الحديث عن إدارة الأزمات والإعلام يستوجب الحديث عن العلاقات العامة بصفة عامة، على اعتبار أن إدارة الأزمات في علاقتها بالإعلام فرع من فروع العلاقات العامة، وهي واجهة تعمل المؤسسات من خلالها على التعريف بسياساتها واستراتيجياتها وتوجهاتها في علاقتها بمحيطها والرأي العام عبر مختلف وسائل الإعلام. يورد علي فرجاني في كتابه "العلاقات العامة واستراتيجيات الاتصال"، أن " من بين الأزمات التي حدثت في البدايات الأولى للعلاقات العامة، كانت أزمة إضراب عمال منجم " Colorado" عام 1914، وقد اقنع Ive Lee، الذي كان يعمل صحفيا وقتها، مالك المنجم بزيارة موقع العمل والتحدث مع العمال المضربين مما أدى إلى إعادة الثقة بين المؤسسة والعمال ومن ثم تحسين صورة الشركة في ذهن العمال" . ويعد إدوارد بيرنيز (Edward Bernays) من الرواد الأوائل في حقل العلاقات العامة في فترة ما بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، وتأثر بيرنيز بنظريات فرويد في علم النفس، بحكم علاقة القرابة التي تربط بينهما، ومن هذا الباب ربط العلاقات العامة بالدراسات النفسية. ومن أبرز ما اشتهر به إدوارد بيرنيز في العلاقات العامة وإدارة الأزمات، مصطلح "مشاعل الحرية" التي ترتبط بالدعاية، كجزء من العلاقات العامة، حيث إنه شارك في لجنة مسؤولة عن الترويج الذي تلعبه الولاياتالمتحدةالأمريكية في الحرب العالمية الأولى، وحين زار الرئيس الأمريكي وقتها، أوروبا واستقبلته المظاهرات الحاشدة، وأثبت نجاح هذه اللجنة في "الدعاية" السياسية. وهو ما جعل بيرنيز يفطن إلى أن الدعاية قد تنجح في مجالات أخرى كالتجارة. ما دفعه إلى ابتكار مفهوم "العلاقات العامة" ليقوم بإنشاء مكتب استشاري لصالح الشركات. واستعان بيرنيز بأفكار فرويد في مجال علم النفس، وخاصة عن اللاوعي والسلوك والدوافع الخفية والرغبات البشرية، في وضع سياسيات العلاقات العامة. ويعد مثال "مشاعل الحرية"، أبرز مثال في هذا الباب، وتتلخص قصة هذا المصطلح في كون التدخين حكرا على الرجال في العقد الثاني من القرن العشرين. في الوقت الذي ينظر فيه المجتمع بعين الريبة إلى المرأة المدخنة. وكان جورج واشنطن هيل رئيس الشركة الأمريكية للتبغ، يعلم حجم الأرباح التي سيجنيها في حال ما إذا وسع سوق الاستهلاك ليشمل النساء. وعلى هذا الأساس، استعان بخدمات مستشار الدعاية إدوارد بيرنيز، وهو ما دفع إدوارد إلى إطلاق حملة "مشاعل الحرية"، إذ شرع في التعاقد مع عارضات أزياء، ووظفهن للترويج لحملته في أماكن عامة وهن يدخنن. وأتبع الحملة بالاتصال بالصحافة، وقام بالتخطيط لدعاية على أنها حركة حقوقية نسائية. ما جعل الصورة المنتشرة تتأسس على أنها حركة "تحرر نسوي" ضد القمع الذكوري الذي لحق المرأة في الحق في التدخين. وهكذا انتشرت صور نساء وهن يدخنن، فانتشر الاعتقاد على أن الأمر "ثورة"، وخلال تلك الفترة ارتفعت نسبة استهلاك السجائر من طرف النساء من 5 إلى 12 في المائة. وتحولت "قضية" تدخين السجائر من طرف النساء من مسألة عادية إلى "قضية" حرية وتحرر، ونتج عنها ارتفاع في أرباح الشركات المسوقة للتبغ . مثال 1: "منذ العام 1981، تتلقى شركة بركتر أند غامبل Procter and Gamble ، التي هي أبرز الشركات الأمريكية المنتجة للسلع الاستهلاكية الأساسية، آلاف الاتصالات الهاتفية في الشهر الواحد من مستهلكين قلقين، للاستفسار عن مدى صحة شائعة تقول إن للشركة المعنية علاقة بالشيطان". الشائعة ذهبت إلى أن شعار الشركة الذي اعتمدته على شكل وجه إنسان يحدق إلى النجوم يخفي مجموعة من الرموز الشيطانية. وبحكم أن النجوم ترسم بطريقة انتظامها العدد الشيطاني المعروف 666. عززت الشائعة ما تم الترويج له بكون الشركة تحالفت مع الشيطان، بهدف مضاعفة أرباحها. انتشرت الشائعة وتعاظم تأثيرها وألبت رأيا عاما ضد الشركة جعلها في حرب لم تكن مستعدة لها، حرب غير متوقعة " عنصر المفاجأة". كانت النتيجة الدعوة إلى مقاطعة منتجات الشركة. مثال 2 : في أواخر عام 1966، مست الشائعة أحد المتاجر الشهير للملابس الجاهزة في مدينة روان شمال فرنسا، على أنه غطاء للمتاجرة بالرقيق الأبيض، وعلى إثر ذلك كثرت التهديدات الهاتفية، فاضطرت مديرة المتجر، التي أخفقت في نفي الشائعة، إلى الاستسلام والرحيل عن المدينة. مثال 3: في 22 نونبر 1963، تم اغتيال الرئيس الأمريكي جون كينيدي، عندما موكبه يجتاز مدينة دالاس. وسرعان ما تم القبض على الشخص المذنب "لي هارفي أوزوالد"، وتشكلت حينها لجنة رسمية للتحقيق في حادث اغتيال الرئيس الأمريكي جون كينيدي. وانتهت نتائج التحقيق في تقرير "وران" Warren إلى إثبات مسؤولية "لي هارفي أوزوالد" في عملية الاغتيال من تلقاء نفسه. بعد ذلك بأيام، تروج شائعة مفادها أن المذنب ليس شخصا واحدا، بل كان هناك أشخاصا آخرين، غرباء على صلة بحادث الاغتيال، وشاعت نظرية المؤامرة، ووجهت حينها أصابع الاتهام إلى النظام الكوبي الذي يقوده فيديل كاسترو، كما روج البعض تورط وكالة الاستخبارات المركزية CIA الأمريكية في الحادث. الدافع إلى التذكير بالأمثلة الثلاثة السابقة، يتجلى في خطورة انتشار الشائعة و"موت" الاتصال المؤسساتي. وقد نتحدث في حالة الحكومة المغربية عن "موت" الاتصال المؤسساتي في إدارتها لأزمة كورونا وعلاقتها بالإعلام، بحكم أن إدارة الأزمات لم يكن يوما ما، يتم ببلاغات "جافة" أو تصريحات صحفية دون عنصر التفاعلية ( أخذ ورد / أسئلة وأجوبة). والحال يفرض، في أزمة مثل هذه الأزمة التي عاشها ويعيشها العالم كله، بأثرها الكبير على الاقتصاد والمجتمع من جميع النواحي، العمل بكل وسائل الاتصال المتاحة وتكثيف حضور المؤسسات عبر مختلف قنوات الاتصال الممكنة، وتفسير كل خطوة وقرار لحظة بلحظة، ولو اقتضى الحال انعقاد لجان مكلفة ومسؤولة بشكل دائم (كما لو أننا في حالة حرب كما عبر عنها الرئيس الفرنسي امانويل ماكرون في إحدى خطاباته في بداية أزمة كورونا) والحال أن الحكومة المغربية، تترك مجالا شاسعا واسعا لانتعاش الإشاعات و"الأخبار الزائفة"، ثم تعود لتكذب وتصدر بلاغات تصحيحية حتى لا نقول " تكذيبية"، بحكم أن الفراغ الذي تتركه هو ما يتسبب في رواج وانتشار الشائعات. ومنذ بداية الأزمة الصحية التي تسبب فيها فيروس "كورونا" في مختلف دول العالم، سارعت الحكومات إلى بلورة مخططات المواجهات، مخططات تعد وتبنى حسب قدرة كل دولة، وظهرت اختلافات وفروقات في هذه المخططات على المستوى اللوجستي أو الصحي أو البنيات التحتية، وحتى الأولويات المرتبطة بالسياسات الصحية. غير أنه رغم كل الفروقات والاختلافات التي يمكن تسجيلها على هذه المستويات ومستويات أخرى فيما يتعلق بأولويات خطط المواجهة، بقى شق واحد أو مستوى واحد لا اختلاف فيه إلا باختلاف طبيعة أنظمة الدول والحكومات، هو الاتصال أو التواصل كما يحبذ البعض أن يسميه، والأساس في هذا المستوى هو المعلومة وتدفقها وسرعة انتشارها ومدى صدقيتها والقنوات التي تمر عبرها. بمسح بسيط بين دول تعتبر "نموذجا للديمقراطية"، كالولاياتالمتحدةالأمريكية وبريطانيا وكندا وألمانيا وفرنسا، على سبيل المثال، لا يمكن إلا أن تلاحظ أن زعماء هذه الدول ورؤساء حكوماتها، يخرجون في مؤتمرات صحفية تعج بصحفيين ومختلف ممثلي وسائل الإعلام مسلحين بعدد من الأسئلة التي تهم الشعوب برمتها. في المؤتمرات الصحفية يبسطون كل التفاصيل ويكشفون عن الخطط المعدة للمواجهة والتوقعات المنتظرة. والمتابع لتطورات الأوضاع في دول ديمقراطية، يلاحظ الخرجات الاتصالية/ الإعلامية المتواصلة لرؤساء الدول والحكومات، لبسط المستجدات وتطورات الأوضاع والأهداف المحققة والتوقعات المنتظرة، كل هذه الأمور لا يمكن للبلاغات وحدها أن تشرحها أو تفسرها ... في تجربة حكومة العثماني، حتى صياغة البلاغ في كثير من الأحيان تحتاج إلى تفسير، والكثير من مفردات هذه البلاغات والمقصود بها تتبعها تأويلات، واللغة تحتمل التأويل ( مثال : التنقل وفق جهة الإقامة في بلاغ الحكومة المغربية بخصوص إجراءات تخفيف الحجر الصحي مع بداية التصنيف إلى منطقة 1 و منطقة 2) يحتمل التأويل، ما المقصود بجهة التنقل ( حدود جهة الإقامة : هل تعني العمالة أو الإقليم أو الجهة أو المدينة، أو الولاية أو ماذا؟) ، سؤال مطروح حينها بشدة دون توضيح لازم. ثم في واقعة بلاغ الثانية عشر ليلا، المتعلق بتدابير التخفيف في المرة الأولى، متى كانت الحكومات تتواصل في منتصف الليل بخصوص قرارات مصيرية تهم ملايين الأشخاص، وبدون تفسير. الخلاصة أن الفراغات التي تتركها بلاغات الحكومة ومؤسساتها، تزيد من ضبابية الوضع، وتترك المشهد يعج بشائعات قد تقضي على كل شيء. البلاغات الصحفية وحدها .. لن تقوم مقام اللقاء المباشر والتفسير والشرح .. البلاغات تترك فراغا وبياضا كبيرين تنتعش فيهما الشائعات بلا نهاية. هناك حاجة ملحة إلى اتصال وتواصل كامل غير منقوص، لن تعوضه البلاغات والبيانات...