تميز المغرب عل مدار تاريخه ببزوغ شخصيات نابغة أبدعت في مجال تخصصها وأسهمت في بناء الإدراك المعرفي للمجتمع وشحذ الهمم والارتقاء بالوعي الجمعي، كما رسخت عبقرية المغاربة بتجاوز إشعاعها حدود الوطن، ومنهم من لا تزال إنتاجاتهم العلمية والمعرفية تُعتمد في الحياة وتدُرس في جامعات عالمية. هم رجال دين وعلماء ومفكرون وأطباء ومقاومون وباحثون ورحالة وقادة سياسيون وإعلاميون وغيرهم، منهم من يعرفهم الجميع وآخرون لم يأخذوا نصيبهم من الاهتمام اللازم، لذا ارتأت جريدة "العمق" أن تسلط الأضواء على بعضهم في سلسلة حلقات بعنوان "نوابغ مغربية"، لنكتشف معًا عبقرية رجال مغاربة تركوا بصمتهم في التاريخ. الحلقة 24: عبد الله بن محمد العياشي.. بسم الله الرحمن الرحيم في قبيلة آيت عياش بأحواز سجلماسة العريقة، التي هاجَر جدُّها الأعلى (عبد الله بن عبد الرحمن الفكيكي) أواخِر عصْر الدولة المرينية من منطقة فكيك واستَقَرَّ في جبل العياشي بين ميدلت وقصْر السّوق، وهناك تكاثرت ذريته، وانتشرت، ولِدَ منهم مُتَرْجَمُنا (عبد الله العياشي) يوم 4 ماي 1628، في سياق أحداث سياسية واجتماعية خطِرة، تميَّزت باندلاع الصراعات بين أبناء السلطان (أحمد المنصور الذهبي) المتوفّى سنة 1603، والتي أنذرت بزوال دولة السّعديين. كان أوّل عهده بالتّمدرس؛ في زاوية والِده الشيخ (محمد بن أبي بكر العياشي) بالأطلس الكبير الشّرقي _ الواقعة حاليا على بُعد 60 كلمتراً جنوبَ مدينة مِيدلت _، التي لعبت دورا كبيراً في حِفْظ مقوّمات الشخصية المغربية والهوية الدينية والتأطير الصوفي والاجتماعي. فَحفِظ على يَدَيْه القرآن الكريم، وتَعلَّمَ اللغة العربية والكتابة والارتِباط بالأوراد والأذكار والدِّين، ثمَّ انتقل في مرحله شبابه إلى درعة فأَخَذ العلم عن فقيهِها (محمد بن ناصر الدّرعي)، ثم غادَر إلى فاس، عاصمة العلم، فكان له شَرف الأخْذ مباشَرة عن العالِم (أحمد ميّارة) تلميذ العلّامة الأكبَر (عبد الواحد بن عاشر) وناشِر مَتْنِه الأشْهَر "المُرِشِد المُعين على الضَّروري من علوم الدّين". ثمَّ تتلمذَ على يَد الفقيه الجليل (عبد القادر الفاسي) الذي قالَ عنه (العياشي) حينَ أجازَه: "كَعْبة الآمال ومَحَطّ صالح الأعمال، بقية السلف الصالح، طبيبٌ يُدير كيف شاء الكلام، وتحسم يَدُه أصْل الإيلام، شيخ الإسلام وخاتمة المحقِّقين (..) أبو محمد عبد القادر.."، وتتلمذ أيضاً على يد الفقيه (أبي بكر السّكتاني). ولَمّا كان (أبو سالم عبد الله العياشي) سليل بِيئَة أَحَبَّت الأولياء وتعلَّقت بكراماتهم، وارتبَطت بالزوايا والطُّرق الصوفية السنية، ومنها الطريقة الشاذلية التي يَفخَر (العياشي) بالانتساب إليها، نشأ مُقدِّراً لِقْدر العلم والعلماء، ومُحبِّاً للمتصوِّفة والصُّلحاء، ومفتخِراً بأشْعرِيته ومالِكيته وبلاده المغرب، ونَزّاعاً إلى معرفة الآفاق والالتقاء بخيرة الرِّجال؛ تَاقَت نفسه لمزيدٍ من العلم، فانطلَق متّكئاً على تقليد مغربي راسخ في اختراق الآفاق وشدّ الرحال، ومتطلِّعاً لأداء منسكٍ عظيمٍ قلَّما يُدرِكه العامة، حَجُّ بيت الله الحرام، وساعِياً لرَبط التواصل الحضاري والديني والعلمي بين الغرب الإسلامي والمشرق العربي، ومتحفّزاً لعودةٍ إلى البلادِ يُحتَفى بها فيه؛ عَلَماً ورحّالةً خبيراً ورجلَ انفتاحٍ وتواصل محظوظ، وللتبرُّك به والنّهْل من غزيرِ معطياته عن العالَم الآخَر؛ (انطلق) في رحلة طويلة آسِرة خلَّدها في كتابٍ ضخمٍ من جُزءَين. انطلقت رحلة صاحِبنا يوم الخميس فاتح ربيع الأول من العام الهجري 1072، الموافِق لسنة 1661 ميلادية، وكان مسارُها طويلاً وحافلاً بالأحداث، غَطَّى رُقعة جُغرافيةً ابتدأت ب"سجلماسة" المغربية، وصولاً إلى "القُدس" الفلسطينية، ومرَّت بمدُن القَرن الحادي عشر الهجري (تْوات، أوكرت، وارْكْلَة، نفْزاوة، طرابلس، أنْبابة، القاهرة، السّويس، أرْض التِّيه، مغائر شعيب، العقبة السوداء، الينبع، جبل الرمل، رابغ، عقبة السكر، مَرّ الظهران، التَّنعيم، مكة المكرَّمة، المدينة المنوَّرَة، غَزّة، الرَّمْلة، القدس، الخليل، دمياط، الإسكندرية، طرابلس، تُوزَر، بَسْكَرة)، عودَةً إلى "سجلماسة" سنة 1663، رحلة أراد منها صاحِبها _ كما كَتَب إثْر عودته للمغرب _ أنْ تَكون "ديوانَ عِلمٍ لا كتابَ سَمرٍ وفُكاهة". جاءت رحلة العلّامة (العياشي) في ظرفية متميزة من القرن الحادي عشر الهجري/السابع عشر الميلادي، حَبْلى بالمتغيِّرات السياسية والحضور اللافت للأطياف الدينية والثقافية، وموسومة بالحضور العثماني القوِي من الجزائر إلى فلسطين، ومطبوعة بِنَشاطٍ علمي متميِّزِ رَصَده الرجل في مصر وتونس والحِجاز. ولم يكن قَطُّ مُصوِّراً وناقلاً ومؤرِّخاً فحسب؛ بَل _ ووفاءً لوظيفته كفقيه وعالِمٍ _ مارس النّقد، والرَدَّ على الأباطيل والبِدع والانحرافات السلوكية والثقافية والدِّينية التي صادَفها في طريقه. وفي كلِّ بلدٍ حَلّ به، خلَّدَ لنا مشاهِدَ عنه، عمراناً وبَشراً وفِكراً وتصوُّفاً وعِلْماً ومعاملات وغيرها. ومما مَيَّز رحلة (أبي سالمٍ) انكبابه الجادّ على أخْذِ العلم ولقاء العلماء، وحضور مجالس السّمر الفكري، وتَعَقُّبِ كل شاردة وواردة مِن نوازِل أهل كل بلد، ومعرفة الفوارق بين المذاهب إزاءَها، وأقوال العلماء فيها. فحين حَلَّ بالقاهرة؛ أبى إلّا أنْ يَكترِيَ "خاناً" أو ما يُعرف عندنا في المغرب الأقصى ب"الفْنْدَق" بجوارِ جامع الأزهر الشّريف، ولَمّا عَسُرَ عليه ذلك؛ اكْتَرى بمقْرُبةٍ من مسجد الصحابي (الحسين بن علي رضي الله عنه)، ليتمكّن مِن لُقيا علماء الأزهر، ومُحدِّثيه وقُرّاءه الكبار، فَأرَّخ لنا في غَدْوِه ورَواحه بين "الخان" و"الأزهر" مشاهد الحياة اليومية للمصريين، وواقع الحيوية العلمية بالأزهر الشريف، شامة الجامعات العلمية في العصر العثماني. وفي المدينة المنوَّرة التي أَخَذَت بلُبِّ صاحِب الرحلة، استقرَّ مدة ناهزت ستة أشهر، عابداً زاهدا، وباحثا عن العلماء والمشايخ، فأجازَ واسْتَجاز، واستفاد منهم وأفاد، وتَفرّغ قليلاً لتدوين الشارد من المعلومات والوارِد عليه من الخواطِر وما تقع عليه بصره من الظّواهر، مِصداقا لقول الشاعر: العِلم صَيْدٌ والكتابةُ قَيْدُه قَيِّد صُيودَك بالحبالِ الواثِقة فَلازَم شيوخ المدينة المنوّرة ورِحابها المطهَّرة، مُفيداً ومُستفيداً، ومُلاحِظاً وموثِّقاً، ومُترْجماً للأعلام والسّادات من الفقهاء والعلماء، المغمورين منهم والمشهورين، ودَرَّس في رحابِ المدينة "مختصر خليل في فقه مالكِ"، بِطلبٍ مِمّن أسماهُم "أصحابنا المالكية". وتَتَلْمَذَ على يَد الشَّيخ (محمد بن عبد الرّحمن الدَّيْبَع اليَمني)، أستاذ المقرئين وإمام المحدِّثين، والشيخ (إبراهيم الميموني) الذي وَصَفَه (العياشي) ب"شيخنا الهمام، عَلَم الأعلام، شيخ مشايخ الإسلام". كما التَقى بالمفتِي والمربِّي (زين العابدين الطَّبَري). ولما انتقَل إلى أرض فلسطين، حاطّاً الرحال بمدينة القُدس، دارت بينه وبين (عبد العزيز النفّاتي) قاضي القدس الشريف حوارات علمية وشرعية، وتزوّدا من بعضهما الوفيرَ من المعارِف. وقد اعْتَرف بعض الدارسين والمحقِّقين لرحلة (العياشي) الكُبرى؛ أنّ الرجل لم يُبْقِ ممّن انتَسَب وعاش في القرن الحادي عشر الهجري "من فقيه وعالم، أو متصوِّف وعارف، أو أديب وشاعر، سواء بالغرب الإسلامي أو بمصر والحجاز، أو بالقُدس وما والاها من المُدن والأمصار؛ إلّا وحرِصَ على الالتِقاء به ومقابلته والأخذ عنه والتعريف به، أو اكتفى بالإشارة إليه حين حالَتْ عوارِض زَمانية أو مكانية دونَ لقائه، بل إنه ألَّف كتابَين في تراجم خيرة مَن الْتَقَى مِن العلماء والفقهاء ونخبة الحواضر العربية آنذاك، عَنْوَنَ أحدَهما ب"اقتفاء الأثَر بَعد ذهاب أهل الأثَر"، وعَنونَ ثانيهما ب"إتحاف الأخِلّاء بإجازات المَشايِخ الأجِلّاء"، فانْفَرَدَ فيهما بالتّرجمة لبعض الأعلام الذين تخلو الكتابات السّابقة والرحلات اللاّحقة عن التأريخ والتّرجمة لهم. في هذه الرحلة السِّفارية ونصِّها البديع، يَتبيّن لنا أنّ (العياشي) لم يَكن مجرَّد سائِحٍ في بلاد العَرب، ولا مجرَّد مُتَلقٍّ مندهِشٍ مِن جديد ما رأى؛ بَل كان صاحِبَ عِلْمٍ سابِقٍ حَصَّله في بلده المغرب، وصاحِبَ رأيٍ وفِكرٍ، يُحَاوِر ويَرُدّ على الأفكار والانحرافات التي كانت تَصْدُرُ مِن سلوك الناس وعقلية أتباع بعض الطّوائف، ويُناقِش بعقلية الفقيه المالكي أصول الشَّريعة وفروعها مع أهل العِلم الذين صادَفهم في مسار رِحلتِه التي غَطَّت كُلّاً مِن المغرب الأوسط والأدنى وليبيا ومصر وبلاد الحجاز وأرض فلسطين، ويَنْقُل بدِقّة وموضوعية أغربَ ما شاهَدَه مِن معاملات الناس وتصرُّفات أهل البَدْو في الحجاز خاصّة. كَما تَعَرَّضَ بالنَّقد لآفَة الرّشوة التي كانت قَد دَبَّت في أوصال المناصب الهامّة في مصر والشام،كخُطَّة القَضاء والحِسبة وإمامة المسجد وكتابَة العقود، وحتى في المجال الشَّرعي، كتقديم الفتوى والتَّنَافُس على الآذان في الجوامع.. والتَّبذير وتكلُّف النِّسوة في الحجاز وما يُلْحِقنه مِن ضَرر بالأزواج والأموال في سبيل عادات متكلِّفة ما أنْزل الله بها مِن سُلطان. لقد سَاهم (أبو سالم العياشي) في رَوَاج الأفكار بين المشرق والمغرب، وانتقال العادات والمعاملات بين المناطق، ولا أدلَّ مِن قيمة النص الرّحلي الذي كتبه (العياشي) بَعد رحلته حيث اتَّخَذ له عنوان "ماء الموائد"، ليُدلِّل على ما جمعَه في دفَّاته مِن فوائد. ومن جُملةِ فوائدِ رحلةِ "ماء الموائد"؛ تَعْرِيفُ القرّاء على تَوالِي أجيالِهم بجغرافيا الأرض والفِكر والثّقافة في البلدان العربية والمشرق، وتقديم صورةٍ عن شخصية مغربية عالِمة واسِعة الاطّلاع عميقة التأمّل دقيقة الرّصد، رَسَمَتْ بِعَيْنٍ أنثروبولوجية أحوالَ النَّاس وعوائدَهم في الكَسب والمعاش، وخَوْضَ العلماء في أهمّ القضايا الفقهية والاجتماعية، وانتعاش الحركة الصّوفية والمذاهب من بُقعةٍ لأخرى خلال ثلاث سنواتٍ من منتصف القرن السابع عشر. إنّها بِحَقٍّ؛ أكثر مِن مجرّد رحلة؛ إنها ديوان عِبَر، ومدوّنة اجتماعية وثقافية ودينية، وموسوعة غاية في الإفادة والإجادة، مَكّنت الرحَّالة الجَوَّال (عبد الله العياشي) مِن اكتساب معرفةٍ جديدةٍ ونُبوغٍ في حقولٍ علمية وشرعية شتّى، فصارَ حينَ حلَّ ببلدته وآلَ إليه أمْر الإشراف على زاوية والِده؛ مَقْصِداً للزائرين، وموئِلاً لطلبة العلم المُقِيمِين والوافِدين، وقِبْلةً للفقهاء والعلماء يتدارسون معه في نوازل وشؤون الشريعة والحياة. وجَمعَ في خزانة الزّاوية العيّاشية مُعظَم ما اقْتَنَاه واسْتَنْسَخَه في رِحلته الطّويلة، ونَفيس ما جَمَعَه في فاس ودرعة أيّام تحصيله العلوم؛ فَصارت الزّاوية بوجودِ العلّامة (العياشي) بِها وتدريسه فيها وما احتوته مِن ذخائر علمية ومخطوطات؛ شُعْلةً مُضيئة في جبال الأطلس، ومدْرسة للتّخريج والتّنخيب، ومَعْلَماً بارزاً من معالِم النَّبوغ المغربي. وبَعد هذا وقَبْله؛ لم يَكن (العياشي) مُجَرَّدَ جامِع كُتبٍ وكنانيش ومخطوطات، ولا جائلاً في البلدان والقارات؛ بل كانَ مُؤلِّفاً وعالِماً مُشارِكاً في التأليف والمحاضرات، ومِن مُصنَّفاته التي حَقَّقها المحقِّقون؛ كتاب: "اقتفاء الأثَر بعدَ ذَهابِ أهْلِ الأثَر"، وكتاب "إتحاف الأخِلّاء بإجازات المشايِخ الأجِلّاء" المذكورانِ أعلاه. فَضْلاً عمّا وقف عنده المحقِّقون للتُّراث الأدبي والفكري للشيخ (عبد الله العياشي)؛ مِن مخطوطاته القيمة التي ما زالت لم تُحقَّق بعد، وأهمّها: "إرشاد المُنتَسِب إلى فهْم مَعونة المكتَسِب"، و"التَّعريف والإيجاز ببعض ما تَدعو الضّرورة إليه في طَريق الحِجاز"، و"تنبيه ذَوي الهمم العالية على الزُّهد في الدّنيا الفانية"، و"مَعارِج الوصول"، الذي خَصَّصَه لحالة التَّصَوُّف بالمغرب الأقصى. وغيرها مّما أورَده التَّراجمة المغارب والعرب الذين عَرَّفوا بشخصية العلّامة (العياشي) وبإنتاجه المتعدِّد، ومنهم الأستاذ (سعيد حجي) في كتابه "الحركة الفكرية بالمغرب في عهد السّعديين"، والباحث (محمد الأخضر) في كتابه الصّادر سنة 1977 "الحركة الأدبية بالمغرب في عهد الدولة العلوية"، والعَلّامة (محمد بن تاوييت) في مَرجِعه "الوافي بالأدب العربي في المغرب الأقصى". وبَعد رِحلة حياةٍ وبَحثٍ وعِلْم وتَعارُفٍ بَين الشّعوب والثقافات والعلماء؛ غادرَ العالِم الفذّ (عبد الله العياشي) عالَمنا إلى الدّار الآخِرة، متأثِّراً بوباء الطاعون الذي تفشَّى في المغرب، فأسلم الروح لباريها سَنة 1679. رحمه الله وأحسن له المثوبة. * إعداد: عدنان بن صالح/ باحث بسلك الدكتوراه، مختبر "شمال المغرب وعلاقاته بحضارات الحوض المتوسِّطي"، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد المالك السعدي - تطوان.