تحظى نخبة علماء الدين بمقام رفيع في مكتوبات الإمام عبد السلام ياسين مرشد جماعة العدل والإحسان المغربية ومؤسسها (1928-1912)، فقد تطرق لمقاربة مكانة العلماء ولرسالتهم التربوية وواجبهم السياسي في المجتمع والدولة الإسلامية، وقبل ذلك في عملية التغيير والإصلاح إبّان مرحلة “الدعوة” أو “المعارضة” في معظم كتبه ومؤلفاته، على اعتبار أنهم يشكلون فئة محورية ضمن مكونات النخبة الدينية للأمة، أي ضمن ما يسميه النسق اللغوي الياسيني “برجال الدعوة”، الذين يمكن تحديدهم انطلاقا من فكر الأستاذ بأنهم: جميع العاملين في حقل الدعوة الإسلامية من العلماء والفقهاء والقيادات الدعوية والفعاليات والمؤسسات الإسلامية ذات الإسهام المجتمعي في الدعوة والتربية والتعليم الديني والفكر الإسلامي. فالدارس لأدبيات جماعة العدل والإحسان التي تحتل فيها مؤلفات مرشدها المنظر عبد السلام ياسين رحمه الله المكانة الفكرية المرجعية، يجد حضورا كبيرا لمفهوم “النصيحة” كمحدد ثابت لوظيفة العلماء في علاقتهم بأطياف المجتمع المسلم والسلطة السياسية، على اعتبار أن “النصيحة” في نظرية المنهاج النبوي التي طرحها الإمام ياسين في التربية والتنظيم والفكر و السياسة هي أمانة طوّق الله بها علماء الأمة، الذين ميّزهم الأستاذ ياسين عن “علماء القصور” من خلال معيار الورع الأخلاقي والسياسي المتجلي في استقامتهم وخشيتهم لله تعالى، وتجافيهم عن دعم “الحكم الجبري” المرادف في اللغة السياسية لإمام عبد السلام ياسين للاستبداد السياسي. وقد أوضح رحمه الله هذه القضية في فقرة من سفره الثقيل مبنى ومعنى “العدل الإسلاميون والحكم” الصادر سنة 2000، واستهلها بطرح سؤال ماهية العالم المعتبر في الدين؟ ومن ثم كتب من وجهة نظر فقهية حركية “من هم علماء الدين وفقهاء الملة، ما سمتهم؟ ما ضمان استقامتهم؟ علماء القصور وعاظ السلاطين يسخرون ذلاقة لسانهم لدعم الكذب والبهتان يخشون الناس ولا يخشون الله، يطلبون المنزلة عندهم أو يدارونهم ابتداء، حتى تزل الأقدام وتألف الرق بأغلالها، أما الصادقون فهم الذين وصفهم رب العزة سبحانه قائلا: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}. ويأتي الفقه في الدين والعلم بأحكامه والتضلع من معارفه تغشاه سكينة الخشية من الله، وإلا كانت الشهادات وذلاقة اللسان حجة على بعض الناس الذين نصروا الباطل وخذلوا الحق” (العدل الإسلاميون والحكم ص 573) أفرد الإمام عبد السلام ياسين مبكرا أي منذ البدايات الأولى لمساره الدعوي والسياسي في سبعينات القرن الماضي حيزا هاما في تنظيره لموقع نخبة العلماء في المجتمع الإسلامي، إذ اعتبرهم حلقة أساسية ونخبة طليعية في قيادة التغيير المنشود، ففي رسالته الشهيرة إلى الملك الحسن الثاني الموسومة “الإسلام أو الطوفان” خصّ الفصل الثاني منها لمخاطبة العلماء ودعوتهم للقيام بواجبهم الشرعي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على المستويين السياسي والاجتماعي، وبالأخص في النصيحة للحاكم ومواجهة المد الشيوعي الإلحادي بتعبير الرسالة دهرئذ، فتحدث الأستاذ إلى نخبة العلماء كفرد منهم أي كعالم له حرقة وغيرة على ضرورة أدائهم لأمانتهم التربوية في صفوف الشعب ولواجبهم النضالي المطوقين به قرآناً وسنة، محفزا هممهم بذكر مواقف رجال أفذاذ قضوا شهداء إثر قيامهم بواجبهم الشرعي في معارضة الحكم السياسي الاستبدادي وهم الأكابر: محمد بن عبد الكبير الكتاني والإمام حسن البنا وسيد قطب رحمهم الله وتقبلهم في الشهداء. كما انتقد الإمام عبد السلام ياسين في نفس رسالته الشهيرة ” الإسلام أو الطوفان” وبأسلوب مفعم بالأدب خمول العلماء وتشتت صفوفهم “… ولو قدرتم سادتي العلماء أن تطرحوا كبرياءكم وشحكم لذهبت عنكم الغثائية وداؤها، ولاجتمعتم، فاجتمعت الأمة عليكم، إنكم الحلقة الضرورية في غد الإسلام الزاهر بين القيادة المجاهدة والأمة، وإن الأمة لن تسمع إلا لندائكم إن اتحدتم وتطهرتم وتزكيتم”. (رسالة الإسلام أو الطوفان ص 110). ودعا الأستاذ محرّضا نخبة العلماء على انخراط في عملية التغيير المفضي في نظرية المنهاج النبوي إلى قيام “دولة القرآن” بما تحمله من دلالة حمل الدولة القطرية لقيم الإسلام ورسالته في الحكم، بخطاب صريح هذه المرّة إلى الاصطفاف في وجه الظلم والتغلغل في صفوف الشعب لتربيته واستنهاضه للمطالبة بحقوقه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فكتب “… وأنتم يا علماء المسلمين، يا ملح الأرض، يا أيها الناعسون؟ أنتم أهل الحق فتكلموا يا علماءنا يا أصحاب الفضيلة! إن للفضيلة عليكم لحق، وإنكم طوقتم أمانة الإسلام، ففيم نرى بعضكم يخونها وجمهوركم ساكت؟ ثم نرى بعضكم سابحا في تفاهات المناصب، والامتيازات بعيدا عن الجهاد … أنتم سادتي أهل الحق وقد آن أن تقوموا لله وتصطفوا في وجه الكفر والظلم وترفعوا أصواتكم بكلمة الحق، وإنكم فرسان الميدان لما عقلتم الدور الذي خص به الله العلماء في المجتمع الإسلامي، وإن العلماء بصلاحهم يصلح أمر الأمة، وإن فساد مجتمعاتنا المسكينة ناتج عن تراكم الأمراض الخلقية والسياسية التي كان يعالجها سلفكم الصالح أيها العلماء، بطب الإيمان في مجالس القرآن، يوم كان العلماء يجالسون الشعب في المسجد يتعهدون كل يوم مشاعره ويقاسمونه همه”.( افتتاحية العدد الأول من مجلة الجماعة سنة 1979 ). كما ناشد الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله علماء الأمة في الكثير من كتاباته إلى واجب انحيازهم إلى الشعب “وإمامته” وتربية “العامة” وتوجيهها إيمانيا وسياسيا، لتحقيق نهضة الأمة الإسلامية وشهودها الرسالي على العالم، ونذكر في هذا السياق مقتطفا من إحدى نداءاته القوية للعلماء “… إنه مصير الإسلام يا علماءنا تتلاعب به أيد غير متوضئة في عتمة الفتنة، فتكلموا! قوموا لله وعلموا الأمة الإسلامية دينها، خطوا لها الطريق إلى غد الإسلام، وحرروا العقول من هيمنة الثقافة الواردة الغازية، وحرروا الضمائر من أرجاس الخيانة بتحرير الشعب من الفتنة الجاثمة فوقه، حرروا البطون من الجوع، وانزلوا إلى الشعب من علياء مجدكم المزيف تقاسمون المساكين همهم”.( نفس المرجع) وفي نفس هذا السياق المحفز والمقترح على السادة العلماء غشيانَ مجالس الناس ودعوتهم بحال الخشية ومقال التبليغ لنيل شرف استحقاق قول الله تعالى” إنما يخشى الله من عباده العلماء، إن الله عزيز غفور” (فاطر: 28) وقوله عز وجل “الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله”(الأحزاب:39) كتب أستاذنا رحمه الله في الرسالة العلمية ” لكي يقول العالم المبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمته، ولكي يبذر بذرته في النفوس، ويغرس غرسته في الأجيال، يلزمه أن يصمد في وجه التيارات المعاكسة، وأن يغشى مجالس الناس، ومحافل السياسة، وأسواق الإعلام، ومناشط التعليم، ومرافق الحياة الاجتماعية، ومناطق نفوذ الفيلسوف الملحد، ومقاصف اللاهي الغافل، يغشى، ويصمد، ويصبر، ويخالط الناس ويصبر على أذاهم” (الرسالة العلمية ص 40) فانتقاد صمت العلماء وضعفهم عن أداء واجبهم الدعوي والسياسي، مع دعوتهم للانخراط في عملية التغيير والإصلاح للخروج من ربقة الانقياد للاستبداد والتخلف، هما إذا من العناوين الأساسية لحضور العلماء في تصور الأستاذ عبد السلام ياسين إبّان مرحلة “الدعوة”، كما يقابلهما تنظير مُجمَل لمركزهم المستقبلي في مرحلة “الدولة الإسلامية” ضمن ما تطرحه أدبيات الفكر المنهاجي للأستاذ من ثنائية ” الدعوة و الدولة” والتي يعرفها بأنها “… وقوف أهل القرآن علماء الأمة بجانب مطالب العدل والاستقامة والخلق عينا رقيبة من مكان عز القرآن وسيادته على السلطان، يشتغل أهل السلطان الحكام مديرو دواليب الدولة بتسيير دواليب الدولة وإدارة مؤسساتها تحت مراقبة يمارسها الشعب وتنطق بها الدعوة وتراقب وتحاسب” ( العدل الإسلاميون والحكم ص 569). فيحظى مفهوم “رجال الدعوة” – الذي يستوعب في فكر الرجل رحمه الله كما سبق الذكر مختلف الفاعلين الدينيين ذوي السابقة والصدق في القدوة الأخلاقية و الدعوة إلى الله و تربية الأمة وشبابها، و في المعارضة السياسية للاستبداد، ومنهم “العلماء الناصحون”- بمكانة مركزية في الفكر الياسيني وبالأخص في معرض تنظيره للدولة الإسلامية المتحلية بحق، في دستورها وممارستها الديمقراطية بالقيم القرآنية والنبوية المعيارية في الحكم، وذلك من خلال تأكيده على تفرغهم أي نخبة رجال الدعوة لوظيفة “الدعوة” المتلازمة جوهريا بالتربية الإيمانية للإنسان، وبالرقابة الأخلاقية العامة على مؤسسات الدولة لكي لا تخالف مبادئ الإسلام وقيمه الكبرى، فخطّ أستاذنا الحكيم في ذلك “… يتأكد تفرغ صفوة رجال الدعوة للدعوة، وانتصارهم وفلاحهم يقاس بقدرتهم على مراقبة الدولة من خارجها، يفوضون لبعضهم الإشراف المباشر على شؤون الحكم، ويستعينون بالنظراء الفضلاء أصحاب المروءات والكفاءة والنصيب من الإيمان، أما أن يعتبروا شرفهم في النهوض المباشر بالأعباء وأن ينهمكوا بكليتهم في تصريف الهموم اليومية “للحل الإسلامي” فذاك القضاء المبرم على الدعوة” ( نفس المرجع). لذا يحذر الإمام عبد السلام ياسين العلماء وعامة العاملين في الأساس الاستراتيجي أي مجال التربية والدعوة والتعليم من الانغماس المباشر والكلّي في العمل السياسي والمؤسساتي في الدولة الإسلامية المنظَرّ لها، فاعتبر وقوع ذلك انحرافا عن رسالة وغاية “دولة القرآن” “… الحل الإسلامي طامة كبرى على الدعوة إن انخرط الدعاة بكامل عددهم وتحولوا مديرين ووزراء ومستشارين وتركوا المسجد وتركوا صحبة الشعب، وتركوا تربية الأجيال، وتركوا مجالسة المسلمين”. ( نفس المرجع). لكن يبقى التصور السياسي للأستاذ عبد السلام ياسين المندرج ضمن الفقه السياسي السني التجديدي المعاصر الآمل في قيام الدولة الإسلامية القطرية والخلافة الإسلامية الجامعة من بعد، خاصة في شقه المتمثل في التنظير لثنائية الدعوة والدولة مجهودا فكريا تأسيسيا خاما يحتاج إلى المزيد من التدقيق والتطوير لتوضيحه أكثر، لاسيما فيما يخص طبيعة العلاقة الناظمة بين مؤسسة الدعوة و مؤسسة الدولة، في تقاطعها مع خصائص البناء الدستوري للدولة الديمقراطية الحديثة، والذي يتأسس سياسيا على ثنائية الأغلبية والمعارضة، بما يضمن عدم الوقوع في مخالب الاستبداد باسم السلطة الدينية للعلماء ولرجال الدعوة، لكن يتبدى من خلال الاطلاع على مجمل التراث المكتوب للإمام عبد السلام ياسين في نسقيته وتطوره، أن الأستاذ رحمه الله يُعول لمواجهة هذا الخطر الاستبدادي على ضوابط الشورى والبيعة وحق المعارضة للحيلولة دون وقوع ذلك، إذ أن مشروعية الحاكم في المشروعية الإسلامية للحكم تنبثق من اختياره من الأمة عبر آلية البيعة الشرعية التعاقدية، ومن التزامه بالشورى الملزمة التي تجعلُ من شخص الحاكم خادما ووكيلا لدى الأمة لا قائدا متجبرا عليها. وأختم هذه المقالة، بشذرات من شعر الإمام رحمه الله (ديوان شذرات، الشذرة 57) يشيد فيها بعالم الشريعة العامل القدوة: مُحياك يا عالم المسلمين سراج ومعلمة في الطريق أنرت العقول وصُغت الفُهوم وحُطت الشريعة دون المروق رفعت ندانا وصُنت حمانا وبالرفق تمُسك كفّ الغريق. جاري النشر… شكرا على التعليق, سيتم النشر بعد المراجعة خطأ في إرسال التعليق المرجو إعادة المحاولة