من الممكن، ولأسباب مختلفة، قليلة أو كثيرة، أن يشعر المرء بغثة، بانسياقه وراء مشاهدة الأفلام الوثائقية عن الحيوانات البرية. ربما، أن هذا قد لا يكون عادة أو طفرة خاصة، بل قد يكون الأمر سيان، لدى جميع البشر، المتحكم بزمام العقل، الذي يهوى مطالعة كل ما هو عجيب، في فعله، وفي صنعته التي صنعها الله، فأحسن صنعه. وقد يكون الأمر عادي عند الجميع، وقد لا يكون عند البعض. فأن تتم مشاهدة مشاهد عن الفتك والإفتراس، والقوي يأكل الضعيف، ولا مكانة للضعيف أمام أي قوة أخرى، فذاك أمر عادي جدا. ولكن، أن يتم استكشاف دقائق هذا، سواء تعلق الأمر بالأسباب أو ما يترتب عنها في ما بعد، فذاك أمر يتطلب تتبع دقيق جدا ، قد يأخذ صاحبه بعيدا، إلى الحد الذي يمكن معه إيجاد مشاهد مشابهة عند بني البشر. ليس دائما، ما يكون الإفتراس، وراءه إشباع نهم الجوع. بل إن وراءه أمور أخرى، قد تكون هي الغالبة دائما. فأول شيء، يقوم به المنتصر، بعد انتصاره، ليس الفتك بالمنهزم والقضاء عليه فحسب، وإنما القضاء على كل أثر له، وهو-المنتصر- مدفوع بالغريزة الطبيعية، لا ترف له عين، وتنعدم فيه أي شفقة، فيقضي حتى على أشبال المنهزم، التي هي في نظر العقل، الذي يخضعه له البشر، بريئة من أي ذنب. لكن في نظر قوى الطبيعة، والغريزة الحيوانية، فهي مذنبة، ويتوجب القضاء عليها، لتوفرها على جينات ضعف، انتقلت إليها من والدها الضعيف، المنهزم حتى تفسح المجال لمجيء من هو أقوى منها، كما هو الأمر دائما وأبدا. الأمر مماثل عند الإنسان. قديمه وحديثه. كيف لا، وهو إبن الطبيعة، وكان في فترات زمنية سحيقة، أقرب إلى الحيوان في طبعه وطباعه. وحتى في زمن العقل الخارق، والإنسانية في أبهى رُقيّها، لا زال هذا الطبع غالب عليه. يتضح ذلك في حروبه، وفي اقتتال بعضه بعض. ليس هناك من مثال أجلّ، وأوضح مثل ما حدث خلال الحروب الكونية. الأولى والثانية. الدول التي انتصرت في الأولى، بسطت كل قوتها، وهيمنتها على المنهزمة. وبعد أن برزت أحد النوى القوية، التي نبتت وسط رماد الحرب والهزيمة، تشكل (الفوهرر) الأعظم، وحاول لأسباب عديدة أغلبها (الحجر) الذي ضُرب على بلد الرايخ، أن ينتفض، ويكون أقوى من كل الظروف المهينة؛ وكاد أن يبسط سيطرته على العالم أجمع، استنادا إلى نظرية الإنتخاب والقوة، التي قالها بها داروين. عندئذ، اشتعلت الحرب الكونية الثانية بشكل أكبر، والتي أنتجت قوى عالمية، أمسكت قبضتها على البشرية جمعاء، وجعلتها ضعيفة، تحكمها علاقات، تكاد تكون علاقة سيّد بعبد، ومنتصر بمنهزم. ما يحدث الآن في فلسطين، وفي سوريا، وفي العراق، وفي اليمن، وفي ليبيا، وفي جميع بؤر التوتر العالمية، ما هو إلى غيض من فيض هذه القاعدة العامة. فقد حدث هذا من قبل، في اليابان، حينما سقطت عليها من السماء، قنابل نووية دون رحمة أو شفقة، فقضت على جميع نوى القوة المفترض وجودها فيها، مثلما يفتك الأسد المتوحش، بأشبال الأسد المنهزم، حتى يطمئن لعدم بقاء من ينافسه أو يهدد حياته. والأمر نفسه حدث في ألمانيا، وفي غيرها من الدول العديدة.. ولأن هذه القاعدة مستمرة في الزمان، وكامنة في خلايا البشر، فلا غرابة إن انقلب يوما ما، السحر على الساحر، وخرجت من الضعف قوة، ومن القوة ظهر الضعف؛ فيصير القوي ضعيفا، والضعيف يصبح قويا. هنا، في هذا المقام، وإزاء ما يحدث من أمور يندى لها الجبين، ليس في فلسطين وحدها من تقسيم الأرض والعبث بمقدسات إنسانية، بل في جل الدول العربية، قد يحدث أن يتذكر المرء بعض الأحداث المشابهة جدا، تفتقت عنها عبقرية الأديب العالمي، كارسيا ماركيز، في مائة عام من العزلة. فقد كانت إحدى القرى، تفتقر للأمن والآمان، بسبب ضعف وهوان محاربيها. الأمر الذي جعل حكمائها، وأكابرها، يقدمون على خطوة مفاجئة. إذ التمسوا استقدام محارب عظيم، لينثر جيناته القوية بين أهاليهم؛ وهكذا، سيصبح لديهم محاربين عظماء، فتتوفر لهم الحماية، ويسود قريتهم الأمن، ويحافظون على بقاءها قائمة مدة أطول. الأمر، ليس بالسهولة التي تُتصور. فإذا كان ما جاد به خيال كارسيا ماركيز من أفكار، قد لا يتطلب سوى جيل واحد، حتى يكون هناك محاربين عظماء، وتكون هناك قوة مطلقة، فإنه على أرض الواقع، قد يحتاج الأمر إلى أمد طويل جدا. وقبل هذا وذاك، فالزمان أو بالأحرى الطبيعة، كفيلة بذلك. وما يلزم الآن، هو نهضة للذات ومع الذات. وقد يكون هذا، نقطة الاهتداء إلى بداية الطريق الظالة. جاري النشر… شكرا على التعليق, سيتم النشر بعد المراجعة خطأ في إرسال التعليق المرجو إعادة المحاولة