* عبد العزيز كوكاس، كاتب إعلامي لا صوت اليوم يعلو على صوت كرة القدم، الكرة الأكثر شعبية في العالم، تبدو الكرة المستديرة مملوءة بأكثر من الهواء، لقد تحولت إلى أكبر تجسيد لمشاعر المجد والتتويج والفوز والبطولة، فاللاعبون الذي يمررون الكرة بين أقدامهم وبلمسات ساحرة من رؤوسهم، يدوخون جمهورا، يؤاخون بين مختلف الأجناس والطبقات، أصبحوا أكثر من لاعبي لعبة رياضية تنتهي عند حدود انتهاء المقابلة في الملعب، بالعكس أصبحت كرة القدم اليوم محملة بحماس جماهيري منقطع النظير يتساوى فيه الجنسان والأطفال والشيوخ، الأغنياء والأثرياء.. شكلت لدى الكثير من الفقراء والمهمشين أداة للترقي الاجتماعي والإبداع الساحر لإثبات ذاتهم في مجتمعات قاسية، جاؤوا من الهوامش، من مدن الصفيح، من القعر الاجتماعي ونجحوا بفضل كرة القدم في الإحساس بديموقراطية الوجود.. كرة القدم والسياسة كانت قائمة دوما قبل أن يدخل المال والصناعة لقلب الكرة المستديرة، شكلت لدى الوطنيين رمزا للتحرر والانعتاق وحولها الدكتاتوريون المستبدون إلى وسيلة للإلهاء وأداة لتخدير المشاعر والسيطرة، واستغلتها الشركات الكبرى لتحويلها إلى صناعة مدرة للربح الوفير، واتخذ منها الإعلام مادة حيوية ليس للإخبار فقط، بل للشحن والتطويع والتلاعب والتجييش والإشهار.. وها هي اليوم مع وسائط التواصل الرقمي تتحول إلى غول لا نعرف كيف ستكون ملامحه. بمناسبة هذا الحماس الجماعي الذي يقودنا معه، بعد تحقيق المغرب نتائج مهمة بأداء جيد للفريق الوطني والشكل الاحتفالي الذي صاحب تأهيل أشبال أسود الأطلس إلى ثمن النهاية، اخترت تقديم قراءة في كتاب نوعي للكاتب الأورغوايي إدواردو غاليانو الذي يوصف في الصحافة الأمريكولاتينية بكونه رجل الحروف البارز في مجال كرة القدم العالمية وعملاقَ أدبٍ ما تبقى من الأمريكان اللاتينيين. من خلال كتابه الشهير "كرة القدم في الشمس والظل" EL FUTBOL, A SOL Y SOMBRA التي ترجمها الكاتب الفلسطيني صالح علماني، الكتب أهداه غاليانو إلى الأطفال الذين التقى بھم ذات مرة، عائدين من لعب كرة القدم وھم يغنون: ربحنا أم خسرنا، لن تتبدل متعتنا متعتنا تبقى كما ھي سواء خسرنا أم ربحنا يضعنا هذا الكتاب المصاغ بلغة سرد ساحرة في قلب تاريخ كرة القدم بنجومها وبتجارب مختلف المونديالات منذ نشوء الكرة المستديرة وانتشارها في كل أصقاع العالم، وكيف تحولت من لعبة للنخبة، للأعيان، لأولئك المخمليين المستعمرين الإنجليز، إلى لعبة شعبية أبدع فيها السود إلى جانب البيض، النساء إلى جانب الرجال، وتفتقت عنها ممارسات وقوانين وتاريخ من الدم والدمع، من الفرح والنشوة، وأكواما من رؤوس الأموال، وكيف تحولت الكرة المستديرة إلى تجارة عالمية مغرية يترع عملاقها، الفيفا، في ملايير الدولارات عدا الشركات الاستثمارية والإعلانات، ويقودنا إلى السحر الكامن في هذه اللعبة الشعبية، التي تجعل مسؤولا كبيرا في وزن وزير الخارجية يصيح ويصفر ويحتج ويقفز بنشوة أي فرد عادي من الجمهور، وكيف تجول اللاعبون من مجرد أجساد قوية يؤدون تمريرات رشيقة ويسجلون أهدافا أو يبعدونها عن شباكهم، إلى آلة ونجوم أقوى من نجوم السينما والرقص والغناء وإلى مليارديرات ثمنه اقدامهم تساوي الذهب، ويكشف عن سر انغماس الجمهور فيما يشبه الصلاة الجماعية في الملاعب ومدرجاتها أو عبر وسائل الإعلام، بين صراخ الفرحة وصيحة الاحتجاج، بين دمع الهزيمة ونشوة الفوز والانتصار، يذكرنا بأساطير كروية، أولئك اللاعبين الساحرين الكبار: بولي، مارادونا، بيكنباور، ميشيل بلاتيني... الكتاب الذي أقدمهم لكم اليوم يطوف بنا بلغة مدهشة في أسرار سحر الجلدة المستديرة بقلم كاتب رغب في أن يصبح لاعب كرة قدم. يقول: "كنت ألعب جيداً، كنتُ رائعاً، ولكن في الليل فقط، في أثناء نومي، أما في النھار فأنا أسوأ قدم متخشبة شھدتھا ملاعب الأحياء في بلادي". كرة القدم من المتعة إلى الصناعة: قلة من الأبطال وكثرة من المشاھدين تاريخ كرة القدم ھو رحلة حزينة من المتعة إلى الواجب. فكلما تحولت ھذه الرياضة إلى صناعة، كان يجري استبعاد الجمال الذي يتولد من متعة اللعب لمجرد اللعب. وفي عالم نھاية قرننا ھذا، تستنكر كرة القدم الاحترافية ما ھو غير مفيد، وما ھو غير مفيد في عرفھا ھو كل ما لا يعود بالربح. وليس ھناك أية أرباح تجنى حين يتحول الرجل، لبرھة، إلى طفل، يلعب بالكرة مثلما يلعب الطفل بالبالون ومثلما تلعب القطة بكبة خيوط صوفية.. يصبح راقصاً يرقص بكرةٍ خفيفة مثل البالون الذي يطير في الھواء أو مثل كبة الصوف التي تتدحرج، لاعباً دون أن يدري أنه يلعب، ودون أن يكون ھناك سبب أو توقيت أو حكم. لقد تحول اللعب إلى استعراض، فيه قلة من الأبطال وكثرة من المشاھدين، وتحول ھذا الاستعراض إلى واحد من أكثر الأعمال التجارية ربحاً في العالم، لا يجري تنظيمه من أجل اللعب وإنما من أجل منع اللعب. لقد راحت تكنوقراطية الرياضة الاحترافية تفرض كرة قدم تعتمد السرعة المحضة والقوة الكبيرة، وتستبعد الفرح، وتستأصل المخيلة وتمنع الجسارة. ومن حسن الحظ أنه ما زال يظھر في الملاعب، حتى وإن كان ذلك في أحيان متباعدة، وقحٌ مستھتر يخرج على النص ويقترف حماقة القفز عن كل الفريق الخصم وعن الحكم وجمھور المنصة، لمجرد متعة الجسد المنطلق إلى مغامرة الحرية المحرمة. اللاعب مركز السحر في كرة القدم: اللعب والمال يركض لاھثاً على شفير الھاوية. في جانب تنتظره سماوات المجد، وفي الجانب الآخر ھوة الدمار. الحي الشعبي الذي خرج منه يحسده بأسره: فاللاعب المحترف قد نجا من العمل في المصنع أو المكتب، إنھم يدفعون له من أجل توفير التسلية، لقد ربح اليانصيب. وبالرغم من أنه يتوجب عليه أن ينضح عرقاً مثل مرشة، دون أن يكون له الحق في التعب أو الخطأ، فإنه يظھر في الصحف وفي التلفزيون، وتردد الإذاعات اسمه، والنساء يتنھدن من أجله، والأطفال يريدون تقليده. أما ھو الذي بدأ يلعب من أجل متعة اللعب، في الشوارع الترابية للأحياء الھامشية، فقد صار يلعب الآن في الاستادات الكبرى من أجل واجب العمل، وھو مجبر على الربح أو الربح. رجال الأعمال يشترونه، يبيعونه، يعيرونه، ويسلم ھو قياده لھم مقابل الوعد بمزيد من الشھرة ومزيد من المال. وكلما نال شھرة أكبر، وكسب أموالاً أكثر، يصبح أسيراً أكثر. إنه يخضع لانضباط عسكري صارم، ويعاني كل يوم عقوبة التدريب القاسية، ويخضع لقصف المسكنات وتسلل الكورتيزون الذي يُنسيه الألم ويزيف حقيقة حالته الصحية. وعشية المباريات المھمة يحبسونه في معسكر اعتقال حيث يقوم بأعمال شاقة، ويأكل أطعمة غبية، ويسكر بالماء وحده، وينام وحيداً. في المھن الإنسانية الأخرى يأتي الغروب مع الشيخوخة، أما لاعب كرة القدم، فقد يشيخ وھو في الثلاثين من عمره. لأن العضلات تتعب باكراً. وعندئذ تسمع من يشير إليه قائلاً: – ھذا؟ لن يسجل ھدفاً حتى ولو قيدوا له يدي حارس المرمى. وقد يشيخ لاعب كرة القدم قبل الثلاثين إذا ما أفقدته ضربة كرة صوابه، أو إذا ما مزق سوء الحظ إحدى عضلاته، أو كسرت ركلة إحدى عظامه التي لا سبيل إلى إصلاحھا. وفي يوم مشؤوم، يكتشف اللاعب أنه قد قامر بحياته وأن المال قد تبخر وتبخرت معه الشھرة أيضاً. فالشھرة سيدة محترمة مراوغة، لم تترك له حتى رسالة عزاء صغيرة. حارس المرمى الشهيد أو المهرج والمذنب الوحيد الذي لا يسجل أهدافا يسمونه كذلك البواب، والغولار وحارس الحاجز، وحارس القوس، ولكننا نستطيع أن نسميه الشھيد، الوثن، النادم، أو المھرج الذي يتلقى الصفعات. ويقولون إن المكان الذي يطأه لا ينبت فيه العشب أبداً. إنه وحيد. محكوم عليه بمشاھدة المباراة من بعيد. ينتظر وحيداً إعدامه رمياً بالرصاص بين العوارض الثلاث. كان في السابق يرتدي الأسود، مثل الحكم. أما الآن، فلم يعد الحكم يتنكر بزي الغراب، وصار حارس المرمى يُسلي وحدته بتخيلات ملونة إنه لا يسجل أھدافاً. بل يقف ليمنع تسجيلھا. ولأن الھدف ھو عيد كرة القدم، فإن مسجل الأھداف يصنع الأفراح، أما حارس المرمى، غراب البين، فيحبطھا. يحمل على ظھره الرقم واحد. أھو الأول في قبض المال؟ إنه الأول في دفع الثمن. فحارس المرمى ھو المذنب دائماً. وھو الذي يدفع الثمن حتى لو لم يكن مذنباً. فعندما يقترف أي لاعب خطأ يستوجب ضربة جزاء، يتحمل ھو العقوبة: يتركونه ھناك، وحيداً أمام جلاده، في اتساع المرمى الخاوي. وعندما يتعرض الفريق لسوء الحظ، يكون عليه ھو أن يدفع الثمن تحت وابل من الكرات، ليكفر عن ذنوب الآخرين. يمكن للاعبين الآخرين أن يخطئوا أخطاء فاحشة مرة ومرات، ولكنھم يستردون مكانتھم بعد القيام بمراوغة استعراضية، أو تمريرة بارعة، أو تسديدة صائبة: أما ھو فلا يمكنه ذلك. الحشود لا تغفر لحارس المرمى. أقفزَ في الفراغ؟ أكان مثل الضفدع؟ ھل أُفلتت منه الكرة؟ أأصبحت اليدان الفولاذيتان حريراً؟ بخطأ واحد فقط يدمر حارس المرمى مباراة كاملة أو يخسر بطولة، وعندئذ ينسى الجمھور فجأة كل مآثره ويحكم عليه بالتعاسة الأبدية. وتلاحقه اللعنة حتى نھاية حياته. اللاعب المعبود الذي تبحث عنه الكرة التي ينطقها في يوم ميمون تقبّل ربة الريح قدم الرجل، القدم المُذَلة المُھَانة، ومن ھذه القبلة يولد المعبود في كرة القدم. يولد في مھد من القش وفي كوخ من الصفيح ويأتي إلى الدنيا محتضناً الكرة. إنه يعرف اللعب منذ أن يبدأ المشي. ففي سنواته المبكرة يُبھج المراعي، يلعب في مجاھل الضواحي الھامشية إلى أن يخيم الليل ولا يعود قادراً على رؤية الكرة، وفي سنوات شبابه يطير ويُطيِّر في الاستادات. فنونه البھلوانية تجتذب الحشود، أحداً بعد أحدٍ من كل أسبوع، ويتنقل من فوز إلى فوز، ومن تصفيق حماسي إلى آخر. الكرة تبحث عنه، تتعرف عليه، تحتاج إليه. وعلى صدر قدمه تستريح وتتأرجح. إنه يُخرج منھا الألق ويجعلھا تتكلم، الكرة تضحك مشرقة في الھواء. فينزلھا ھو، ينوّمھا، يغازلھا، يراقصھا، وحين يرى محبوه ھذه الأشياء التي لم يُرَ لھا مثيل، يشفقون على أحفادھم الذين لم يولدوا بعد لأنھم لم يروھا. ولكن المعبود يبقى معبوداً لبرھة وحسب، أبدية بشرية شيء لا يُذكر؛ فعندما تحين ساعة النحس للقدم الذھبية، يكون النجم قد أنھى رحلته من الوميض إلى الانطفاء. يكون قد تحول إلى ھذا الجسد الذي يضم رقعاً أكثر من بدلة مھرج، ويصبح الأكروباتي مشلولاً، والفنان بھيمة، ويتحول مصدر السعادة العامة إلى مانعة الصواعق التي تمتص غضب الجمھور: اللعب دون مشجع أشبه بالرقص دون موسيقى مرة كل أسبوع يھرب المشجع من بينه ويھرع إلى الإستاد. ترفرف الرايات، تدوي النواقيس الخشبية والألعاب النارية والطبول، تھطل أمطار من الشرائط وقصاصات الورق الملونة: المدينة تختفي، الروتين يُنسى، ولا يبقى أي شيء سوى المعبد. وفي ھذا الحيز المقدس، تعرض ألوھيتھا الديانة الوحيدة التي لا وجود لملحدين بين معتنقيھا. ومع أن المشجع يستطيع مشاھدة المعجزة براحة أكبر على شاشة التلفزيون، إلا أنه يفضل أن يحج إلى ھذا المكان حيث يمكنه أن يرى ملائكته بلحمھم وعظمھم وھم يتبادلون الركل ضد شياطين ھذه النوبة. المشجع ھنا يلوح بالمنديل، يبتلع لعاباً، غلوب، يبتلع سماً، يأكل قبعته، يھمس بصلوات ولعنات، ثم يمزق حنجرته فجأة بھتاف مدوٍّ ويقفز مثل برغوث معانقاً المجھول الذي يصرخ معلناً الھدف بجانبه. وعلى امتداد الصلاة الوثنية، يكون المشجعُ كثيرين. فھو يشاطر آلاف الورعين من أمثاله القناعة بأننا الأفضل، وبأن جميع الحكام مرتشون، وجميع الخصوم مخادعون.. ھو من ينفخ رياح الحماسة التي تدفع الكرة حين تغفو، مثلما يعرف اللاعبون الأحد عشر الآخرون جيداً أن اللعب دون مشجع ھو أشبه بالرقص دون موسيقى. وعندما تنتھي المباراة، يبدأ المشجع الذي لم يتحرك من المنصة الاحتفال بفوزه، "يا للأھداف التي سجلناھا عليھم، يا للدرس الذي لقناھم إياه"، أو يبكي ھزيمته، "لقد غشونا مرة أخرى، يا للحكم اللص". وعندئذ تذھب الشمس ويذھب المشجع. تسقط الظلال على الاستاد بينما ھو يفرغ من الحشود. وتشتعل ھنا وھناك على المدرجات الأسمنتية بعض مواقد النيران سريعة الانطفاء، بينما تنطفئ الأنوار والأصوات. يبقى الاستاد خاوياً، ويرجع المشجع كذلك إلى وحدته. المشجع المتعصب لا يهمه ما يحدث في الملعب ولكن في المدرجات المتعصب ھو المشجع في مشفى المجانين. فنزوة رفض ما ھو جلي أغرقت العقل وكل ما يشبھه، وتمضي مع التيار بقايا الغريق في ھذه المياه التي تغلي، وھي ھائجة على الدوام بغضب لا ھدنة فيه. يصل المتعصب إلى الملعب ملتحفاً راية ناديه، ووجھه مطلي بألوان القميص المعبود، مسلحاً بأدوات مقعقعة وحادة، وبينما ھو في الطريق يكون قد بدأ بإثارة الكثير من الصخب والشجار. وھو لا يأتي وحده مطلقاً. ففي وسط السبيكة الباسلة، أم أربع وأربعين الخطرة، يتحول الخائف إلى مخيف، والمھان إلى مھين للآخرين. القوة الكلية في يوم الأحد تخالف حياة الإذعان في بقية الأسبوع، والفراش دون رغبة، والوظيفة دون ميل أو اللاوظيفة: فيكون لدى المتعصب الكثير من الثارات حين يتحرر يوماً كل أسبوع. إنه ينظر إلى المباراة وھو في حالة الصرع تلك، ولكنه لا يراھا. فما يھمه ھو المدرجات. لأن ميدان معركته في المدرجات. ومجرد وجود مشجع للنادي الآخر يشكل استفزازاً لا يمكن للمتعصب أن يتقبله.. والعدو دائماً مذنب، ويستحق لي عنقه. ولا يمكن للمتعصب أن يسھو، لأن العدو يترصد في كل مكان. فقد يكون ضمن المشاھدين الصامتين أيضاً، وقد تصل به الوقاحة في أي لحظة إلى إبداء رأيه بأن فريق الخصم يلعب لعباً صحيحاً، وعندئذ يحصل على ما يستحقه. الغول: ذروة المتعة في كرة القدم الذي يشعل لهيب حماس الجمهور الغول ھو ذروة المتعة في كرة القدم. ومثل ذروة التھيج الجنسي، أصبح الغول يتناقص أكثر فأكثر في الحياة المعاصرة. قبل نصف قرن كان من النادر أن تنتھي مباراة دون فوھان مفتوحان، تثاؤبان. أما الآن، فإن الأحد عشر لاعباً يقضون وقت المباراة كله متشبثين بالعارضة، منھمكين في منع الأھداف دون أن يتاح لھم الوقت لتسجيلھا. الحماسة التي تنفلت كلما ھزت القذيفة البيضاء الشبكة، يمكن لھا أن تبدو سراً غامضاً أو جنوناً، ولكن يجب أن نأخذ في الاعتبار أن المعجزات نادرة الوقوع. والھدف، حتى وإن كان غولاً صغيراً، يتحول إلى غوووووووووووووول في حنجرة معلقي الإذاعة، وعندئذ يسيطر الهذيان على الحشود وينسى الاستاد أنه من إسمنت فينفصل عن الأرض وينطلق سابحاً في الھواء. الحكم الطاغية والجلاد الذي يشبه غراب الملعب الحكم ھو متحكم في التعريف. إنه الطاغية البغيض الذي يمارس دكتاتوريته دون معارضة ممكنة، والجلاد المتكبر الذي يمارس سلطته المطلقة بإيماءاتِ أوبرا. الصفارة في فمه، ينفخ الحكم رياح القدر المحتوم ويمنح الأھداف أو يلغيھا. البطاقة في يده، يرفع ألوان الإدانة: الأصفر لمعاقبة المذنب وإجباره على الندم، والأحمر يلقي به إلى المنفى. حكام التماس الذين يساعدون، لكنھم لا يأمرون، ينظرون من الخارج. الحكم وحده ھو من يدخل ميدان اللعب؛ وھو محق تماماً حين يرسم إشارة الصليب لدى دخوله، فور أن يطل أمام الحشود المزمجرة. فعمله يتلخص في جعل الآخرين يكرھونه: الجميع يكرھونه. يصفرون له على الدوام، ولا يصفقون له مطلقاً. لا أحد يركض أكثر منه. فھو الوحيد المضطر إلى أن يجري طوال الوقت. طوال الوقت يعدو خبباً، مقصوم الظھر كالحصان، ھذا الدخيل الذي يلھث دون راحة ما بين الاثنين وعشرين لاعباً؛ وكتعويض عن كل ھذه التضحية، تعوي الحشود مطالبة برأسه. منذ بداية كل مباراة وحتى نھايتھا، يتعرق الحكم بغزارة، فھو مضطر إلى ملاحقة الكرة التي تذھب وتجيء بين أقدام الآخرين. مما لا ريب فيه أنه يتلھف إلى اللعب معھا، ولكن ھذه النعمة لم تمنح إليه مطلقاً. وعندما تمس الطابة جسده، بصورة عرضية، يتذكر الجمھور كله أمه. ومع ذلك، بالرغم من أنه ھناك، في الفسحة الخضراء المقدسة التي تكرج فيھا الكرة وتطير، فإنه يتحمل الشتائم وصفير الاستنكار والرجم بالحجارة واللعنات. في بعض الأحيان، وھي أحيان نادرة، يتوافق أحد قرارات الحكم مع مشيئة المشجع، ولكنه لا يتمكن رغم ذلك من إثبات براءته. المھزومون يخسرون بسببه والفائزون يربحون رغماً عنه. إنه علة كل الأخطاء، وسبب كل النكبات، ولو لم يكن موجوداً لابتدعه المشجعون. وكلما كرھوه أكثر كلما ازدادت حاجتھم إليه. خلال أكثر من قرن كان الحكم يرتدي لون الحِداد. على من؟ على نفسه. أما الآن فإنه يخفي حداده بالألوان. حين صارت كرة القدم بحاجة إلى تكنوقراطية النظام، جاء المدير الفني في السابق كان المدرب، ولم يكن أحد يوليه كبير اھتمام. ومات المدرب وھو مطبق الفم عندما لم يعد اللعب لعباً، وصارت كرة القدم بحاجة إلى تكنوقراطية النظام. عندئذ ولد المدير الفني، ومھمته منع الارتجال ومراقبة الحرية، ورفع مردودية اللاعبين إلى حدودھا القصوى بإجبارھم على التحول إلى رياضيين منضبطين. كان المدرب يقول: سنلعب. أما المدير الفني فيقول: سنشتغل. الحديث يدور الآن بالأرقام. فالرحلة من الجرأة إلى الخوف، المدير الفني صار يطوّر صيغاً سرية غامضة مثل المفھوم القدسي ليسوع، ويضع معھا خططاً تكتيكية عصية على الفھم أكثر من الثالوث المقدس. وجرى الانتقال من السبورة القديمة إلى اللوحة الإلكترونية: فاللعبات البارزة تُرسم الآن بواسطة الكمبيوتر وتُعلّم بالفيديو. وھذه اللعبات الكاملة التي لا تشوبھا شائبة، نادراً ما تُرى فيما بعد في المباريات التي ينقلھا التلفزيون. بل إن التلفزيون يقنع بعرض التشنج في وجه المدير الفني، ويُظھره وھو يعض قبضتيه أو يصرخ بتوجيھات ستقلب مسار المباراة رأساً على عقب إذا ما استطاع أحد أن يفھمھا. ويحاصره الصحفيون في المؤتمر الصحفي بعد انتھاء المباراة. ولكن المدير الفني لا يذكر مطلقاً سر انتصاراته، مع أنه يصوغ تفسيرات باھرة لھزائمه: التوجيھات كانت واضحة، ولكن لم يُعمل بھا.. يقول ذلك عندما يخسر الفريق. آلية الاستعراض تطحن كل شيء، وكل شيء لا يستمر إلا قليلاً، والمدير الفني يمكن استخدامه ثم رميه مثل أي منتج آخر من منتجات مجتمع الاستهلاك. اليوم يصرخ الجمھور به: ألا تموت مطلقاً! وفي يوم الأحد التالي يدعونه لأن يموت. ھو يظن أن كرة القدم ھي علم وأن الملعب مختبر، ولكن المسؤولين والمشجعين لا يطالبونه بامتلاك عبقرية اينشتاين وبُعد نظر فرويد وحسب، بل وبقدرات عذراء لورديس الإعجازية وقدرة غاندي على التحمل. المسرح: من يكتب النص في لعبة كرة القدم ومن يمثل؟ اللاعبون يمثلون بأرجلھم في عرضٍ موجه إلى جمھور من آلاف أو ملايين المتحمسين الذين يحضرونه سواء على المدرجات أو في البيوت وأرواحھم معلقة بطرف خيط. من الذي يكتب النص؟ أھو المدير الفني؟ العمل يسخر من المؤلف. فخط تطوره يساير منحى مزاج الممثلين ومھارتھم، وھو يعتمد في نھاية المطاف على الحظ الذي يھب، مثل الھواء، حيث يشاء. ولھذا فإن حل العقدة ھو سر غامض على الدوام بالنسبة إلى النظارة والممثلين على السواء، اللھم إلا في حالات الرشوة أو الحتمية القدرية. كم من المسارح يوجد في مسرح كرة القدم العظيم؟ كم من المشاھد يتسع لھا مستطيل العشب الأخضر؟ فليس جميع اللاعبين يقتصرون على التمثيل بأرجلھم وحدھا. ھناك لاعبون بارعون في فن تعذيب الآخر: يضع اللاعب منھم قناع القديس الذي لا يستطيع قتل ذبابة، ثم يبصق على الخصم ويشتمه ويدفعه ويذر التراب في عينيه، ويوجه إليه ضربة مرفق صائبة على فكه أو يغرس مرفقه في أضلاعه، أو يشده من شعره أو قميصه، ويدوس على قدمه وھو واقف أو يدوس على يده عندما يسقط أرضاً، ويفعل كل ذلك من وراء ظھر الحكم، بينما حكم التماس يتأمل الغيوم التي تمر في السماء. ھناك لاعبون تاريخيون في فنون ابتزاز المنافع: يضع اللاعب منھم قناع المسكين البائس إلى أن يبدو أحمق، ولكنه يكون أخرق، وعندئذ يبدأ بجني المنافع: ينفذ ضربة المخالفة أو رمية الجزاء أو رمية التماس على بعد فراسخ عن المكان الذي حدده الحكم. وعندما يكون عليه أن يشكل حاجزاً، ينزلق من المكان المحدد، ببطء شديد، دون أن يرفع قدميه، إلى أن يضعه بساط الريح فوق اللاعب الذي سيسدد الكرة. وھناك لاعبون لا يُعلى عليھم في إضاعة الوقت: يضع اللاعب منھم قناع الشھيد الذي صُلب للتو، وعندئذ يتدحرج محتضراً، ممسكاً بركبته أو برأسه، ويبقى مطروحاً على العشب. تمر الدقائق. ويأتي المدلك بخطوات سلحفاة، إنه اليد المباركة، بدين متعرق، تفوح منه رائحة المراھم، يأتي واضعاً منشفة حول عنقه، وحاملاً زمزمية في إحدى يديه، وفي اليد الأخرى شراب طبي مؤكد المفعول. وتمر الساعات والسنون إلى أن يأمر الحكم بإخراج ھذه الجثة من الملعب. عندئذ يقفز اللاعب فجأة، بلوب، وتحدث معجزة الانبعاث. المعلقون الذين ينقلون مباراة غير تلك التي نشاهدها قبل المباراة يصوغ المراسلون أسئلتھم المربكة: أأنتم مستعدون للربح؟ ويحصلون على أجوبة مذھلة: سنبذل كل ما بوسعنا للفوز. بعد ذلك يأخذ المعلقون الكلمة. معلقو التلفزيون يتابعون الصور التي تظھر على الشاشة، ولكنھم يعرفون جيداً أنھم لا يستطيعون منافستھا. أما معلقو الإذاعة بالمقابل، فھم غير معرضين لأمراض القلب، ذلك أن معلمي الحيرة ھؤلاء يركضون أكثر من اللاعبين وأكثر من الكرة نفسھا، ويروون بإيقاع دواري وقائع مباراة لا تكون لھا في العادة علاقة كبيرة بما يراه أحدنا في الملعب. ففي ھذا الشلال من الكلام تلامس العارضةَ كرةٌ يراھا أحدنا تلامس أعالي السماء، ويتعرض المرمى لخطر ھدف وشيك في الوقت الذي تنسج فيه العنكبوت بھدوء شباكھا من أحد قائمي المرمى إلى الآخر، وفي الوقت الذي يتثاءب فيه حارس المرمى من الضجر في مرماه. وعندما تنتھي الجولة المتوترة في أحضان المارد الإسمنتي، يأتي دور المعلقين الرياضيين. وكان ھؤلاء المعلقون قد قاطعوا نقل المباراة عدة مرات من قبل، لكي يشيروا على اللاعبين ما يتوجب عليھم عمله، ولكن اللاعبين لا يتمكنون من سماعھم لأنھم مشغولون بارتكاب المخالفات. ھؤلاء المنظرون لِھم الشيء نفسه ولكن بالمقلوب، يستخدمون لغة تراوح فيھا سعة الاطلاع العلمي ما بين الدعاية الحربية والنشوة الغنائية. وھم يتكلمون دائماً بصيغة الجمع لأن كل واحد منھم كثيرون. ليس ھناك ما ھو أكثر بُكماً من المدرجات الخاوية في الملعب ھل دخلت يوماً إلى استاد مقفر؟ جرب ذلك. توقف في منتصف الملعب وانصت. ليس ھناك ما ھو فارغ أكثر من استاد فارغ. ليس ھناك ما ھو أكثر بُكماً من المدرجات الخاوية.، في استاد ويمبلي ما زالت تدوي ضجة مونديال 1966 الذي كسبته إنكلترا؛ ولكنك إذا أصغيت جيدا فستسمع زفرات آتية من مونديال 1953، عندما فاز الھنغاريون على المنتخب الإنكليزي. واستاد الذكرى المائوية (ثينتيناريو) في مونتيفيديو يتنھد حنيناً لأمجاد كرة القدم الأورغوايية. وما يزال استاد ماراكانا يبكي الھزيمة البرازيلية في مونديال 1950. أما في استاد بومبونيرا في بوينس آيرس، فتدوي الطبول منذ نحو نصف قرن. ومن أعماق استاد الأزتيك في المكسيك تتردد أصداء الأناشيد الشعائرية للعبة الكرة المكسيكية القديمة. واستاد كامب نو في برشلونة يتكلم الكتلانية، وتتبادل الحديث مدرجات استاد سان ماميس في بلباو باللغة الباسكية. وفي ميلان، يھز شبح جوزيب ميازا وھو يسجل الأھداف جنبات الاستاد الذي يحمل اسمه. ونھائي مونديال 74 الذي كسبته ألمانيا، يُلعب يوماً بعد يوم، وليلة إثر ليلة في استاد ميونخ الأولمبي. أما استاد الملك فھد في العربية السعودية، ففيه منصة من الرخام والذھب ومدرجات مغطاة بالسجاد، ولكنه لا يملك ذاكرة وليس لديه ما يقوله. تاريخ الكرة قبل أن تنفخ بالهواء والمال وصناعة الفرجة كانت كرة الصينيين مصنوعة من الجلد ومحشوة بالقنب. والمصريون في زمن الفراعنة صنعوھا من القش أو من قشور الحبوب، ولفوھا بأقمشة ملونة. وكان الإغريق والرومان يستخدمون مثانة جاموس، منفوخة ومخيطة. أما أوربيو العصور الوسطى وعصر النھضة فكانوا يتنازعون فيما بينھم كرة بيضوية مملوءة بشعر أعراف الخيول. وفي أميركا كانت الكرة المشغولة من المطاط قادرة على أن تطفر متواثبة كما لم تكن أي كرة في أي مكان آخر. ويروي مؤرخو البلاط الملكي الإسباني أن ھيرنان كورتيس قذف كرة مكسيكية وجعلھا تطير عالياً جداً أمام عيني الإمبراطور كارلوس الزائغتين. الكرة المطاطية التي تُنفخ بمنفاخ والمغطاة بطبقة من الجلد، ولدت في أواسط القرن الماضي، بفضل عبقرية تشارلز غوديير، وھو أمريكي شمالي من كونكتيكت. وبفضل عبقرية توسوليني، وبالبونسي، وبولو وھم ثلاثة أرجنتينيين من كوردوبا، ولدت بعد زمن طويل من ذلك لعبة الكرة دون لمسھا باليد. ھم من اخترعوا الإطار الداخلي المزود بصمام، والذي ينتفخ بحقنه بالھواء، ومنذ مونديال 1938 صار بالإمكان ضرب الكرة بالرأس دون خوف من الأذى الذي كان يسببه الرباط المستخدم سابقاً في ربط الكرة. وحتى منتصف ھذا القرن كان لون الكرة بنيّاً. ثم أصبحت بعد ذلك بيضاء. وفي أيامنا ھذه تظھر الكرة في نماذج متغيرة، ولكنھا ذات أشكال سوداء فوق خلفية بيضاء. وصار قطر خصرھا الآن سبعين سنتمتراً وھي مكسوة بمادة البوليريتان فوق طبقة من البوليتيلين. لا ينفذ إليھا الماء، ووزنھا أقل من نصف كيلو غرام وتنطلق بسرعة أكبر من الكرة الجلدية القديمة التي كانت تصبح مستحيلة في الأيام الماطرة. يطلقون عليھا أسماء عديدة: الكرة، المكورة، النافعة، المدورة، البالون، القذيفة. لا أحد في البرازيل يشك في أنھا امرأة. فالبرازيليون يقولون عنھا السمينة ويسمونھا الطفلة، لقد قبّلھا بيليه في استاد ماراكانا عندما سجل ھدفه رقم ألف، وديستيفانو أقام لھا نصباً عند مدخل بيته، وھو عبارة عن كرة من البرونز مع لوحة حجرية نقش عليھا عبارة: شكراً أيتھا العجوز. وھي وفية أيضاً. ففي نھائي مونديال 1930 طالب كل من المنتخبين المتنافسين اللعب بكرته الخاصة. وقد كان الحكم حكيماً مثل سليمان فقرر أن يجري اللعب في الشوط الأول بكرة أرجنتينية وفي الشوط الثاني بكرة أروغوايية. فكسبت الأرجنتين الشوط الأول وكسبت الأرغواي الشوط الثاني. ولكن للكرة نذالاتھا أيضاً، فھي لا تدخل أحياناً إلى المرمى لأنھا تبدل رأيھا وھي في الجو وتنحرف عن مسارھا. ذلك أنھا ساخطة جداً. فھي لا تطيق أن يعاملوھا ركلاً بالأقدام، ولا أن يضربوھا انتقاماً. إنھا تطالب بأن يداعبوھا برقة، أن يقبّلوھا، أن يسمحوا لھا بالنوم على الصدور أو الأقدام. وھي متكبرة، وربما مغترة بنفسھا، ولا تنقصھا المبررات لتكون كذلك: فھي تعرف جيداً أن البھجة تملأ أرواحاً كثيرة حين ترتفع بطريقة ظريفة، وأن أرواحاً كثيرة تختنق بالضيق عندما تسقط بطريقة سيئة. الأصول والقواعد الأولى لكرة القدم في كرة القدم، كما في كل شيء تقريباً، كان الصينيون ھم الأوائل. فمنذ خمسة آلاف سنة كان البھلوانات الصينيون يُرقّصون الكرة بأقدامھم، وكان أن نُظمت أول ألعاب الكرة في الصين. كان المرمى في الوسط، وكان اللاعبون يسعون ألا تلمس الكرة الأرض، دون أن يلمسوھا ھم أنفسھم بأيديھم. وقد استمرت ھذه العادة من سلالة إلى أخرى، كما يظھر في بعض النقوش التذكارية التي تعود إلى ما قبل المسيح، وكذلك في بعض الرسوم التالية التي تُظھر صينيي سلالة مينغ وھم يلعبون بكرة تبدو كأنھا من ماركة آديداس.. ومن المعروف أن المصريين واليابانيين في العصور القديمة كانوا يتسلون بتبادل ركل الكرة. وعلى رخام قبر إغريقي يعود إلى ما قبل المسيح بخمسة آلاف سنة، يظھر رجل يلاعب كرة بركبته. وفي كوميديات أنتيفانيسAntifanes هناك عبارات ذات مغزى، مثل: كرة طويلة، تمريرة قصيرة، كرة متقدمة... ويقال إن الإمبراطور يوليوس قيصر كان يتقن استخدام كلتا ساقيه في لعب الكرة وإن نيرون لم يكن ماھراً في اللعب: وعلى أي حال، ليس ھناك من شك في أن الرومان كانوا يلعبون لعبة شديدة الشبه بكرة القدم حين كان المسيح وحواريوه يموتون على الصلبان. وعلى أقدام الرومان القدماء وصلت البدعة إلى الجزر البريطانية. وبعد قرون من ذلك، وتحديداً في عام 1314، مھر الملك إدوارد الثاني بخاتمه وثيقة ملكية تدين ھذه اللعبة الرعاعية، ھذه الاشتباكات الصاخبة حول كرات كبيرة الحجم. وقد منع الملوك ھذه المباريات الدموية: وصدرت مراسيم ضد كرة القدم ممھورة بتوقيع ھنري الرابع في عام1410 ، وھنري السادس في عام 1547. ولكنھم كلما كانوا يمنعونھا كان اللعب يزداد، مما يؤكد القدرة التحريضية لكل ما ھو محظور. وفي عام 1592، لجأ شكسبير في مسرحيته كوميديا الأخطاء إلى كرة القدم ليصوغ شكوى إحدى شخصياته "إنني أتدحرج فيما بينكم بطريقة... أتراكم اتخذتموني طابة كرة قدم؟ أنتم تركلونني إلى ھناك، وھو يركلني إلى ھنا. فإذا ما بقيتُ في العمل فلا بد لكم من أن تغلفوني بالجلود". وبعد سنة من ذلك، في مسرحية الملك لير، كان الكونت كينت يشتم أحدھم بھذه الكلمات: أنت، يا لاعب كرة القدم الحقير! وفي فلورنسا كانت كرة القدم تسمى كالشو calcio تسمى حتى الآن في إيطاليا كلھا. وكان ليوناردو دافنشي مشجعاً متحمساً، وميكيافيلي لاعباً ممارساً. وكان يشارك في اللعب فرق من 27 رجلاً، موزعين على ثلاثة خطوط، يمكنھم استخدام الأيدي والأقدام لضرب الكرة، ولبقر بطون خصومھم. وكانت الحشود تتوافد إلى المباريات التي تجري في أوسع الميادين وفوق مياه نھر آرنو المتجمدة. وبعيداً عن فلورنسا، في حدائق الفاتيكان، اعتاد البابوات كليمنت السابع، وليون التاسع، وأوربانو الثامن أن يشمروا ثيابھم لكي يلعبوا الكالشو. أما في المكسيك وفي أميركا الوسطى، فكانت طابة المطاط ھي شمس الطقوس المقدسة منذ حوالي ألف وخمسمائة سنة قبل المسيح، ولكن من غير المعروف متى بدأ لعب كرة القدم في أماكن كثيرة من القارة الأمريكية. فبالاستناد إلى ھنود غابات الأمازون البوليفية، ھناك أصول مغرقة في القدم لتقليد ركضھم وراء طابة من المطاط المصمت، لإدخالھا ما بين عمودين دون استخدام الأيدي. قواعد اللعبة: تاريخ طويل من الفرجة والدم والتحليل والتحريم بعد قرون طويلة من الإنكار الرسمي، انتھى الأمر بالجزر البريطانية إلى الإقرار بوجود كرة في قدرھا. ففي زمن الملكة فيكتوريا لم تعد كرة القدم مجرد رذيلة جماعية يمارسھا الرعاع وحدھم، وإنما صارت كذلك فضيلة أرستقراطية. فقادة المجتمع المستقبليون كانوا يتدربون على الفوز بلعب كرة القدم في باحات المدارس والجامعات. وكان أشبال الطبقة الراقية ينفسون ھناك من اندفاعات حماسھم الشبابي، ويُصلّبون انضباطھم، ويقيسون شجاعتھم ويشحذون دھاءھم. وفي الطرف الآخر من السلم الاجتماعي، لم يكن البروليتاريون بحاجة إلى إنھاك أجسادھم، لأن المصانع والورش كانت قد وُجدت لتحقيق ذلك، ولكن وطن الرأسمالية الصناعية كان قد اكتشف أن كرة القدم، ھوى الجماھير، توفر تسلية وعزاء للفقراء وتبعدھم عن الإضرابات وعن الأفكار الخبيثة الأخرى. كرة القدم في شكلھا الحديث تنحدر من اتفاق جنتلمان بين اثني عشر نادياً إنكليزياً توصلوا إليه في خريف عام 1863، في إحدى حانات لندن. وقد تبنت تلك الأندية القواعد التي كانت قد أقرتھا جامعة كامبردج في عام 1846. ففي كامبردج تم الطلاق النھائي ما بين كرة القدم والركبي: فقد مُنع حمل الكرة باليد، مع أنه كان مسموحاً لمسھا، ومُنع كذلك توجيه الركلات إلى الخصم. "ركلات الأقدام يجب أن توجه إلى الكرة فقط". وبعد مرور قرن ونصف قرن على ذلك، ما يزال ھناك لاعبون حتى اليوم يخطئون ما بين الكرة ورأس خصمھم، بسبب تشابه شكليھما. اتفاق لندن لم يحدد عدد اللاعبين، ولا أبعاد الملعب، ولا ارتفاع المرمى ولا مدة المباراة. فقد كانت المباريات تستمر ساعتين أو ثلاث ساعات، وكان أبطالھا يتبادلون الحديث ويدخنون حين تكون الكرة بعيدة. ولكن التسلل كان معروفاً. فقد كان من غير المقبول تسجيل أھداف من وراء ظھر الخصم. في ذلك الزمان لم يكن أحد يشغل مكاناً معيناً في أرض الملعب: فالجميع كانوا يركضون مبتھجين وراء الكرة، وكل شخص يذھب حيثما يشاء ويبدل موقعه حسب مشيئته. وقد بدأ تنظيم الفرق في اسكتلندا في حوالي 1870 وتوزيعھا في مھمة الدفاع وخطي الوسط والھجوم. وفي أثناء ذلك كان عدد اللاعبين قد تحدد بأحد عشر لاعباً. ولم يعد بإمكان أي منھم لمس الكرة بيده منذ عام 1869، حتى ولا لوقفھا أو إيصالھا إلى القدم. ولكن في عام 1871 ولد حارس المرمى ليكون الاستثناء الوحيد في ھذا التحريم، إذ يمكنه حماية مرماه بكل أعضاء جسده. كان حارس المرمى يحرس حصناً مربعاً: وكان طوله أقصر من المرمى الحالي ارتفاعه وأعلى منه بكثير، ويتألف من أعمدة متصلة بشريط قماشي على ارتفاع خمسة أمتار ونصف. ثم استبدل الشريط القماشي بعارضة خشبية في عام 1875، وكانت الأھداف تُسجل على قائم المرمى بحفر خطوط صغيرة. وتعبير تسجيل ھدف ما زال مستخدماً، بالرغم من أن الأھداف لم تعد تُسجل اليوم على قائم المرمى، وإنما ترصدھا لوحات إلكترونية في الاستادات. والمرمى المؤلف من زوايا قائمة ليس له شكل القوس، ولكنھم ما زالوا يطلقون عليه في بعض البلدان تسمية القوس وعلى من يدافع عنه اسم حارس القوس، ربما لأن تلاميذ المدارس الإنكليزية كانوا يستخدمون قناطر باحات مدارسھم بدلاً من المرمى. وفي عام 1872 ظھر الحكم. وكان اللاعبون حتى ذلك الحين ھم حكام أنفسھم، فھم أنفسھم يفرضون العقوبات على المخالفات التي تحدث. وفي عام 1880 كان الحكم يحمل جھاز توقيت في يده ليقرر متى تنتھي المباراة، وكانت له سلطة طرد من يسيء التصرف خارجاً، ولكنه كان ما يزال يوجه المباراة بإطلاق الصرخات من خارج الملعب. وفي عام 1891 دخل الحكم لأول مرة إلى الملعب نافخاً في الصفارة، وأُقرت أول ضربة جزاء في التاريخ حين خطا الحكم اثنتي عشرة خطوة محدداً نقطة توجيه الضربة. وقبل سنوات من ذلك، كانت الصحافة البريطانية تشن حملة لصالح إقرار ضربة الجزاء. فقد كان لا بد من توفير الحماية للاعبين عند فم المرمى الذي كان مسرحاً لمجازر دامية. وكانت مجلة ويستمنستر غازيت قد نشرت قائمة مرعبة بأسماء اللاعبين الذين قضوا نحبھم أو تكسرت عظامھم ھناك. وعندما مات القرن التاسع عشر، انتھى معه الاحتكار البريطاني لكرة القدم. ففي عام 1904 ولدت الفيفا، أي الاتحاد الدولي لكرة القدم، التي صارت تحكم منذ ذلك الحين العلاقة ما بين الكرة والقدم في العالم بأسره. وعلى امتداد بطولات العالم المتتالية أدخلت الفيفا تعديلات قليلة على تلك القواعد البريطانية التي نظمت اللعبة. كرة القدم الأمريكية اللاتينية.. تاريخ حافل لم تكن جمعية كرة القدم الأرجنتينية تسمح بالتكلم بالإسبانية في اجتماعات مسؤوليھا، وكانت رابطة كرة القدم في الأورغواي تحظر إجراء المباريات في أيام الآحاد، لأن العادة الإنكليزية تقضي بأن يكون اللعب في يوم السبت. ولكن منذ سنوات القرن الأولى كانت كرة القدم قد بدأت تتحول إلى لعبة شعبية وتتخذ صبغة محلية على ضفاف نھر لابلاتا. ھذه التسلية المستوردة التي تشغل أوقات فراغ أبناء الفئة الراقية، كانت قد أفلتت من أصيصھا العالي ونزلت إلى الأرض وراحت تضرب جذورھا فيھا. لقد كانت عملية تحول متواصلة. فمثل التانغو، نمت كرة القدم انطلاقاً من الأحياء الھامشية. فھي رياضة لا تتطلب نقوداً ويمكن ممارستھا دون أي شيء آخر سوى الرغبة في اللعب. ففي المرابع، وفي الأزقة، وعلى الشواطئ كان الفتيان المحليون والشبان المھاجرون يرتجلون مباريات بكراتٍ مصنوعة من جوارب قديمة، مملوءة بخرق قماشية أو بورق، مع حجرين يمثلان المرمى. وبفضل لغة كرة القدم التي بدأت تتحول إلى لغة كونية، كان العمال المطرودون من الحقول يتفاھمون على أكمل وجه مع العمال المطرودين من أوربا. فكان اسبيرانتو الكرة يوحد أبناء البلاد الفقراء مع العمال المھاجرين الذين يجتازون البحر قادمين من فيغو، ولشبونة، ونابولي، وبيروت أو من بلاد الصرب حالمين بتحقيق حلمھم الأمريكي وھم يبنون جدراناً ويحملون بالاتٍ ثقيلة، ويخبزون الخبز أو يكنسون الشوارع. لقد قامت كرة القدم برحلة رائعة: فقد بدأ تنظيمھا في المدارس والجامعات الإنكليزية، ثم راحت تبعث في أميركا الجنوبية البھجة في حياة أناس لم يدخلوا مدرسة في حياتھم على الإطلاق. في ملاعب بوينس آيرس ومونتيفيديو ولد أسلوب خاص، طريقة خاصة في لعب كرة القدم، راحت تشق طريقھا، بينما كانت طريقة خاصة في الرقص تترسخ في أفناء رقصة الميلونغا. فالراقصون يرسمون زخارف ونقوش أزھار وھم يتحركون فوق بلاطة واحدة، ولاعبو كرة القدم يبتدعون لغتھم في الحيز الصغير جداً حيث لا تُركل الكرة وإنما تُوقف وتمتلك كما لو أن القدمين ھما يدان. وبأقدام أول اللاعبين البارعين المحليين، ولد العزف: ولدت الكرة المعزوفة التي صارت مصدراً للموسيقى، وكأنھا الجيتار. وفي الوقت نفسه كانت كرة القدم تكتسب صبغة تروبيكالية في ريو دي جانييرو وساو باولو. وكان الفقراء ھم الذين يُثرون اللعبة بينما ھم يحولونھا إلى ملكية لھم. ھذه اللعبة الأجنبية بدأت تتحول إلى برازيلية بقدر تخليھا عن كونھا امتيازاً لعدد محدود من الشبان الأغنياء الذين يمارسونھا بمحاكاة تامة للأصل الأجنبي، وقد أُخصبت بحماسة إبداع الشعب الذي اكتشفھا. وھكذا ولدت أجمل كرة قدم في العالم تتشكل من انحناءات الخصر وتموجات الجسد، وطيران الأرجل المتحدر من الكابويرا، الرقصة الحربية للعبيد الزنوج، ومن الرقصات المرحة التي تمارس في ضواحي المدن الكبرى. كانت كرة القدم تتحول إلى ھوى شعبي وتكشف جمالھا السري، وتتخلى في الوقت نفسه عن كونھا وسيلة تسلية راقية. أھي أفيون الشعوب؟ حين أعدم هتلر لاعبين هزموا فريقه المفضل ما ھو وجه الشبه بين كرة القدم والإله؟ إنه الورع الذي يبديه كثيرون من المؤمنين والريبة التي يبديھا كثيرون من المثقفين. في 1880، في لندن، سخر ريديارد كيبلينغ من كرة القدم ومن "الأرواح الصغيرة التي يمكنھا أن ترتوي برؤية الحمقى الذين يلعبونھا"، وبعد قرن من ذلك، كان خورخي لويس بورخيس، في بوينس آيرس، أكثر خفة، فقد ألقى محاضرة حول موضوع الخلود في اليوم نفسه، والساعة نفسھا، التي كان فيھا المنتخب الأرجنتيني يخوض مباراته الأولى في مونديال 1978 احتقار الكثير من المثقفين المحافظين لكرة القدم كان يستند إلى اليقين بأن عبادة الكرة ھي الشعوذة التي يستحقھا الشعب. فالغوغاء المصابة بمس كرة القدم تفكر بأقدامھا، وھذا من خصائصھا، وفي ھذه المتعة التبعية تجد نفسھا. فالغريزة البھيمية تفرض نفسھا على الجنس البشري، والجھل يسحق الثقافة، وھكذا تحصل الدھماء على ما تريده. وھناك بالمقابل مثقفون يساريون كثيرون يزدرون كرة القدم لأنھا تخصي الجماھير وتحرفھا عن النشاط الثوري. خبز وسيرك، سيرك دون خبز: فالعمال المنوّمون بالكرة التي تمارس عليھم سحراً خبيثاً، يصابون بضمور الوعي، ويتيحون لأعدائھم الطبقيين أن يسوقوھم كالقطيع. عندما لم تعد كرة القدم شيئاً خاصاً بالإنكليز والأغنياء، ولدت في منطقة ريو دي بلاتا (أي الأرجنتين والأورغواي) أول الأندية الشعبية، فجرى تنظيمھا في ورش السكك الحديدية وفي ترسانات الموانئ. وفي ذلك الحين، استنكر بعض القادة الفوضويين والاشتراكيين ھذه الآلية البرجوازية لمنع الإضرابات وللتستر على التناقضات الاجتماعية. فانتشار كرة القدم في العالم كان برأيھم مؤامرة إمبريالية للإبقاء على الشعوب المقھورة في طور الطفولة. ومع ذلك، فإن نادي جونيورز الأرجنتيني ولد أول الأمر باسم نادي شھداء شيكاغو، تكريماً للعمال الفوضويين الذين شنقوا في أول أيار، وكان أول أيار كذلك ھو اليوم الذي اختير للإعلان عن ميلاد نادي تشاكاريتا، الذي جرى تعميده في مكتبة فوضوية في بوينس آيرس. في تلك السنوات الأولى من القرن، لم يعدم وجود مثقفين يساريين يحتفلون بكرة القدم بدل ازدرائھا كمخدر للوعي. ومن بينھم الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي الذي امتدح "مملكة الوفاء البشري كرة القدم ھذه التي تُمارس في الھواء الطلق". كرة القدم والوطن مرتبطان على الدوام؛ وكثيراً ما يضارب السياسيون والدكتاتوريون بھذه الروابط. ففصيلة كرة القدم الإيطالية ربحت مونديالي 34 و38 باسم الوطن وموسوليني، وكان لاعبوھا يبدؤون وينھون كل مباراة بصرخة: تحيا إيطاليا وبتحية الجمھور ببسط راحاتھم المرفوعة. وكانت كرة القدم بالنسبة للنازيين أيضاً مسألة دولة. وھناك نصب في أوكرانيا يذكّر بلاعبي فريق دينامو كييف في1942 ففي أوج الاحتلال الألماني، أقترف أولئك اللاعبون حماقة إلحاق الھزيمة بمنتخب ھتلر في الملعب المحلي. وكان الألمان قد حذروھم: إذا ربحتم ستموتون. دخلوا الملعب وھم مصممون على الخسارة، وكانوا يرتجفون من الخوف والجوع، ولكنھم لم يستطيعوا كبح رغبتھم في الجدارة والكرامة. فأُعدم اللاعبون الأحد عشر وھم بقمصان اللعب، عند حافة ھاوية، بعد انتھاء المباراة مباشرة.، كرة القدم والسياسة، كرة القدم والشعب: في عام 1934 وبينما كانت بوليفيا وباراغواي تتذابحان في حرب التشاكو، متننازعتين قطعة أرض مقفرة على الخريطة، شكّل الصليب الأحمر في باراغواي فريق كرة قدم، لعب في عدد من مدن الأرجنتين وأورغواي وجمع ما يكفي من المال لمعالجة جرحى الجانبين في ميدان المعركة. بعد ثلاث سنوات من ذلك، وخلال الحرب الأھلية الإسبانية، كان ھناك فريقان مغتربان شكلا رمزاً للمقاومة الديمقراطية. فبينما الجنرال فرانكو يمسك بذراعي ھتلر وموسوليني، ويقصف الجمھورية الإسبانية، كان المنتخب الباسكي يجوب أوربا وفريق برشلونة يخوض مباريات في الولاياتالمتحدة والمكسيك. فقد أرسلت الحكومة الباسكية فريق بلادھا إلى فرنسا وبلدان أخرى للقيام بالدعاية وجمع الأموال للدفاع عن الجمھورية. وفي الوقت، نفسه أبحر فريق برشلونة إلى أمريكا. ومع انقضاء عام 1937 سقط رئيس فريق برشلونة صريعاً بالرصاص الفرانكوي. وكان الفريقان يجسدان في ملاعب كرة القدم، وخارجھا أيضاً، الديمقراطية المحاصرة. من البتر إلى الذروة في 1921 كانت المنافسة على كأس أميركا ستجرى في بوينس آيرس. وأصدر عندئذ رئيس البرازيل ايبيتاسيو بيسوسا مرسوم البياض: فقد أمر بعدم إرسال أي لاعب أسمر البشرة، لأسباب تتعلق بسمعة الوطن. ومن المباريات الثلاث التي لعبھا الفريق الأبيض، خسر اثنتين. في تلك البطولة الأمريكية الجنوبية لم يلعب فريدينريتش. فقد كان من المستحيل في تلك الفترة أن يكون لاعب كرة القدم البرازيلي زنجياً، ومن الصعب أن يكون خلاسياً: وكان فريدينريتش يتأخر على الدوام في الدخول إلى أرض الملعب، لأنه كان يبقى نصف ساعة في صالة الملابس وھو يكوي شعره الأجعد. واللاعب الخلاسي الوحيد في نادي فلوميننسي، كارلوس ألبيرتو، كان يبيض وجھه بمسحوق الرز. فيما بعد، ورغم أنف أصحاب السلطة وليس بفضلھم، راحت الأمور تتبدل. وعلى المدى الطويل، ومع مرور الوقت، تمكنت كرة القدم تلك المبتورة بالعنصرية من أن تتكشف بكل أبعادھا بألوان متنوعة. وبعد كل ھذه السنين صار من السھل إدراك أن الزنوج والخلاسيين ھم أفضل اللاعبين في تاريخ البرازيل، ابتداء من فريدينريتش وحتى روماريو، مروراً بدومينغوس، وداغيا، وليونيداس، وزيزينھو، وغارينشيا، وديدي، وبيليه. جميعھم آتون من الفقر، وقد عاد بعضھم إليه. ولكن لم يكن ھناك بالمقابل زنجي واحد بين أبطال البرازيل في قيادة السيارات، لأنھا رياضة تتطلب المال، مثلھا مثل كرة المضرب. في ھرم العالم الاجتماعي، الزنوج في الأسفل والبيض في الأعلى. وھذا ما يطلقون عليه في البرازيل اسم الديمقراطية العنصرية، ولكن كرة القدم توفر في الحقيقة أحد الميادين القليلة التي تنعم بقدر من الديمقراطية، حيث يمكن لذوي البشرة القاتمة أن يتنافسوا على قدم المساواة. ويمكن أن يكون ذلك، إلى حد ما، لأن البعض في كرة القدم ھم أكثر مساواة من الآخرين. ومع أن الجميع يتمتعون بالحقوق نفسھا، إلا أنه لا تتوفر منافسة في ظروف متماثلة للاعب القادم من الجوع والرياضي جيد التغذية. ولكن الطفل الفقير، وھو زنجي وخلاسي عموماً، يجد في كرة القدم بعض إمكانية الصعود الاجتماعي التي لا توفرھا له لعبة أخرى سواھا: فالكرة ھي العصا السحرية الوحيدة التي يمكنه أن يؤمن بھا. فقد توفر له الطعام، وربما تحوله إلى بطل، وربما إلى إله.. البؤس يُكسبه البراعة في كرة القدم أو في الجنوح. ومنذ ولادته يكون ھذا الطفل مضطراً إلى تحويل عيوبه الجسدية إلى سلاح، وسرعان ما يتعلم كيف يقفز عن قواعد النظام الذي ينكر عليه المكان. يتعلم كيف يكتشف تيه كل طريق، وكيف يكون عالماً في فنون التخفي والمفاجأة، وكيف يشق طريقه إلى حيث لا ينتظر أحد ظھوره، ويتفادى الخصم بانحناءة من خصره أو بأي لحن آخر من موسيقاه المراوغة. طلاسم وتمائم.. الرب والشيطان كثير من اللاعبين يدخلون الملعب بقدمھم اليمنى وھم يرسمون إشارة الصليب. وھناك أيضاً من يتوجھون مباشرة إلى المرمى الفارغ ويسجلون ھدفاً، أو يقبلون قائم المرمى. وآخرون يلمسون العشب ويرفعون أيديھم إلى شفاھھم. كثيراً ما يظھر اللاعب وھو يعلق ميدالية حول عنقه، ويربط بمعصمه شريطاً سحرياً حامياً. وإذا ما انحرفت رمية الجزاء، فلأن أحداً قد بصق على الكرة. وإذا ما ضيّع ھدفاً مضموناً، فلأن ساحراً ما قد أغلق مرمى الخصم. وإذا ما خسر المباراة، فلأنه أھدى قميصه في الانتصار الأخير. حارس المرمى الأرجنتيني آماديو كاريثو أمضى ثماني مباريات ومرماه لا يمس بفضل قدرات قبعة كان يعتمرھا في الشمس والظل. تلك القبعة كانت تعويذة ضد شياطين الأھداف. وفي مساء أحد الأيام سرق منه القبعة آنخل كليمنتي روخاس، اللاعب في فريق بوكا جونيورز. وحين جُرد كاريثو من تميمته، لم يستطع صد ھدفين وخسر فريق ريفر المباراة. وروى أحد أبطال كرة القدم الإسبانية، ھو بابلو ھيرنانديث كورونادو، أنه حين وسّع نادي ریال مدريد ملعبه، أمضى ست سنوات دون أن يحرز البطولة، وبقي كذلك إلى أن تغلب على تعويذة الشؤم بفضل مشجع عمد إلى دفن رأس ثوم في منتصف أرض الملعب. ومھاجم نادي برشلونة الشھير لويس سواريس، لم يكن يؤمن باللعنات، ولكنه كان يعرف بالمقابل أنه سيحقق عدة أھداف كلما أريق منه النبيذ وھو يأكل. ومن أجل استدعاء أرواح الھزيمة الخبيثة، ينثر المشجعون الملح في ملعب الخصوم. ومن أجل إبعاد تلك الأرواح الخبيثة ينثرون في ملعب فريقھم حفنات من حبوب القمح أو الرز. وھناك آخرون يشعلون شموعاً، أو يسكبون خمراً على التراب أو يلقون أزھاراً في البحر. وھناك مشجعون يتوسلون حماية يسوع الناصري والأرواح الطيبة التي قضت نحبھا حرقاً أو غرقاً أو تيھاً، وقد ثبت في أماكن عديدة أن حراب القديس جورجيوس وتوأمه الأفريقي أوغوم تتمتع بفعالية عالية ضد تنين الإصابة بالعين. ولأن الجميل يقابل بالحمد والشكر، فإن المشجعين المتحمسين للآلھة يوفون نذرھم ويتسلقون على ركبھم جبالاً عالية وھم يتلفعون براية النادي، أو يقضون بقية حياتھم وھم يھمسون بالمليون صلاة التي نذروا ترديدھا. وعندما تُوج نادي بوتافوغو بطلاً في عام 1957، خرج ديدي من الملعب دون أن يمر على صالة استبدال الملابس، وھكذا أنجز وھو بملابس اللعب العھد الذي كان قد قطعه على نفسه لقديسه الحامي: اجتياز مدينة ريو دي جانيرو من أقصاھا إلى أقصاھا سيراً على الأقدام. ولكن الألوھية لا تجد على الدوام الوقت الكافي لنجدة الكرويين المعذبين بالمحنة. فالمنتخب المكسيكي وصل إلى مونديال 1930 مثقلا بالنبوءات المشؤومة. وعشية مباراته ضد فرنسا، وجه المدرب المكسيكي خوان لوكي دي سيرايونغا كلمته التشجيعية إلى اللاعبين في فندقھم بمونتيفيديو: أكد لھم أن عذراء غوادالوبي (شفيعة المكسيك) كانت تصلي من أجلھم في الوطن، فوق جبل تيبياك. كرة القدم كعلاج نفسي تواصلي أمضى إنريكي بيتشون-ريفري حياته مفكراً بأسرار الكآبة البشرية ومقدماً المساعدة في فتح أقفاص الانغلاق وعدم التواصل. ووجد في كرة القدم حليفاً فعالاً في مھمته. ففي سنوات الأربعينيات نظم بيتشون -ريفري فريقاً لكرة القدم من مرضاه في مستشفى الأمراض العقلية. فالمجانين الذين لا يقھرون في ملاعب الساحل الأرجنتيني، كانوا يمارسون، وھم يلعبون، أفضل علاج للتوصل إلى التلاؤم الاجتماعي. وكان الطبيب النفساني، وھو في الوقت نفسه مدرب وھداف الفريق، يقول: استراتيجية فريق كرة القدم ھي مھمتي الأولى. بعد نصف قرن من ذلك، أصبحنا نحن كائنات المدن جميعنا سانيودوSanudo وتعني مجانين إلى حد ما ا، بالرغم من أننا نعيش جميعنا، لأسباب تتعلق باتساع المكان، خارج مستشفى المجانين. تطاردنا السيارات، ويحاصرنا العنف، ويحكمنا انعدام التواصل، ونصبح في كل يوم أكثر تكدساً، وفي كل لحظة أكثر توحداً، ويتناقص أكثر فأكثر مكان وزمان اللقاء فيما بيننا. وفي كرة القدم، مثلما ھو الحال في كل شيء، نجد أن عدد المستھلكين أكبر من عدد المبدعين. وقد غطى الإسمنت المرابع الخالية، حيث كان بمقدور أي شخص أن يقيم ميدان كرة قدم صغير في أي وقت يشاء، والتھم العمل كل وقت اللعب. فلم يعد معظم الناس يلعبون، بل يتفرجون على آخرين يلعبون، سواء في التلفزيون أو من المدرجات التي راحت تبتعد أكثر فأكثر عن أرض الملعب. وتحولت كرة القدم، مثلھا مثل الكرنفال إلى استعراض تتفرج عليه الجماھير. ولكن، مثلما يحدث في الكرنفال، حيث ھناك من يندفع إلى الرقص في الشارع دون الاكتفاء بالتفرج على الفنانين الذين يرقصون ويغنون، لا تعدم في كرة القدم أيضاً بعض المتفرجين الذين يتولون دور البطولة بين حين وآخر، لمجرد الفرح، إضافة إلى مشاھدتھم وتقديرھم للاعبين المحترفين. فليس الأطفال وحدھم، بل إن الآخرين كذلك، سواء أصدقاء الحي، أو زملاء المصنع أو المكتب أو الكلية، مھما كانوا بعيدين عن الملاعب المحتملة، مازالوا يرتبون الأمور من أجل اللھو بالكرة، بصورة سيئة أو جيدة، إلى أن يستنزفھم الإنھاك، وعندئذ يجتمع الخاسرون والرابحون ويشربون معاً، ويدخنون، ويشتركون في حفلة أكل جيدة، ويمارسون ھذه المتع المحظورة على الرياضيين المحترفين. وفي بعض الأحيان تشارك النساء أيضاً، ويُدخلن أھدافھن الخاصة، وإن كانت التقاليد الرجولية عموماً تنفيھن عن حفلات التواصل ھذه. كيف صار الإعلان على الصدر أھم من الرقم على الظھر في منتصف عقد الخمسينات، وقع نادي بينارول أول عقد لطباعة إعلانات على قمصان فريقه. وقد ظھر عشرة لاعبين وعلى صدورھم اسم إحدى الشركات، أما ابدوليو فاريلا بالمقابل، فقد لعب بالقميص المعتاد دون إعلان، وقد أوضح ذلك بالقول: فيما مضى كانوا يعلقون لنا نحن الزنوج حلقة في أنفنا. ولكن ذلك الزمن مضى ولن يعود. أما اليوم، فقد تحول كل لاعب كرة قدم إلى إعلان يلعب. في عام 1989 لعب كارلوس منعم مباراة ودية وھو يرتدي قميص المنتخب الأرجنتيني مع مارادونا والآخرين. ولدى رؤيته في التلفزيون، يتساءل أحدنا عما إذا كان ذلك الرجل ھو رئيس الأرجنتين أم رئيس شركة رينو: فقد كان يلمع على صدر منعم إعلان ضخم لشركة السيارات ھذه.. على قمصان المنتخبات التي شاركت في مونديال 1994 كانت ماركة أديداس أو آمبرو تبدو بوضوح أكبر من الشعار الوطني لكل فريق. وعلى ملابس تدريب المنتخب الألماني، كانت تظھر إلى جانب النسر الاتحادي نجمة مرسيدس بنز.. لقد صار الإعلان على الصدر أھم من الرقم على الظھر. في عام 1993 لم يجد نادي راسينغ من يرعاه، فنشر إعلاناً والإعلان أكثر «... نبحث عن ممول»: متلھفاً في جريدة كلارين أھمية كذلك من التقاليد المقدسة التي تدعو إليھا الرياضة، مثلما يقولون. ففي تلك السنة نفسھا، وبينما كانت الأضرار في الملاعب التشيلية تتخذ أبعاداً مخيفة، مُنع بيع المشروبات الكحولية في أثناء المباريات، وكانت معظم أندية الفئة الأولى التشيلية تعرض مشروبات كحولية، بيرة أو نبيذ، على قمصان لاعبيھا. وبمناسبة الحديث عن التقاليد المقدسة، فقد حوّلت إحدى معجزات بابا روما الروح القدس إلى مصرف اعتماد. وھو المصرف الذي يدعم حالياً نادي لاتسيو الإيطالي. وقد كُتب على قمصان النادي إعلان يقول: مصرف الروح القدس، كما لو أن كل لاعب ھو صراف عند الرب. ھدف بيكينباور الأول في المونديال: الأناقة أقوى من دبابة حدث ذلك في مونديال 1966. وكانت ألمانيا تلعب ضد سويسرا. شن يووي سيلير ھجوماً مع فرانز بيكينباور، فكانا مثل سانتشو بانسا ودون كيخوتة أطلقھما زناد غير مرئي، خذ وھات، لك ولي، وعندما أصبح الدفاع السويسري كله غير مجدٍ، مثل أذن الأصم، واجه بيكينباور حارس المرمى إيلسنر الذي أسرع إلى الجھة اليسرى، فاتخذ بيكينباور القرار وھو يركض: انحرف يساراً وسدد وأدخل. كان عمر بيكينباور حينئذ عشرين سنة، وكان ھذا ھو ھدفه الأول في بطولة عالمية. وقد شارك بعد ذلك في أربع بطولات أخرى، كلاعب وكمدير فني، ولم يتراجع مطلقاً عن الموقع الثالث، ورفع بيديه كأس العالم مرتين: في عام 1974 وھو لاعب، وفي عام 1990 وھو مدير للفريق. وعلى العكس من الاتجاه السائد في كرةِ قدمٍ تعتمد على القوة المحضة، كان ھو يثبت أنه يمكن للأناقة أن تكون أقوى من الدبابة، وللرقة أن تكون أنفذ من قذيفة المدفع. في الحي العمالي في ميونخ ولد ھذا الإمبراطور لنصف الملعب، وكانوا يسمونه القيصر، لأنه كان الآمر بوجاھة في الدفاع وفي الھجوم: في الخلف لم تكن تفلت منه أي كرة أو ذبابة أو ناموسة تريد المرور؛ وعندما يندفع إلى الأمام، كان ناراً تخترق الملعب. بيليه الذي أوقفت مباراته حربا ليتفرج الجنود حدث ذلك في عام 1969. وكان نادي سانتوس يلعب ضد فاسكو دي غاما في استاد ماراكانا. اجتاز بيليه الملعب مثل وابل، متفادياً الخصوم في الجو، دون أن يلمس الأرض، وعندما كان يدخل إلى المرمى مع الكرة وكل شيء، أُوقع أرضاً. صفر الحكم معلناً ضربة جزاء. ولم يشأ بيليه تسديد تلك الرمية. ولكن مائة ألف شخص أجبروه على ذلك وھم يصرخون باسمه. كان بيليه قد سجل الكثير من الأھداف قبل ذلك في ملعب ماراكانا. أھداف عجيبة مثل ذاك الذي سجله عام 1961 ضد نادي فلومينينسي، حين كان قد راوغ سبعة لاعبين وأتبعھم بحارس المرمى أيضاً. ولكن ضربة الجزاء تلك كانت مختلفة.. فقد أحس الناس بأن فيھا شيئاً مقدساً. ولھذا صمت الجمھور الأكثر صخباً في العالم. فقد سكن ھياج الناس فجأة، وكأنھم قد انصاعوا لأمر: لم يعد ھناك من يتكلم، لم يعد ھناك من يتنفس، لم يعد ھناك أحد. لم يعد على المدرجات أحد فجأة، ولا في الملعب أيضاً. بيليه وحارس المرمى آندرادا كانا وحيدين. ووحيدان كانا ينتظران. بيليه وقف بجانب الكرة عند نقطة ضربات الجزاء البيضاء. وعلى بعد اثنتي عشرة خطوة منه يقف آندرادا، منكمشاً، مترصداً، بين العوارض. لقد تمكن حارس المرمى من لمسھا، ولكن بيليه غرس الكرة في الشباك. لقد كان ذاك ھو ھدفه رقم ألف. ولم يكن أي لاعب قد سجل ألف ھدف في تاريخ كرة القدم الاحترافية. وعندئذ عادت الحشود إلى الوجود، وقفزت مثل طفل مجنون السعادة، مضيئة الليل. مائة أغنية تذكر اسمه. في السابعة عشرة من عمره كان بطل العالم وملك كرة القدم. ولم يكن قد أكمل العشرين حين اعتبرته الحكومة البرازيلية ثروة وطنية ومنعت تصديرة. كسب ثلاث بطولات عالمية مع المنتخب البرازيلي وبطولتين مع نادي سانتوس. وبعد تسجيل ھدفه الألف، واصل تسجيل الأھداف. لعب أكثر من ألف وثلاثمائة مباراة، في ثمانين بلداً، مباراة بعد أخرى بإيقاع أشبه بالجلد، وأدخل قرابة ألف وثلائمائة ھدف. وفي إحدى المرات أوقف حرباً: فقد توصلت نيجيريا وبيافرا إلى ھدنة لمشاھدته وھو يلعب. فرؤيته وھو يلعب تستحق ھدنة وأكثر من ھدنة بكثير. عندما ينطلق بيليه راكضاً، يخترق الخصوم وكأنه سكين. وعندما يتوقف يضيع الخصوم في المتاھات التي ترسمھا قدماه. وحين يقفز، يعلو في الھواء كما لو أن الھواء سُلّماً. وعندما يسدد ضربة حرة يرغب الخصوم الذين يشكلون الحاجز بالوقوف بالعكس، وجوھھم إلى المرمى، كي لا يضيعوا رؤية الھدف الذي سيحققه. لقد ولد في بيت فقير، في قرية نائية، ووصل إلى ذرى السلطة والثروة، حيث يحظر على الزنوج الدخول. لم يكن يھدي خارج الملاعب لحظة من وقته إلى أحد، ولم تكن تسقط من جيبه قطعة نقد واحدة. ولكن نحن الذين حالفنا الحظ برؤيته وھو يلعب، تلقينا ھدايا من جمال نادر: لحظات من تلك الجديرة بالخلود والتي تتيح لنا الإيمان بأن الخلود موجود. كرة القدم ھي الشعب، والسلطة ھي كرة القدم في أوج كرنفال الفوز بمونديال 1970، أھدى الجنرال ميديشي، دكتاتور البرازيل، نقوداً إلى اللاعبين، ووقف أمام المصورين وھو يحمل الكأس بين يديه، ومضى أبعد من ذلك حين ضرب كرة برأسه أمام الكاميرات. ومارش إلى الأمام أيتھا البرازيل الذي وضعت ألحانه خصيصاً من أجل المنتخب، تحول إلى الموسيقى الرسمية للحكومة، بينما كانت صورة بيليه وھو يطير فوق العشب ترافق في التلفزيون الإعلانات التي تھتف: لم يعد بإمكان أحد وقف البرازيل. وعندما فازت الأرجنتين في مونديال 1978، استخدم الجنرال فيديلا صورة كيمبيس المندفع كإعصار لأھداف مماثلة تماماً. كرة القدم ھي الوطن، والسلطة ھي كرة القدم: أنا الوطن، ھكذا كانت تقول تلك الدكتاتوريات العسكرية. وفي أثناء ذلك، كان الجنرال بينوشي الآمر الأعلى في تشيلي، يعين نفسه رئيساً لنادي كولو-كولو، أوسع أندية البلاد شعبية، أما الجنرال غارسيا ميزا الذي استولى على بوليفيا، فقد صار رئيساً لنادي ويلستيرمان، وھو ناد له جمھور واسعة ومتحمس. كرة القدم ھي الشعب، والسلطة ھي كرة القدم: أنا الشعب، ھكذا كانت تقول تلك الدكتاتوريات العسكرية. مارادونا كان ينام في الليل محتضنا الكرة ونھارا يصنع بھا العجائب حدث ذلك في عام 1973. في أثناء اختبار لفريقي الأطفال في ناديي أرجنتينوس جينيور وريفر بلات في بوينس آيرس. تلقى الرقم 10 في أرجنتينوس الكرة من حارس مرماه، فراوغ ھجوم وسط ريفر بلات وانطلق يعدو. خرج عدد من اللاعبين لمواجھته: فمرر الكرة من وراء أحدھم، ومن بين ساقي آخر، وخدع ثالثا بضرب الكرة بكعبه. وبعد ذلك، ودون أن يتوقف، شل لاعبي الدفاع وترك حارس المرمى مطروحاً على الأرض ودخل ماشياً مع الكرة إلى مرمى الخصم. لقد خلّف وراءه في الملعب سبعة أطفال مقليين وأربعة لا يستطيعون إطباق أفواھھم. فريق الصغار ذاك كان قد لعب مائة مباراة دون أن يخسر أي واحدة منھا وكان يلفت أنظار الصحفيين. وقد صرح أحد لاعبي الفريق، ويدعى السّمّ، وعمره ثلاث عشرة سنة: نحن نلعب من أجل المتعة. لن نلعب من أجل المال مطلقاً. فعندما يدخل المال في الموضوع، يقتتل الجميع من أجل أن يصبحوا نجوماً، وعندئذ يأتي الحسد والأنانية. تكلم وھو يعانق اللاعب المحبوب من الجميع، وھو أشدھم مرحاً وأقصرھم قامة: إنه دييغو آرماندو مارادونا. وكان عمره اثنتي عشرة سنة، وھو الذي أدخل ذلك الھدف غير المعقول. كان من عادة مارادونا إخراج لسانه حين يكون في أوج الإرسال. لقد سجل كل أھدافه ولسانه خارج فمه. وكان ينام في الليل وھو يحتضن الكرة وفي النھار يصنع العجائب بھا. وكان يعيش في بيت فقير، في حي فقير، ويرغب في أن يصبح فنياً صناعياً. كرويف.. قائد الاوركسترا والعازف فيھا كانوا يطلقون على المنتخب الھولندي اسم البرتقالة الآلية، ولم يكن ھناك أي شيء آلي في ذلك العمل التخيلي الذي أربك الجميع بتبديل المواقع الدائم. ومثل آلة نادي ريفر، الاسم الافترائي ذاته، كانت تلك النار البرتقالية تذھب وتجيء، تدفعھا رياح حكيمة: فالجميع يھاجمون والجميع يدافعون، ينتشرون ويجتمعون بصورة دوارية على شكل مروحة، فيفقد الخصم الأثر أمام فريقٍ كل واحد فيه ھو أحد عشر لاعباً. لقد أطلق صحفي برازيلي على ذلك اللعب اسم الفوضى المنظمة. وقد كان لدى ھولندا موسيقى، ومن كان يقود لحن الأنغام الفورية متفادياً الصخب والنشاز ھو جوھان كرويف. قائد الاوركسترا والعازف فيھا، وكان كرويف يعمل أكثر من أي شخص آخر. لقد دخل ھذا الكھربائي النحيل إلى نادي آجاكس حين كان طفلاً: بينما كانت أمه تخدم في كافيتيريا النادي، كان ھو يلتقط الكرات التي تذھب خارجاً، وينظف أحذية اللاعبين، ويغرس الأعلام في زوايا الملعب، ويعمل كل ما يطلبونه منه ولا يعمل شيئاً مما يأمرونه به. كان يرغب في أن يلعب، ولم يسمحوا له بسبب جسده الضعيف جداً وطبعه الحاد جداً. وعندما سمحوا له، بقي. وحين كان فتى مبتدئاً في المنتخب الھولندي لعب بصورة رائعة، سجل ھدفاً وأوقع الحارس مغمياً عليه بلكمة. وبقي فيما بعد مندفعاً، ساخناً، شغيلاً، وموھوباً. وعلى امتداد عقدين من الزمان كسب اثنتين وعشرين بطولة، في ھولندا وفي اسبانيا. اعتزل وھو في السابعة والثلاثين، بعد أن سجل ھدفه الأخير، وحملته الحشود يومئذ على محفة من الاستاد حتى بيته. مولر.. أكبر من سجل أھدافاً في تاريخ الدوري الألماني والمنتخب الوطني قال له المدير الفني لنادي ميونيخ: لن تصل بعيداً في لعب كرة القدم. من الأفضل لك أن تتوجه إلى عمل آخر. بعد إحدى عشرة سنة من ذلك، في عام 1974، تحول ھذا اللاعب ذو ضربات الكعب والمشط إلى بطل العالم. ليس ھناك من سجل أھدافاً أكثر منه في تاريخ الدوري الألماني وتاريخ المنتخب الوطني. لم يكن ذلك الذئب الشرس يظھر في الملعب. كان يتنكر بزي الجدة العجوز، مخبئاً أنيابه ومخالبه، وكان يوجه تمريرات بريئة ويقدم أعمال إحسان أخرى. وفي أثناء ذلك، ودون أن ينتبه أحد، ينزلق نحو منطقة الجزاء. وأمام المرمى المفتوح يلعق شفتيه: فالشبكة ھي طرحة عروس لا يمكن مقاومتھا. وعندئذ ينزع قناع التنكر، ويعض بأنيابه. أسياد الكرة.. الفيفا التي تملك عرشاً وبلاطاً في زيوريخ أن الفيفا التي تملك عرشاً وبلاطاً في زيوريخ، واللجنة الأولمبية الدولية التي تحكم في لوزان، ومؤسسة الإعلان ماركتنغ التي تنسج لھما تجارتھما من لوسرن، تتحكم ببطولات كرة القدم العالمية والدورات الأولمبية. وكما ھو واضح فإن مقر المنظمات المقتدرة الثلاث ھو سويسرا، البلاد التي اشتھرت بدقة تصويب ويلم تل، وبدقة ساعاتھا وبورعھا الديني في الحفاظ على الأسرار المصرفية. وبالصدفة وحدھا تشعر المنظمات الثلاث بحياء استثنائي في كل ما يتعلق بالمال الذي تتداوله القميص الأزرق هو أحد رموز حزب الفالانج (الكتائب) الفاشي في اسبانيا فرانكو، والراحة المرفوعة هي التحية الفاشية المعروفة. وبالمال الذي يبقى بين يديھا. إن السلطة على كرة القدم العالمية ليست مجرد تبجح طاووسي. ففي أواخر عام 1994، وأثناء الحديث في نيويورك أمام جماعة من رجال الأعمال، اعترف ھافيلانج ببعض الأرقام، وھو أمر نادر بالنسبة إليه: يمكنني أن أؤكد أن الحركة المالية لكرة القدم في العالم تصل إلى مبلغ 225 ألف مليون دولار. وتباھي بمقارنة ھذه الثروة بملبلغ ال 136 ألف مليون دولار الذي حققته في عام 1993 شركة جنرال موتورز، وھي التي تتصدر قائمة أكبر الشركات متعددة الجنسيات. كرة القدم. وفي ذلك الخطاب نفسه، نبه ھافيلانج إلى أن وذكّر ،« ھي سلعة تجارية يجب تسويقھا بأكبر حكمة ممكنة بقانون الحكمة الأول في العالم المعاصر: يجب توخي الحذر الشديد بشأن التعامل بالحزمة. فبيع حقوق البث التلفزيوني ھي الطبقة الأكثر مردوداً ضمن منجم البطولات الرياضية العالمية العجيب، والفيفا واللجنة الأولمبية الدولية تتلقيان حصة الأسد مما تدفعه الشاشة الصغيرة. وقد تضاعفت الأموال بصورة استعراضية منذ بدأ التلفزيون بنقل البطولات العالمية في بث مباشر إلى جميع البلدان. فدورة برشلونة الأولمبية تلقت من التلفزيون في عام 1993، مبلغاً أكبر بستمائة وثلاثين مرة من المبلغ الذي تلقته دورة أولمبياد روما عام1960، حين اقتصر البث على النطاق الوطني الإيطالي فقط. وعندما يراد حسم مسألة اختيار الشركات التي ستظھر دعاياتھا في كل بطولة، يكون الأمر واضحاً تماماً لدى ھافيلانج وسامارانش وآل داسلير: يجب اختيار الشركات التي تدفع أكثر. فالآلة التي تحوّل كل عاطفة إلى أموال لا يمكنھا أن تھتم بتشجيع المنتجات الأكثر صحية وفائدة للحياة الرياضية؛ بل تضع نفسھا على الدوام بنعومة ورقة في خدمة من يدفع أكثر، فھي لا تھتم إلا بما إذا كانت ماستركارد ستدفع أفضل من فيزا، وإذا ما كانت فوجي فيلم تضع على الطاولة نقوداً أكثر من كوداك. أما كوكاكولا فتحافظ دوماً على الإكسير الذي لا يمكن أن يخلو منه جسد أي رياضي، وھي تبقى على رأس قائمة المعلنين على الدوام. ففضائلھا المليونيرية تضعھا فوق أي جدال. في كرة قدم نھاية القرن ھذه، المرتبطة بالسوق والممولين، ليست ھناك أي مفاجأة في أن تكون أھم الأندية الأوربية شركات تنتمي إلى شركات أخرى. فنادي جوفينتوس تورينو ھو جزء، مثل شركة فيات، من مجموعة آجنيللي. ونادي ميلان ھو واحد من ثلاثمائة شركة تشكل مجموعة بيرلوسكوني. ونادي بارما يتبع لشركة بارمالتا. ونادي سامبدوريا ھو جزء من مجموعة مانتوفاني البترولية. ونادي فيورينتينا يتبع للمنتج السينمائي شيكي غوري. ونادي أوليمبيك مارسليا وصل إلى صدارة كرة القدم الأوربية عندما تحول إلى شركة من شركات بيرنار تابيه، إلى أن أطاحت فضيحة رشوات برجل الأعمال الناجح. ونادي باريس سان جيرمان يتبع لفناة بلوس التلفزيونية. وشركة بيجو التي تمول نادي سوشو، ھي مالكة استاده أيضاً.