تروج هذه الأيام، دعوات من أجل التسجيل في اللوائح الانتخابية، يقوم بها نشطاء الأحزاب، وهذا من حقهم. ومن حقنا أيضا، أن نعبر عن عبثية هذا الطرح، خاصة بعدما تبين عدم جدواه من خلال التجارب الأخيرة، والحكومات والبرلمانات والمعارضات الصورية التي أفرزتها. شخصيا رغم تجربتي السياسية والحزبية المبكرة، حيث انتميت لأحد الأحزاب الكبرى، منذ مراهقتي، وشاركت في أنشطته الاستقطابية والدعائية. لكنني لم أتسجل قط في اللوائح، لأني كنت لم أبلغ سن التصويت بعد، وحين بلغتها ودارت الدورة الانتخابية دورتها، كنت قد قدمت استقالتي منه، ومن مسؤلياتي في شبيبته، فكفيت شرا كثيرا. الموقف من العملية الانتخابية، تتجاذبه في المغرب خريطة فسيفسائية، تبدأ ممن يتموقف عقديا، ومن يتموقف فقهيا، ومن يتموقف سياسيا، من داخل النظام أو من خارجه، ومن يتموقف عدمية، ومن يتموقف عبثا ولامبالاة. مايهمنا في هذه الورقة، هو رأي المتموقفين سياسيا، لأنه الرأي المتزن والمعقول، والواقعي والمؤثر، والسائد والقوي، والمنتشر أفقيا وعموديا، وينقسمون لاتجاهين: 1. اتجاه يعترض على شروط وظروف العملية الانتخابية، ونتائجها وثمارها، ويعبر عنه الكثير من نشطاء بعض الأحزاب سواء المشاركة أو المقاطعة للعملية. 2. اتجاه يعترض على شكل النظام، وما يتيحه من مساحة وإمكانات، ويطالب بتحسين الظروف والوضع السياسي، وبتقديم الملكية لتنازلات تقدم مصلحة الوطن، والقيام بإصلاحات حقيقية تعطي لأي عملية انتخابية، معنى وجدوى، بتبني ديمقراطية حقيقية غير صورية، وملكية برلمانية، وسلطات منفصلة ومستقلة، وإعلام مستقل وحقيقي، وسقف من الحريات السياسية مقبول، وتنمية حقيقية لا استعراضية، تنطلق من الفصل بين السياسة والثروة، وتنتهي بالمتابعة والمحاسبة… وهذا الاتجاه يعبر عنه قطاع عريض من أبناء الشعب، وبعض التوجهات المعارضة. الاتجهان معا يلتقيان في مساحة مشتركة، ويغذيان قطاعات واسعة من الساخطين، الذين فقدوا الثقة في كل الخطابات والوعود الانتخابية. إن الحالة التي آلت إليها تجربة “البيجيدي”، لن تزيد موقف المقاطعين إلا تأكيدا، فهذا الحزب كان نموذجا للحزب الناجح والمسؤول، بكل المقاييس وعلى جميع الأصعدة. فقد كان حزبا يقدم الدروس في الديمقراطية الداخلية، تناوبا على مناصب المسؤولية، ومحاسبة لأعضائه ومناضليه، وكان حزبا يقوم بأدواره الإشعاعية والتأطيرية، على مدار السنة، بعيدا عن مواسم الانتخابات، وهو حزب تدرج في الصعود والانتشار بشكل طبيعي، وليس كأحزاب “الكوكوت مينوت” والولادات القيصرية، واستطاع بذلك، الانتشار أفقيا وعموديا، في المدن كما في القرى والمداشر، فكسب ثقة الشعب والنخبة، وإعجاب المؤسسات والملكية نفسها، فتم الاستنجاد به لإخراج البلاد من عنق الزجاجة. كانت الظروف ملائمة جدا، ليقود الحزب تجربة ناجحة، تكمل مابدأته حكومة التناوب، بل تتجاوزه بمراحل، فهو حزب شعبي ناجح، له قائد يتصف بكاريزما الزعماء، على الأقل عند فئة كبيرة من الناس، كان يلقي خطبه بلغة واضحة وبسيطة، شعبوية لكنها نفاذة، وعلى قدر عال جدا من التواصلية، يطالب بإعطائه صلاحيات ومساحة للاشتغال، يهدد بأنه إن وجد الطريق مسدودا سيسلم المفاتيح ويغادر، يرسم الحدود مع المؤسسة الملكية، ومايفتأ يذكر بها وباحترامه وتقديره لها، يرسل الإشارات تلو الإشارات تلميحا وتصريحا، أنه ليس بديلا ولامنافسا، كانت الظروف ملائمة بدستور جديد، وصلاحيات لرئيس الحكومة أكبر، وخطابات ملكية مشجعة ومطمئنة، وتغيرات إقليمية مساعدة… عوامل كلها كانت بمثابة عقد اجتماعي، يرسم معالم مرحلة جديدة، وخارطة إقلاع وانطلاقة جديدة. ثم ماذا كان؟ عوض استغلال مميزات الحزب، ومؤشرات المرحلة، للتشجيع على العمل السياسي والحزبي، وإرجاع الثقة في العملية الانتخابية، ودفع الأحزاب الأخرى، لإجراء تغييرات في عقليتها وبنيتها وهياكلها، لتتأقلم مع الوضع الجديد، وتشجيع النشطاء على تأسيس أحزاب وإطلاق مبادرات، للانخراط في دينامية حقيقية، تبدأ سياسية وتنتهي تنموية، ويتم تقليص الهوة بين الشعب والدولة، ويجني الكل الثمار، نهضة وثقة واستقرارا. عوض ذلك، تم استغلال الحزب أبشع استغلال، لتمرير إجراءات وقوانين، وإنجاز مشاريع، مضرة بشكل مباشر بالمواطن، كان الحزب فيها هو ذلك الواقي، والدرع الذي يصد الضربات عن المستفيدين من تلك الإجراءات والمشاريع، والمنديل الذي تمسح به كل مخلفات وفضالات تلك العملية. واصلت الدولة عملية ضرب الحزب بالحكومة والحكومة بالحزب، والحزب بالشعب والشعب بالحزب، اعتقادا منها أنها تروضه، وترسم من جديد مربع اللعب، لكنها في الحقيقة لم تكن تمارس إلا عملية تبخيس للعمل السياسي، وتأكيد على صواب رأي المقاطعين. لم يستطيع الحزب الأول شعبيا وانتخابيا، النظيف والنزيه، المهيكل والمنظم، المتماسك والمنسجم، أن يحقق أي شيء، لم يستطع حتى تشكيل حكومته، هو الحاصل على المرتبة الأولى، لم يستطيع تمرير قراراته واختياراته، لم يستطع أن يقف أمام كثير من المشاريع والقوانين غير الشعبية، بل حتى غير الديمقراطية، التي تم تمريرها بتلاعبات وعمليات “كولسة”. رغم كل الظروف الملائمة دستوريا وواقعيا، لم يحقق الحزب ولا الحكومة أيا من انتظارات الشعب، وكانت أيادي الحاكمين الحقيقيين تتدخل بقفازات تارة حزبية وتارة تكنوقراطية، لترسم من جديد خريطة أخرى، وتسطر قوانين جديدة، أو توافق على قوانين أخرى، والحزب الأول المنتخب يتفرج، لايستطيع تغيير أي شيء، لم يستطع حتى منع العبث بأموره الداخلية، والتدخل فيها. استطاعت الدولة العميقة، أن ترسل رسائل واضحة، لاتحتاج تفسيرا ولا تأويلا، نحن الحكام الفعليون، ولن نسمح إلا بما نريد، وكل من يريد أن يلعب دور الزعامة نروضه، ونورطه ثم نفضحه (كما في قضية المعاش المشهورة)، نحن من يصنع الزعامة ويطفئها، ويعطي الصلاحية ويمنعها، وينفخ الأحزاب وينفسها، ويزرع فيها الروح ويقبضها. رسالة واضحة لالبس فيها ولاغموض، تؤكد أنه لافاعل في المجال السياسي إلا حكومة الظل، رسالة تعزز سلطة هذه الحكومة الخفية، وتجعل أصحابها يعتلون منصة التتويج، فيحرزون المرتبة الأولى والثانية والثالثة، ولايسمحون للاعبين إلا بالتفرج من بعيد، من وراء الشاشة مكتفين بالتصفيق، رسالة تقول لاتحلموا كثيرا، فلسنا مستعدين لتقاسم الحكم أو حتى التسيير والتدبير، فقط لأن ألعابكم الانتخابية التافهة أعطتكم هذا الحق. هذه هي الرسالة التي أرادها القائمون على الشأن، وأرسلوها لكل من يهمه الأمر. فماذا كان؟ تلقف كل من يهمه الأمر الرسالة، قرأوها بتمعن، ففهموا أمورا أخرى، نعم أنت ترسل الرسائل، تتحكم في صياغتها وتوقيتها، لكن ليس دائما تصل رسالتك كما تريد. قرأ الناس الرسالة ففهموا أن القائمين على الشأن، لايريدون أي انتخابات، ولايهمهم أي إصلاح، وليسوا بحاجة لأي وسيط حقيقي، وأنه بالانتخابات أو بدونها، يصنعون وسطاءهم، الذين يلعبون تارة دور المنديل لمسح الفضلات، وتارة دور الدرع الواقي من الصدمات. فهم الناس أن القائمين على الشأن، ينوون إطالة أمد هذه اللعبة، وأنهم يهيؤون لكل مرحلة ألف كذبة، فانقسموا إلي فريقين: 1. فريق كان سقفه أخفض، وجرأته أقل، فقرر الدعوة للمقاطعة والتعبئة من أجلها، احتجاجا على هذا التلاعب، إنهم دعاة المقاطعة الجدد، المنتمون للأحزاب والمتعاطفون معها، من الذين كانوا متحمسين للتصويت والانخراط في العملية الانتخابية، فقط قبل سنة أو سنتين، عبروا الآن عن غضبهم، ونشروا تدوينات على مواقع التواصل، تسخر بحملات دعوات التسجيل. 2. فريق كان سقفه أعلى، وجرأته أكبر، فقرر مخاطبة الملك مباشرة، في رسالة واضحة، أنه طالما أنه لم يعد هناك وسطاء حقيقيون، فسنخاطب المسؤولين الحقيقيين دون وساطات، بلغة مباشرة وواضحة، وهؤلاء بدأت قاعدتهم في الاتساع أفقيا وعموديا، وبدأنا نسمع خطابات بجرعة من جرأة زائدة، وتعبئة وتحريض على مثل هذا الخطاب ومثل هذه المواقف، تقوم بها الإلتراسات ومغنو الراب ونشطاء المواقع الاجتماعية، إضافة طبعا لنخبة معينة. أمام هذه الأوضاع، فإنه لاشك أن قاعدة المقاطعين بخلفيات سياسية واعية، ستتسع وتنتشر، وسيترتب على ذلك رفع لسقف الخطاب المعارض، ولسقف المطالب، وتجاوز للخطابات القديمة، وتجاوز للأحزاب ولكل الوسائط، ما قد يهدد بانفجار للأوضاع، وتمرد على المؤسسات برمتها. نقول هذا خوفا وإشفاقا على مصير البلاد، من أن تعصف بها رياح هوجاء، أما بالنسبة لمن اختار التسجيل في اللوائح الانتخابية، اعتقادا منه أنه يخدم البلد، ويحافظ على الاستقرار، وهذا حقه، فأختم بالقول له، إذا تسجلت فلاتشغل بالك على أي الأحزاب ستصوت، لأن ما سيقوم به هذا الحزب هو نفسه ماسيقوم به ذاك الحزب، حتى وإن اختلفت التسميات والشعارات والإيديولوجيات والزعامات، ليس ثمة حزب حداثي وآخر رجعي، ولاحزب متحرر وآخر محافظ، ولايميني ولامحاظ، ولاعلماني ولاإسلامي ولا إداري ولاجماهيري… فلاتخش من أسلمة الدولة ولا من علمنتها، ولا من تأميمها ولا من لبرلتها، ولا من إفسادها ولا من إصلاحها، لايوجد حزب يستطيع فعل أي شيء. فصوت على أي منها ولاحرج، وابحث عن حزب المرحلة واقفز لسفنيته، فستصيب مغانم كثيرة، هي أفضل لك من شعارات لاتنفع. جاري النشر… شكرا على التعليق, سيتم النشر بعد المراجعة خطأ في إرسال التعليق المرجو إعادة المحاولة