في مقال سابق تناولت كيف اخترقت الرقمنة مختلف مناحي الحياة والتحديات التي وضعتها في وجه الأسرة في تعاملها مع هذا الحضور المكثف للأجهزة الإلكترونية. وفي هذه المقالة سأحاول تقديم بعض الأفكار التي يمكن أن تساعدنا على مواجهة هذه التحديات وحماية أطفالنا والشباب من الأضرار التي تهددهم بسبب التعامل المفرط مع الشاشة والإدمان على استعمال التطبيقات الرقمية الذي يرجع إلى الطريقة التي صممت بها من قبل شركات التكنولوجيا العملاقة التي تسعى إلى جذب انتباه المستخدمين وخطف أذهانهم وبذلك سرقة أوقاتهم. لقد سيطر الزمن التقني و"الزمن الميدياتيكي" Temps mediatique على حياة الأفراد مع ارتفاع عدد الساعات التي يقضونها مع مختلف الوسائط الإعلامية والشبكات الاجتماعية الرقمية التي تبتلع جل ما تبقى من ساعات الزمن الاجتماعي للإنسان. وأدى هذا إلى اختلال التوازن في حياة الناس، إذ كلما زادت ساعات ارتباط الإنسان بمختلف المنصات الرقمية تراجع نشاطه الاجتماعي والعكس صحيح. إن الانشغال بشكل مبالغ فيه بالزمن "الزمن الميدياتيكي" يساهم في غرس قيم سلبية كالنزعة الاستهلاكية والفردانية والانعزال عن المجتمع، بسبب تقلص الوقت المخصص للأسرة والأصدقاء وباقي الأنشطة الاجتماعية والتأثير الذي تقوم به صناعات اللذة وأجهزة الإعلام في تشكيل وصياغة لذات ورغبات الأفراد. لقد أصبح الإنسان ذاتا مشتتة لارتباط كيانه بأنماط استهلاكية أو بتجربة من تجارب "الميديا" بتعبير المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري. وساهمت التقنيات الحديثة في تسريع إيقاع العالم، فتسارع معه إشباع الرغبات وتولدت احتياجات جديدة ومتجددة يسعى الفرد إلى إشباعها، فاشتدت بذلك الضغوط الاجتماعية على إنسان العصر الرقمي. وتعد عملية تدبير الزمن الذي نقضيه أمام الشاشة ضرورية حتى يتحقق التوازن في حياة الأفراد، وهو ما يتطلب ترتيب الأولويات وتدبير جيد وفعال للوقت، كما أن على الأسرة أن تلتزم بعدد من السلوكات حتى يتحقق التوازن في حياتهم. ولكن قبل أن نفصل في خصائص هذا التوازن، لا بد من نشير إلى مسألة جد أساسية في العملية التربوية وهي القدوة، حيث لا يمكن الحديث عن تغيير سلوك الأطفال في تعاملهم مع الشاشة إذا لم يكن الأب أو الأم نموذجا، وعليه فإن أول أمر يجب أن يلتزما به هو أن يطبقا قيودا عليها أولا في التعامل مع التكنلوجيا خاصة الهاتف النقال، هذا دون الحديث عن ضرورة التشبع بالثقافة الرقمية تمكنهما من حسن التعامل مع التكنلوجيا . وفيما يلي بعض الأفكار التي يمكن أن تساهم في في تحقيق التوازن: – تعطيل الإشعارات من التطبيقات على الهاتف للحد من الطلبات غير المرغوب فيها. على الشاشة خاصة Whatsapp أو أي إشعار آخر للشبكات الاجتماعية الرقمية. وهو ما سيقلل من إغراء استعمال الهاتف. – إقامة "ملاجئ" بدون شاشة في المنزل، بمعنى إنشاء عادات جديدة عبر تخصيص فضاءات خالية من الشاشة. – إعادة ترتيب أثاث البيت حتى يتمكن الأطفال من اللعب والاستمتاع بدون شاشة. – تخصيص يوم في الأسبوع بدون شاشة. أي شاشة لأي عمر؟ لكن يبقى التساؤل الذي يشغل بال العديد من أولياء الأمور وهو في أي سن يمكن أن يسمح للأطفال باستعمال الأجهزة الرقمية. وهذا ما سنحاول تناوله في الفقرات التالية. تشير الدراسات العلمية إلى أن الطفل يمر بمراحل مختلفة من النمو والتطور، ولذلك فمن اللازم أن يكيِّف الآباء أنفسهم مع هذه المراحل جميعها وفقاً للاحتياجات الخاصة للأبناء في كل مرحلة. وهو ما دفع بالباحثين في مجال التربية الرقمية إلى اتباع نظام للحماية من مخاطر الشاشة. ويأخذ بعين الاعتبار مراحل النمو الأساسية للطفل. فما هو وقت الشاشة المسموح به وفقًا لعمر الطفل؟ قبل 3 سنوات ينصح في هذه المرحلة بعدم تعريض الطفل لأي شاشة سواء أكان تلفزيونا أو هاتفا وعدم جلوسه أمامها ولو لدقائق لأن هذه المرحلة من النمو تحتاج إلى أن يتعلم الطفل معالم الزمان والمكان عبر استعمال الحواس الخمس والتفاعل مع محيطه. في المقابل يجب التركيز على الألعاب اليدوية وتنمية القراءة لديه. ما بين 3 و6 سنوات في هذه المرحلة يمكن أن يشارك أولياء الأمور مع أطفالهم الشاشة والسماح بمشاهدة المضمون المناسب لكن باعتدال واحترام نظام تصنيف البرامج وفق الأعمار. كما أن الباحثين في مجال الثقافة الرقمية ينصحون بعدم تقديم جهاز وحدة تحكم في ألعاب الفيديو للطفل مع التشجيع على الألعاب الاجتماعية والخروج إلى الطبيعة. ففي هذا العمر، يحتاج الطفل بشكل خاص إلى تطوير خياله واللعب بيديه وفهم بيئته. وفيما يتعلق بالكمبيوتر اللوحي، فإن استخدامه، حتى لو كان مرحًا، يجب ألا يستحوذ بأي حال من الأحوال على انتباه الطفل الكامل. مع الحرص على حسن اختيار البرنامج المناسب. كما أنه من المهم تحديد وقت مخصص للشاشة من أجل تعليم الطفل الانتظار (وهي أول لحظة في تعلم التنظيم الذاتي) وتفضيل الشاشة المشتركة (التلفاز مثلا) والمصاحبة على الشاشة الانفرادية، والتحدث مع الطفل عما يرغب أن يشاهده. إن الطفل الذي يتراوح عمره بين 3 و 6 سنوات (وحتى أكثر من ذلك) يحتاج إلى اكتشاف كل إمكانياته الحسية واليدوية، كما يحتاج إلى طرح الأسئلة، والعثور على إجابات من قبل الكبار، لفهم ما يراه. وهو ما لا يمكن القيام به بمفرده أمام الشاشة، حيث يحتاج إلى واقع ملموس، والتفاعل مع الكبار والأطفال الآخرين لبناء شخصيته. وإلا سيكون عرضة لاضطرابات عصبية ومشاكل سلوكية وضعف الانتباه نتيجة تعرضه للشاشة التي تجعله سلبيًا. لدى فمن الأفضل به أن يشجع على القراءة والألعاب البدوية. ومنحه وقتًا بدون شاشة، ووقتًا للعب، والحوار، وأيضًا وقتًا للحلم والملل ! وهذه القدرة على التفكير هي التي ستسمح ببناء شخصيته في الحفظ والاستيعاب والتي ستجعل أطفالنا قادرين على إيجاد حلول في المواقف الصعبة. بين 6 و 9 سنوات يمكن أن تصبح الشاشة أداة تعليمية في هذه المرحلة مع عدم تجاوز الساعتين في اليوم. ما أمكن، مع ضمان التوازن مع الدراسة والنوم وباقي الأنشطة الاجتماعية والرياضية. ويمكن البدء في منح الطفل مزيدًا من الحرية والوقت، ولكن دائمًا بمرافقته والتحدث معه. من الأفضل عدم السماح له بتصفح الإنترنت بمفرده لتجنب مصادفته لمحتوى غير مناسب، خاصة عند مشاهدة مقاطع الفيديو على الانترنت. وتجنب إعطاء الطفل جهازًا شخصيًا، مثل الحاسوب اللوحي أو الهاتف. ما بعد 9 و 11 سنة يمكن تقديم للطفل في هذه المرحلة بعض المفاهيم الأساسية مثل حماية البيانات واحترام الخصوصية على الانترنت، وتعليمه أن كل ما ينشره هو عام ويترك آثارا. كما من المهم أن يحافظ الآباء على حوار إيجابي حول استخدام الشاشة وأن يظلوا منتبهين لمظاهر التعب المرتبط باضطرابات النوم وعلامات العزلة التي يمكن أن تؤدي إلى الانسحاب وتدهور النتائج الدراسية. ما بين 10 و13 سنة من الجيد أن يقوم الآباء بتشجيع الممارسات الإبداعية وتعزيزها كما يمنع الوصول إلى الشبكات الاجتماعية الرقمية مثل Facebook و Instagram و Snapchat ... ولا يستحب امتلاك الأطفال في هذه المرحلة لهاتف ذكي. بعد 13 سنة يتعلم الطفل في هذه السن المسؤولية والتنظيم الذاتي وبذلك يمكن أن يتصفح الويب بمفرده ضمن قواعد يتم الاتفاق معه. كما تعد فرصة لكي يتعلم الشباب بعض المهارات الرقمية. اللاءات الأربع وإلى جانب هذه الأفكار التي نقترحها من أجل بناء علاقة متوازنة وصحية داخل الأسرة، لابد من الالتزام بما أسميه باللاءات الأربع وهي: 1. لا للشاشة في غرفة الأطفال. 2. لا للشاشة قبل النوم لأن ذلك يتعب الطفل ويعيق نومه. 3. لا لاستعمال الشاشة عند الاستيقاظ لأنها اللحظة التي يكون فيها الانتباه أقوى. 4. لا للشاشة أثناء الوجبات لأن ذلك يشوش على العلاقات الاجتماعية. وختاما.. لقد أحدثت تكنلوجيا الإعلام والمعلومات تغيرات جوهرية على الأفراد والمجتمع خاصة في غياب أي إشراف تربوي أو ثقافي ينبثق من البنية القيمية الحضارية الإسلامية، ويبقي التحدي في السعي نحو بناء الإنسان الذي يجمع بين المهارة التقنية والشخصية السوية والقوية القادرة على الاستفادة من التطور التكنلوجي وتجنب سلبياته، حيث تعد التربية الرقمية (أو الثقافة الرقمية) ليس مشروع دفاع فقط بل أضحت ضرورة لتمكين الأسرة من المعرفة والمهارات اللازمة في عالم تتجاذبه الصراعات والمصالح والأهواء وتتحكم فيه الشركات الرقمية العملاقة.