ما يُمِدُّ الفرْدَ والجماعةَ بِالجاهز فِي السّلوكِ والأهْواء. إِنَّنا لا نَتَعلَّمُ من خلالِها كَيْف نَكُون مَغارِبةً، فنحْن نُولدُ فيها مَغارِبةً قَبْل وُجودِنا فِي المجْتمع. إنّها تعبيرٌ عن رغْبةٍ في التّخلّصِ من الدّفقِ الزّمنيِّ من أجلِ استكْناهِ ما يُشكّلُ سماتٍ موجودةً خارجَ تفاصيلِ العيشِ اليوميِّ.
سنكونُ في جميعِ هذه الحالاتِ أمامَ تَنميطٍ قائمٍ على تصنيفٍ مُسبقٍ يُدرِجُ الفعلَ الفرديَّ ضمن نماذجَ سلوكيّةٍ هي ما يُصدّقُ عليه، فهي شرطُ امتثاليّتِه، ذلك أنّ الفردَ فيها واجهةٌ لحشودٍ لا تُرى. وذاك هو جوْهرُ "التَّصْنيف"، إنّه إقرارٌ بِوجود خَصائِصَ مُلَازِمَةٍ للمصَنَّف تَشمَل سلوكَه وتفْكيرَه ومخيالَه ورُدودَ أفعالهِ وأحكامَه على الأشْياء. إِنَّه يَخلُقُ حَالَة انتِظار يُمْكِن مِن خِلالِها تَوقُّعُ مَا يُمكنُ أنْ يَصْدرَ عَنْه. ووفْق هذَا التَّحْديدِ يَقتَضِي فِعْلُ التَّصْنيفِ "تَحصِينَ" الذَّات بِسلْسِلةٍ مِن المُسبقاتِ والأحْكامِ الجاهزةِ. إنّه يَتضمّنُ إحالةً على حنينٍ مُستبطَنٍ إلى ما ضاعَ أو ما يَتوهّمُ المُصنّفُ أنّه قد ضيّعهُ وهو يتلمّسُ طريقَهُ نحو حداثةٍ كسيحةٍ.
فَعلَى عَكْس المذْهبِ أو الطَّائفةِ اللّذين يَستَنِدان إِلى نُصُوصٍ صريحةٍ تُحرِّم وتُحلِّ وتُبرِّر المستحبَّ والمكروهَ، فَإِنّ التَّنميطَ يَتَحوَّلُ إِلى مِظَلّةٍ لا تُرى مِن أَجْل التَّغْطية على كُلِّ التَّفاوتاتِ التي تَتحكّمُ في تحديدِ مواقعِ الأفرادِ ضمنَ نسيجٍ اجْتماعيٍّ هو ما يُشكّلُ الوَضْعِيَّ في حَيَاة النَّاسِ. حينَها يُصبحُ التّنميطُ هو مَصدرَ العادلِ وغيْر العادلِ، ومعْيَارَ الخيْر والشَّرِّ وما يُقبَلُ وما يَجب أنْ يُرفَضَ. يتمُّ ذلك دائماً وَفْق مَا تُبيحُه تَامَغْربيتْ أو تَسمحُ به. لذلك كانت صُورتُنا لِلآخر مَحكُومةً بِالضَّرورةِ بِالصُّورةِ التِي نمْلكُها عن أَنفسِنا. إنّنا لا نحضُرُ في الوجودِ من خلال شرطِنا الثّقافيِّ، بل وَفق ما يُمكنُ أنْ يَسمو بنا على الآخرينِ. والحالُ أنّ الشّرطَ الحياتيَّ لَيْس حَالَةً حضاريّةً خَالِصةً تَتشكّلُ في الوِجدانِ من خلالِ سلوكٍ غُفْلٍ خَارِج كلّ المؤثِّرات، إنّه حاصلُ الكثِير مِن المصافِي والتَّمثُّلات الثَّقافيَّة المستبطَنةِ.
لذلك لا تَقومُ الرّوابطُ الاجتماعيّةُ ضمن "تَمَغْربيتْ" على عيشٍ مُشتركٍ تَتحقّقُ داخلَه مصالحُ الأفرادِ والجماعاتِ، بل"تَستمدُّ مشروعيّتَها وجَوهرَها من عنصرٍ خارجيٍّ لا يخلقُ نظيراً للذّات، بل يُشكّلُ عندها "آخرَ مطلقاً" يُبنى في الغيبيّاتِ والزّمنِ القُدسيِّ"[2]، وضمن ما أفرَزهُ القهرُ الاجتماعيُّ والسياسيُّ أيضاً. فالسّابقُ في الذّاكرةِ قياسُ كلِّ شيءٍ. وذاك مَصدرُ الفجَواتِ والكُوى الرَّفيعةِ التِي تقعُ على هامِش القانونِ ذاتِه. فالقانونُ وَاحِدٌ عِنْد جميعِ النّاسِ، ولكِنّ سُلْطانَه قد لا يَشمَلُ كُلَّ فضاءَات الجسْم الاجْتماعيِّ، هناك مناطقُ فِي "الهوِيّةِ" قد تَستعْصِي على "السُّلْطة" أو تَتَطوَّر داخلَ نِظَام قِيمي لا عَلاقَة لَه بِالقانون الوضْعِيِّ الذِي تتبنَّاه الدَّوْلةُ (لا يُحاسِبكَ الشرْطِيُّ على المخالفةِ فقط كما يَقتَضي ذلك القانونُ، إِنَّه يَستهْجِن سُلوككَ الذِي لا يُرَاعِي حرمةِ الدّين أيضاً).
وَهُو مَا يُؤكِّده التَّباينُ فِي الانْتماءِ إِلى الزَّمنيَّةِ ذاتِها. فالمدينةُ الواحدةُ عندنا مُوَزّعَةٌ على أَزمِنةٍ كثيرةٍ، بعْضهَا مِيلاديّ يَنتَقِي مِن الأيَّام مَا يُمْكِن أنْ يُحيلَ على موقِعٍ مُفترضٍ في التَّاريخ الكوْنِيِّ، وَأُخرَى هِجْريَّة تُسقِطُ زَمَنيَّةً خَاصّةً هي زمنيّةُ العقيدةِ والإرثِ الحضاريِّ للأمّةِ. هُنَاك تَوْق إِلى المسْتقْبل "الحداثيِّ" فِي الزَّمن، وهناك تشبُّثٌ بِزمنِيَّةٍ طقسيّةٍ تَخصّ الذّات وحدَها في الدّين: خرجَ الآلافُ من المواطنين فِي مَدِينَة الرِّبَاط دِفاعًا عن "الخُطة الوطنيَّة لِإدْمَاج المرْأة" التِي جَاءَت بِهَا حُكُومَة التَّناوب الأُولى، وَخرَج الآلَافُ مِثْلُهم فِي الدَّار البيْضاء يُنادون بِإسْقاطِها. فكيْف يُمكنُ توزيعُ "تَمَغْربيتْ" على هؤلاء وأولئِك. لا أحدَ فِي حَقِيقَة الأمْر يُمكنُ أنْ يُحدّدَ بدقّةٍ المعنى الحقيقيّ ل"تَامَغْربيتْ"، وكيْف يُجَسّدُها الأفْراد فِي سُلوكِهم. فَعدَا حالاتِ التَّجْييش والتّحريضِ الموْسميَّة أو العابرَة، كُلُّ شَيْء يُمْكِن أنْ يَعُود إِليْهَا بِما في ذلك حالاتُ الكسَلِ والتَّواكلِ والخمولِ والهمزةِ والمحسوبيّةِ و"الكالةِ" وعدَم احتِرام الوقْتِ والتَّلصُّص على الغيْر.
وفِي هذِه الحالةِ قد تُصْبِح "تَمَغْربيتْ"، بديلاً عمّا يحكمُ سلوكَنا في الفضاءِ العموميِّ، فنحْن لا نَحتَمِي فيها بِقانون وَضعِيٍّ هُو مَا يَضبُط العلاقات بَيْن النَّاس، بل نَنتَمِي إِلى تَصنِيفٍ سُلوكيٍّ وأخْلاقيٍّ مُسبَقٍ هُو الذِي يُحدِّد لنَا الكثِيرَ مِن رُدُود أفْعالِنَا. يتعلّقُ الأمرُ بتقاطُبٍ بين ما يُنظِّمُ عالماً وفق مصالحَ تخصُّ الأفرادَ والجماعاتِ، وبين آخرَ مُستمدٍّ من ميثاقٍ تَبنيه قناعاتٌ لا تخصّ سوى المؤمنينَ بها. وتلك كانَت مُنْطلقاتُ الكثِير مِن التَّنْظيمات المتطرِّفة التِي بدَّلَت الوطن بِالطَّائفة أو العرْق أو المذْهب (يَفتَخِر أحدُ الفقهَاء بِأَنّه أَسهَم فِي بِنَاء الكثِير مِن المرافق الرِّياضيَّة وغيْر الرِّياضيَّة خَاصَّة بِالنِّساء وحدهنّ. إنّه بذلك كان يؤسّسُ مَا يُشْبِه النِّحْلة[3] التِي تعيشُ على هَامِش المجْتمعِ وعلَى هَامِش قَوانِين وضعيّةٍ تَخُصّ جميع المغاربة) .
استنادا إلى ذلك يَتحوَّل التَّصْنيفُ إِلى مَسكُوكٍ عامٍّ قائمٍ على كلِّ ما تبنّاه النّاسُ أو آمنوا به خارجَ محدّداتِ المواطنةِ. لذلك قد يَمتَدُّ مداهُ لِيشْمل اِنْتماءاتٍ جزئيّةٍ أو فرعيّةٍ (النِّحَل) لا تطمْئِنُّ الذَّاتُ إِلَّا داخلَها. لا يعودُ الأمْرُ في هذا السّياقِ إلى نظامٍ رَمزِيٍّ يُوجِّه السُّلوكَ أو يُفسِّره، بل هُو إِكرَاهٌ يَقودُ الذَّاتَ إلى تَكيِيفِ مَواقفِها مع كلِّ ما أُودِع جهراً أو سرّاً في "تَمَغْربيتْ". إنّ الفردَ يَبحثُ في ذاكرةِ هذا التّوصيفِ عمّا يُحيلُ على محكياتٍ هي وحدَها قادرةٌ على تخْليصِ التّجربةِ من كلّ ما يَشدُّها إلى حقيقةٍ مستمدّةٍ من عيشٍ فعليٍّ. إنّه يعيشُ موزّعاً بين مَا يُشْبِه الغفْران والتَّطهُّر في الذّاكرةِ وبين منتجاتِ العصْر كما تَأتيه من الفضاءِ العموميِّ.
والحالُ أنّ الانْتماءَ إِلى الإنْسانيَّة لا يَتِم مِن خِلَال تَوهُّمِ وَحدَةٍ كَونِيّةٍ مَزعُومةٍ، بل يَتَحقَّق مِن خِلَال القُدرة على التَّصَرُّف فِي المُتاح الإنْسانيِّ وَفْق حاجاتٍ يفْترضهَا الانْتماء إلى إرثٍ حضاريٍّ، ووفق ما يَقتضيه معيشٌ يَومِيٌّ يُفْرِز حَالَة وَعْيٍ، هي ما يُوجِّه السُّلوكَ وَيُحدِّد نمطَ العلاقاتِ بَيْن النَّاسِ في هذا المعيشِ ذاتهِ. وهي أيضاً مَا يُبلْوِر هُويَّةً تتحقّقُ ضمنَ ما يُشيرُ إلى مصيرٍ مشتركٍ يجمعُ بينهم في قديمِ التّاريخِ ومستقبَلِهِ.ِ وذاك ما يشكِّلُ وحْدةً قادرةً على اِسْتيعاب خُصوصيَّاتهم في الانتماءِ إلى وطنٍ هو الجامعُ بينهم. فالكثِير مِمَّا كان يُعَدُّ جُزْءًا مِن الهوِيّةِ تَحوَّل اليوْم إِلى عَناصِر فُلكلوريَّة لا تَستثِيرُ أحداً ولا يتذكَّرهَا النَّاس إِلّا فِي المواسم أو في بعض الطُّقوس الدِّينيَّة.
وهذا معناهُ "أنّ الانْتماء إِلى مَجمُوعةٍ مَا لا يَقتَضِي اِنْسجامًا ثَقافِيّاً، إِنَّه في وَاقِع الأمْر حَاصِلُ إِرادةٍ سِياسِيَّةٍ"[4](حسن رشيق)، وقد يحدثُ أنْ "تتشكّل هُويَّاتٌ جَماعِيّةٌ حَتَّى فِي غِيَاب وَجودِ ثقافَةِ وَلغَةٍ مُشْتركتيْنِ"[5](حسن رشيق)، أي حتى في غياب تَمَغْربيتْ. وتلك هي طبيعةُ العيشِ في المجتمعِ، إنّنا نولدُ وننمو داخل زمنيّةٍ تُغيّر من شكل وجودِ كلِّ شيءٍ. لذلك تتحدّدُ "الكائنات الإنسانيّة بما يمكنُ أنْ تكونَ عليه، أيْ بما سيلْحقهَا مِن تَغيِير، لا بما هي عليه في الزّمنِ الرّاهنِ"[6]، أو ما كانت عليه. إنّ الثَّابتَ الحقيقيَّ فينا هُو القابلُ لِلتَّغَيُّر، فنحْن لا يُمْكِن أنْ نُوجَد فِي الزَّمن خَارِج احتمالاتِ التّحوّل. وقد يَكُون ذَلِك هُو مَا يدْفعنَا إِلى الاحْتفاظ بِصورِنَا فِي ألْبومات العائلةِ، إِنَّنا مِن خِلَال ذَلِك نَلتَقِط التَّغَيُّر فِي مَا يُشكّل إنِّيّةً[7] دالّة على الثّباتِ فينا. إنّنا نَبني من خلالها قصّةً تَستوعبُ عناصرَ الديْمومةِ والعارضِ في كيْنونَتنا.
بعبارةٍ أخرى، إنّ "الهوِيةَ ليسَت كِيانًا مُغْلقًا، إِنَّها أثرٌ مِن آثارِ الزَّمنِ، وَهِي بِذَلك مُدرَجَةٌ ضِمْن مآلٍ، فَ"الأنَا" تعيشُ حياتَها كلَّها ضِمْن هذا المآل، وستكونُ عوْدتُها إِلى الماضي اِسْتثارةً لحنينٍ وعبادةً لِلْموْتى"[8]، كما يؤكّدُ ذلك الخطيبي. إنّها بِذَلك خطاطةٌ عَامَّةٌ أُودِعتْ فِيهَا وضْعيَّات وأحْدَاثٌ ومواقفُ ورمُوزٌ وكُل ما يُمْكِن أنْ يَشتَمِل عليْه مُتَخيَّلُ أُمَّةٍ مَا، كمَا تَصوغُه اللّغَةُ وتضعُه لِلتَّداول، أو كما يُحيل عليه شرْطُها الحياتيِّ. إنّ مضمونَ الهوِيّةِ لا يكمُنُ فِي الاسْتغْراق الكُلّيِّ فِي مُحدّدَات أَولِيّة تُصنَّفُ الكائناتُ داخلَها حسب ما تُمليه "جيناتُ" الفصيلةِ، بل هي القدرةُ على التجدّدُ داخل الإرث وداخل المُتاح الحضاريِّ.
وعكس هذه الثّوابتِ تُصبحُ "الهويّةُ"، كما تتمُّ صياغتُها في "تَمَغْربيتْ"، مستعصيّةً على الإدراكِ إِذَا لم تكُن تميُّزًا عن الآخر، ما يُمكنُ أنْ يُشيرَ إلى تَبرِئةِ ذِمَّةٍ من المواطنةِ وتنصُّلٍ مِمَّا جاء بِه العصْر، في الوقتِ ذاته. إنّ الأمرَ في "تَمَغْربيتْ" شبيهٌ بالأساليبِ الدعائيّةِ القديمةِ، فلَا يُمْكِن لِأيِّ نشاطٍ دِعائيٍّ إغفالُ دَوْرِ الحكاياتِ فِي الإقْناع الانْفعاليِّ، "فالدِّعايةُ كانت دائمًا هِي فنَّ رِوايةِ الحكايات"[9]. لذلك لا تُشكِّلُ "تَمَغْربيتْ" خطراً على الدّاعينَ إليها، إنّها تُصبِحُ كذلك عندما يَعْتقنهَا البسطاءُ وتُصبحُ عائقاً عندهم عن التَّمْييز بَيْن الحقيقيِّ والمُستهامِ، حقيقتُهم في التّاريخِ وفي المعيش اليوميِّ، على حدٍّ سواء. "فلا وُجُود لِلعنْصريَّةِ بَيْن الأغْنياء، فقد يُنتِجُ هؤلاء عَقائِد لِلْعنْصريَّة، ولكِنّ الفقراء هم من يجسّدُها في الممارسَةِ، وذاك أَخطَرُ مِن العقيدةِ"[10].
فلا وجودَ إذن لبُعدٍ موضوعيٍّ في تقديرِ الأشياءِ والحكمِ عليها، إِنَّ "الحقيقة" تُصنَع الآن فِي المُختبراتِ ومَكاتِب الخبْرةِ وسبْر الآرَاء وَفِي مَا يُمْكِن أنْ تُحَدِّدَه الخوارزْميَّات التِي تَتَحكَّم فِي تَوجِيه الرَّأْي العام وَفْق مَا تَودُّه المؤسَّساتُ السِّياسيَّة والاقْتصاديَّة. إنّنا نعيشُ في عصرِ "ما بعدَ الحقيقَةِ"، ومن ميزاتِ هذا العصرِ "أنّه يشوِّشُ على الرَّأْي العام ويَعوقُه عن التَّمْييز بَيْن الصحِيحِ والمزيّفِ"[11]. لذلك لا يُشكّل الرأيُ العام هويّةً "ولا يَتَمتَّع بِالوَضْع الإبسْتيمولوجي لِلعلْم، ولا بِالوَضْع الأنْطولوجيِّ لِلحقيقة، إنّه لا يَتَجلَّى أبدًا كمَا هُو، فهو لا يَكشِف عن نَفسِه إِلَّا مِن خِلَال وُجُود مَحفل تُوَسّطِي بَيْن الشَّعْب والسُّلْطة التَّنْفيذيَّة"[12]. و"الإرادةُ الجماعيّةُ" هي ما يُشكّلُ هذا المحفل، فهي تتحقَّقُ في الفضاءِ العموميّ وفي صناديقِ الاقتراع، لا في المساجِد والأدْيِرةِ وفي ما قد يُنسبُ إلى "تَمَغْربيتْ".
لذلك كان التَّبْسيطُ خَصِيصَة مِن خاصِّيَّات التَّصْنيف، إِنَّه مَصدَرٌ للحُكمِ السَّهْلِ وهو ما يقودُ إلى النُّفور مِن التَّعْقيدِ والأحْكامِ المُرَكّبةِ. أو هو الخلْطُ بَيْن خُصوصيَّات فِي المأكلِ والملْبس وفِي طَرِيقَة النُّطْقِ أو التَّرْكيب والتَّباينات فِي تَسمِيةِ بَعْض أَشيَاء المحِيط، وهذا أمرٌ يَقتضيه عيشٌ مشتركٌ هو أساسُ الانتماءِ إلى وطنٍ محدّدٍ في التّاريخِ والجغرافيا، وبين "نمطٍ" مُصطنعٍ في الوجودِ يَستندُ إلى "قاعدةٍ سلوكيّةٍ" تَبنِي "حقيقتَها" وَفْق خُصوصيَّات مُستهامةٍ يَصعبُ في الغالب تَحدِيدُ مضْمونِها بِدقَّة. يَجِب أنْ نُغرِقَ قيمَ الحداثةَ فِي مَجمُوعةٍ مِن المُسبقاتِ الأخْلاقيَّةِ والعقَديّةِ، لِكيْ نَتَخلَّص مِن تَبِعاتِها فِي السُّلوك وتنظِيمِ الفضَاءِ العموميِّ.
وهنَا أيْضًا سنصْطَدِمُ مَرَّة أُخرَى بِالتَّمْييز الشَّائع بَيْن الرَّأْي والعِلم، الأوَّل أَحاسِيس ذَاتِيّةٌ لا تَستَنِد إِلى أيّ تَجرِبةٍ، أَمَّا الثَّاني فَمبنِيٌّ ضمن ما تقولهُ وَقائِعُ فِعْليَّة. إنّ العِلْمَ أحكامٌ مركّبةٌ ميزتُها أنّها خاليةٌ من تقديراتِ الذّات، أمّا الرأيُ فمجرَّد أَفكارٍ بَسِيطَة يتداولهَا النَّاس فِي الصالوناتِ الخاصّةِ والمقاهي والباراتِ وفي شبكات التّواصلِ الاجتماعيِّ. وذاك هو مَصدرُ التّناظُرِ بين الرأيِ والتّبسيطِ. إنّ النَّاسَ ميَّالون إِلى تَنظِيم تجاربِهم الخاصَّة أو الجماعيَّة اِسْتنادًا إِلى مَا تُوَفّره خِبْرَةٌ مَحَليَّةٌ أو ما تسرّبَ إليهم مِن مُعْتقداتهم أو إيديولوجياتِهم. إنّ الرّأيَ شبيهٌ ب "لُغةِ الخشَبِ" فهي دائماً " كلامٌ مزيفٌ"، بتعبير أرمان روبين[13]. إنّه وَسِيلَةٌ مُثلى مِن أَجْل تَجاوُز الحواجزِ التِي يُقيمُها العقْل حِمايةً لمبادِئه.
لذلك كانت "الفكْرةُ البسيطةُ قادرةً دائماً على جعلِ الإحاطة بواقعٍ معقّدٍ، أمراً سهلاً، إنّها، مَثَلُها في ذلك مَثَلُ المسْكوكِ، تُطمْئنُ الذّات لِأنَّهَا تُقدُّم إليها تفْسيرًا بسيطًا ومريحًا"[14]. بعبارة أخرى، "إِنَّ التَّبْسيط والغُلوَّ فِي المشاعرِ والأحاسيس يُجنِّبان الحُشودَ الشَّك والتَّردُّدَ[15]". وقد كان توكفيل يقولُ "إنّ فكْرةً خاطئةً وواضحةً تكون أَقوَى وَأشَدَّ تأْثيرًا عند الحشودِ مِن فِكْرَة صَحِيحَةٍ ولكنّهَا مُرَكّبةٌ". وَهذَا ما يُفسِّر التَّباينات التي تتحكّمُ في سُلُوك الفرْد. فبإمكانِه بَلورَة الكثيرَ من الأحْكامِ يكون مَصْدَرُها العقْل، ولكنَّه وسطَ الحُشودِ يَتَبنَّى آراءَ الآخرين. يَجِب أن نَعُود دائماً بِالرَّأْي الفرْدِيِّ إِلى مَا تُصدِّق عليْه الجماعةُ.
وذاك ما يُميّز الانفعالَ عن أحكامِ العقلِ؛ إِنَّه يَشتَرِطُ تَنشِيطَ مَا اسْتبْطنته الذَّاتُ فِي شَكْل اسْتيهاماتٍ تَسكُن مَحْكيَّات تَنتَشِر فِي تَفاصِيل عَيْش النَّاس. وهذا ما يُفسّر أنّ كُلَّ الأساليب الدِّعائيَّة، القديمةِ منها أو تلك التي اتّخذتْ في عصرنا شكلَ "تواصلٍ"، قد تميّزت بقدرتها على نَسْج محْكيَّات، إِنَّها كانت ومازالت جُزْءاً مِمَّا يُطْلَق عليْه "العصْر السرْدِي"، فالنَّاس لا يُكَوِّنون آراءَهم بِشَكل حُرٍّ وإراديٍّ، إِنَّهم مُوجَّهون مِن دَاخلِهم نَحْو قَوْل مَا يُرَادُ لهم قولُه. لِذَلك لا يُشيرُ الَّذين يتحدَّثون عن "تَمَغْربيتْ" إِلى أسبابِ فقْرِنا وبُؤسِنا والفسادِ الذِي يَنخُر إِداراتنَا وجامعاتِنا والكثير مِن مُؤسَّساتِنا. ولا يتحدّثون أيضاً عن "مَغارِبة الحداثةِ" و"مَغارِبة التَّقْليد" ولا يُميّزون بيْن "مغاربةِ الفقرِ" و"مغاربة الثّروةِ" وبين "مغاربة النّزاهةِ" و"مغاربة الهمْزة".
وتلك هي الخصيصةُ التي يُشيرُ إليها غُوسْتَاف لُوبون أيضاً وهُو يَتَحدَّثُ عن "سيْكولوجيَّة الحُشودِ"، فبناءُ "هويّةٍ شاملةٍ" يَقتضي بالضّرورةِ تبسيطَ الوقائعِ والتّقليصَ مِن مَداهَا مِمَّا يُؤدِّي إِلى بَلورَةِ "حَقِيقَةٍ كليّةٍ" لا تَقبَل الضِّدَّ والنِّسْبيَّة. وليس غريباً أنْ يتمّ الرّبطُ عند بعضِ دُعاةِ تَمَغْربيتْ بينها وبين ما أُطلِقَ عليه "يقينيّات محليّة" (وهو أمرٌ غريبٌ حقاً أنْ يتحّدث المثقفون عن "اليقين"). فما كان يُشكّلُ في الغالبِ أَحكَاماً اِجْتماعيَّة أو مَعرِفةً مَعيشِيّةً تَخُص تَنظِيم شُؤُونٍ حَياتِيَّة عابرةٍ، كمَا هو الحال عِنْد القبائلِ والعشائرِ والتّجمعاتِ السكانيّة المعزولةِ، يَتَحوَّل فجأةً إِلى حَقِيقَةٍ مُطلَقَةٍ تُبنَى عليْهَا هُويَّةٌ جَدِيدَةٌ هِي التِي يَستَنِد إِليْهَا المغاربةُ فِي تَنظِيم حَياتِهم، كُلُّ المغاربةِ، الأغْنياءُ مِنْهم والفقراءُ والدّهماء وسفلةُ القومِ والذين لا تَصنيفَ لهم.
بل إنّ اللّغة ذاتَها لا يُمكنُ أنْ تكونَ قادرةً على التّعبيرِ عن تَمَغْربيتْ إلا إذا كانت عاميّةً تَكتفي في الغالبِ بتدْبير شأنٍ يوميٍّ أو بنقلِ الحسيِّ واستنساخهِ. والحال أنّنا نَستعْمِل اللغَةَ أَدَاة لِلْإفْلات مِن ربقةِ الطّبيعةِ ومحدوديّتِها، وتلك وظيفتُها الأساس. فَأن تُسمِّي مَعْنَاه أن تَنفَصِل عَمَّا تُسمِّي. بل إنّ التَّسْمية ذاتهَا لَيْست سِوى لَحظَةٍ فِي التَّعْيين، فجوْهر اللّغَةِ هُو الخُروج بِالذَّات مِن تمثُّلَات العيْشِ إِلى مَا يُمْكِن أنْ يُشكِّلَ عالماً مُمْكِنا فِي الذّاكرةِ. إنَّ الكفَاف لَيْس فِي العيْش وَحدَه، إِنَّه فِي التَّمْثيل الرمْزِيّ أيْضًا وَفِي اللغَة تحْديدًا. "فما تُشيرُ إليه الأحلامُ والاستيهاماتُ والأساطيرُ يعبّر في واقعِ الأمر ِعن ميلِ الذّاتِ الدّائم إلى أنْ تكونَ مصدراً للمعْنى (...) لِذَلك تَمتَدُّ جُذُور اللّغَةِ فِي الرَّغْبة وَفِي كُلِّ الغرائز التِي تُحرِّكُ جُزْءًا مِن حَياتِنا"[16].
وضمن "تَمَغْربيتْ" أيضا تُصنّفُ الأصواتُ الدّاعيّةُ اليومَ إلى "تَصحيحِ" التّاريخِ، واستبدالِ "الفتح الإسلاميّ" ب "الغزو". فهذا التّصحيحُ وحده سيُخلِّص الذاكرةَ المحليّةَ من كل ما علِق بها، لغةً وديناً وقيماً وتاريخاً وشواهدَ وأمثالاً، لكي تستعيدَ الأمّةُ "عِرقَها الصّافي" كما كان، خالياً من كلّ الشّوائبِ قبلَ أنْ يُلطّخَه "الغزاةُ" أو" الفاتحون". لذلك قد تُوهِمُ "تَمَغْربيتْ" بِالتَّعدُّديَّة فِي القيم الروحيّةِ والثقافيّةِ، ولكنّها فِي وَاقِع الأمْر لا تُبشِّر سِوى بِحقيقةٍ وَاحِدةٍ هِي مَا يَجمَعُ بين كُلِّ المغاربة، فلَا يَتِم الحوَار فِي الفضَاء العموميِّ ضِمْن مَا تَقتضِيه علاقَاتٌ تَتِم بَيْن أفْرادٍ تجمعُ بينهُم صداقاتٌ وصراعاتٌ ومصالحُ، بل اِسْتنادًا إِلى مَا يَسمَح بِه التَّصْنيفُ المُسبقُ.
وإلى تَمغْربيت أيضا تستنِد السُّلْطة في وجودها وفي شكلِ انتقالِها من "الضّبطِ" إلى "المراقبَةِ". فهي تَتَبنَّى الحداثةَ ودوْلَةَ القانون فِي وسائِل إِعْلامِها دُون أن تَمنَع أَذرُعَها الدِّعائيَّة فِي الدِّين وبرامجِ التلفزيون والوصلاتِ الإشهاريّةِ وَفِي تَقالِيد الحُكم، مِن ضَبْط إِيقَاع قِيم الحداثة وأشْكَال تَنزِيل القانونِ وَفْق مَا تُبيحه هَذِه الأذْرع وتسْمح بِه. ووفق ذلك يُستعاضُ اليوم عن الشَّعْب، وَهُو مَقُولَة سِياسِيَّة، بِمقولة تَمَغْربيتْ، وهِي مَقُولَة عائمةٌ وفضْفاضةٌ مِن طَبِيعَة تصْنيفيَّة تبْسيطيَّة. يتعلّق الأمرُ وفقها بالتّبشيرِ بديموقراطيةٍ جديدةٍ تُبنى خارجَ محدّداتٍ تتحقّق في التّمثيليّة والمجتمعِ المدنيِّ، أي ضمن ما يَقْتضيه التّداولُ على السّلطةِ.
والحالُ أنّ الديموقراطيّةَ هي فنُّ تَدبيرٍ التعدّد والتنوّع، إنّها لا تتأسّسُ على "إجماع الأمّة"، ولكنّها لا تَقومُ على التشظّي أيضاً، إنّها صيغةٌ حضاريّةٌ تُمكّنُ المفكّرين والفاعِلين السيّاسيين من إعدادِ فضاءٍ ثقافيٍّ قادرٍ على استيعابِ التنوّعِ في المعيشِ وفي الطّقوسِ وفي القناعاتِ العقَديّةِ والفكريّةِ في الوقتِ ذاته.
لذلك قد تكونُ تَمَغْربيتْ في هذا السياقِ أيضاً وسيلةً من أجلِ اِمتِصاصِ التَّناقضات الاجتماعيّةِ الدَّاخليَّةِ بإِعادة صِياغة الكثيرِ من الحقائقِ بِعباراتٍ لا تُلْغِي الواقعَ، ولكنَّها تُجنّبُ الذِّهْنَ التّفكيرَ في بشاعَته. إِنَّها قَادِرة على تَقدِيم غَطَاء إيْديولوجيٍّ يُبْدِل تسمْياتٍ وأوْصَافاً بِأخْرى أقلّ قسوةً. ومن أجلِ ذلك كان من الضّروريِّ بلورةُ لغةٍ جديدةٍ تُعيد تسميةَ الكثيرَ من الأنشطَةِ والكيانات بما يَنزعُ عنها كلّ وسمٍ إضافيٍّ من طبيعةٍ اقتصاديّةٍ أو سياسيةٍ.
ستُصبِحُ "الهشاشةُ" حينها بديلا عن الفقرِ، فالأولى تُشيرُ إلى قدَرٍ لا رادَّ له أو إلى قصورٍ ذاتيٍّ، أمّا الثّاني فحاصِلُ توزيعٍ غير عادلٍ للثّرواتِ يجبُ إصلاحُه. وسيُصبح "المشْروع" وهو وعودٌ عامة، بديلاً عن "البرْنامج" الذي هو التزامٌ سياسيٌّ، وستكون "الحُقوقُ نفْسُهَا" هي البديلَ عن "المساواة أَمَام القانون"، وتحلُّ "حِمايةُ المسْتهْلكِ" محلَّ "زَجْر الغشَّاشين"، ويُعفينا "تسهيل العيشِ" من "تَغيِير شُروطِهِ". وتلك إحدى " الوَظائِف الأساسيَّة للسّلطةِ، إنّها تَمنَحُ الأشْياءَ التِي تكْرهُها الحُشودُ أَسمَاءً مُحَايدَةً أو لا تُثارُ حوْلهَا الشُّبهاتُ، فالكلماتُ تَملِكُ من القوّةِ ما يجعلُ النَّاسَ يَقْبلون بمَا كَانُوا يرْفضوه قديمًا"[17].
والحاصِلُ من كلِّ ما سبق هو أنَّ تَمَغْربيتْ، على عَكْس ظَاهِرها، لا تُوحِّد بين النّاس، إِنَّها تَطمِسُ الخصوصيَّات وتُلْغيهَا أو تُخفِّفُ مِن حِدَّتهَا. يَتَعلَّق الأمْر بِاسْتثارة مَا كان يُسَميه غوستاف لوبون دائماً: "الرُّوح الجماعيَّة"، تِلْك الأنَا الكُليّةُ التِي تُمكَّنُ مِن مُخَاطبَة الفرْدِ مِن خِلَال انْتمائِه إلى "مجمُوعةٍ" لا تُحَدّدُها مَصالِحٌ اِقْتصاديَّة، كمَا هُو الشَّأْنُ مع الطَّبَقة والِجسمِ المِهَنيِّ أو المجْموعة الحرفيَّة، إنّها تَحتمي بمجموعِ الأحكامِ والمواقفِ التي تُعَدُّ ضمانةً على "انسجامِ" الجماعةِ و"تماسُكِها". إِنَّها تنظرُ إلى الفردِ باعتبارهِ رقْمًا ضِمْن حُشُودٍ لا تُفكِّر استناداً إلى وقائع محدّدةٍ. إنّها بذلك لا تثقُ سوى بما يُمكنُ أنْ يَأتي من "انفعالاتٍ جماعيّةٍ" عارضةٍ، أو من "أهواءَ" تتغذّى من الأحكامِ الاجتماعيّةِ أو من أوهامِ العرقِ أو الطائفةِ أو مما يمكن أنْ يُفرَزه الإيمانُ العقَديُّ.
وهكذا يُمكنُ أنْ تتحوّلَ "تَمَغْربيتْ" إلى مَدخَلٍ نَحْو الشُّوفينيَّة والعنْصريَّة والاكزينوفوبيا، بل قد تكونُ وَسِيلَةً لِخَلق الكثِير مِن الأوْهام حَول ذاتٍ لا تُشْبِه الذَّوَات، وَبذَلِك قد تَكُون مُبَرّراً لِلاضْطهاد والقَمْع وَكُلِّ مَا تحْتاجُه السُّلْطة مِن أَجْل تَبرِير وُجودِها، وهِي أيْضًا وسيلةٌ لطَمْس التَّفاوتات فِي الثَّرْوة والمعْرفةِ والمراكز الاجْتماعيَّة. هُنَاك الكثِيرُ مِمَّن يُصنَّفون ضِمْن "تَمَغْربيتْ" لا شَيْء يجْمعهم بِالمغْرب وفقرائِه وبسطائِه ولا يمدّون جذورهم في تُربتِه الثّقافيّة.
إنّ الثَّابتَ فِي الوُجود هُو أنَّ الإنْسان لم يَبحَث دائمًا فِي ذَاتِه عَمَّا يجْعله مُتفرِّدًا ومميّزا، لقد فعلَ ذلِك فِي الكثِيرِ مِن الحالاتِ وهو يَمضِي إِلى الآخرِ لِيتعَرَّف على نَفسِه مِن خِلَال مُميّزَات غَيرِه لا مِن خِلَال مَا يكوِّنُه أو يَصدُر عَنْه. "إنّ خطورةَ التّضليل[18] تكمنُ في أنّه "يتسلّلُ خِلْسَة إِلى ذِهْن النّاس مِن أَجْل إِيداعه رأْيًا أو اِسْتثارة سُلُوكٍ دُون أن يُدْرِكوا أنَّ الأمْر يَتعلّقُ حقّاً بتضليلٍ "[19].
الهوامش:
[1] -يتحدّثُ البعض عن لغةٍ " مغربيّة"
[2] – Valérie Sacriste : Communication publicitaire et consommation d'objet dans la société moderne, Cahiers internationaux de sociologie 2002/1 (n° 112), Éditions Presses Universitaires de France, p148
[3] – النِّحلة secte وهي تصنيف فرعي داخل المذهب الواحدِ.
[4] -Hassan Rachik : Symboliser la nation, éd Le fennec, p. 25
[5] – Hassan Rachik : Symboliser la nation, p.25
[6] – Stéphane Ferret : L'identité, éd Flammarion, 1998, p. 17
[7] – تشتمل الهويةُ عند بول ريكور على يافطات يَعود بعضها إلى ما اكتَسبه المرء وتطبَّع به بحكم عيشه في محيط يستمد منه النَّاس جزءا كبيرا من هويّتهم (العينية). ويعود البعض الآخر إلى ما يُشكلّ "أصالة" الذّات وقدرتها على "تحمل مسؤولية" ما تقوم به انطلاقا من موقف شخصي(الإنيّة).
[8] -« interview imaginaire », in Qantara (Cultures en mouvement) « L'Europe vue du monde arabe », n°5, Paris, oct. nov. déc. 1992, p.15 (Institut du Monde Arabe).1992
[9] – David Colon : Propagande, la manipulation de masse dans le monde contemporain, éd Champs, Falammarion2021, p.287
[10] -أومبيرتو إيكو: دروس في الأخلاق، ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2010، ص 144.
[11] – David Colon : Propagande, op cit, p.289
[12] – روبير ريديكير: شبكات التواصل الاجتماعي، حرب التنانين، ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي للكتاب، بيروت 2023، ص 141
[13] -انظر David Colon : Propagande, op cit, p.152
[14] -David Colon : Propagande, op cit, p.287
[15] – Gustave Le Bon : Psychologie des foules, éd Champs,2022, , p.73
[16] -Paul Ricœur : Le conflit des interprétations , essais d'herméneutique, éd Seuil, 1969 p.24
[17] – David Colon : Propagande, la manipulation de masse, op cit , p.144
[18] -manipulation
[19] -Philippe Breton : La parole manipulée, éd La découverte, 2020, p.24


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.