في الوقت الذي كان يتطلع فيه الجميع إلى صدور نظام أساسي منصف وعادل لموظفي الجماعات الترابية وهيئاتها، يعالج جميع الإشكالات ويلبي تطلعات الشغيلة الجماعية، تفاجأ الجميع بمحتوى ومضمون هذا النظام، الذي يكرس التراجع عن مكتسبات وحقوق الشغيلة الجماعية، وبالأحرى أن يلبي جميع انتظارات موظفي الجماعات الترابية وهيئاتها. وهنا نتساءل، كيف يمكن لنظام أساسي مكون من 18 مادة فقط، أن يلم بجميع شؤون وأمور الموظفين، بدأ من التوظيف إلى غاية الإحالة على التقاعد؟ خاصة إذا قارناه مع النظام الأساسي الخاص بموظفي وزارة التربية الوطنية الذي يحتوي على 118 مادة. سنحاول في هذا التحليل الإحاطة قد الإمكان بأهم العيوب والنواقص التي أغفلها المشروع، مع إعطاء حلول قانونية لبعض القضايا الشائكة والعالقة بقطاع الجماعات الترابية. تكريس التراجع عن المكتسبات. من القراءة الأولى لمشروع النظام الأساسي للموارد البشرية بالجماعات الترابية وهيئاتها يدرك القارئ أن مضمونه ليس ذي فائدة أو جدوى، خاصة وأن تفعيل وتنزيل جل مواده وفقراته مقرون بصدور قرار أو نص تنظيمي لوزير الداخلية، سيما في الباب الثالث المخصص للحقوق والواجبات. الشيء الذي لم تتقبله معظم الهيئات الحقوقية والنقابية داخل القطاع، واعتبرته محاولة للاستفراد من قبل وزارة الداخلية برسم ملامح الوظيفة الجماعية خارج الحوار القطاعي الذي يجرى حاليا. يشكل “المساعدون الإداريون” و “المساعدون التقنيون” الغالبية العظمة من موظفي الجماعات الترابية، ويعتبرون بحق عمودها الفقري، وبفضل خدماتهم وتضحياتهم تستمر مرافق القرب في تقديم خدماتها، كما أنهم يزاولون مهاما من اختصاص الأطر العليا بأجر زهيد قدره 3000،00 درهم شهريا، وتفرض عليهم مسؤوليات وظيفية غير ملزمين بأدائها، مثل رئاسة شساعة المداخيل (وكالة المداخيل) والتفويض بمرفقي الحالة المدنية وتصحيح الإمضاء ومطابقة النسخ لأصولها وترأس مختلف المصالح والمكاتب … وفي حالة امتناعهم عن القيام بهذه المهام الغير ملزمة سيتعطل العمل كليا بالجماعات الترابية. بالرغم من ضخامة المسؤولية الملقاة على عاتق هاتين الفئتين من الموظفين فإن مشروع النظام الأساسي أغفل مسألة تقلدهم للمناصب العليا، واستثناهم من المسؤولية، ولو في حالة الاقتضاء والضرورة، لحل المعضلة التي تعاني منها العديد من الجماعات التي لا تتوفر على أطر عليا مصنفة ضمن سلالم الأجور 10 فما فوق. أحد أهم مطالب الشغيلة الجماعية منذ صدور النظامين الأساسيين الخاصين بهيئة المساعدين التقنيين والمساعدين الإداريين المشتركة بين الوزارات سنة 2010 هو حذف السلم 7 الذي قضى على جميع مكتسبات هاتين الفئتين، والذي أصبح يعيق عملية الترقي في الدرجة من السلم 6 إلى السلم 8 كما كان معمولا به في النظام القديم. صحيح أن حذف السلم 7 هو مسألة تهم هاتين الفئتين بجميع القطاعات العمومية، لكن لهذا المطلب ما يبرره إذا استحضرنا أن الجماعات الترابية تحتضن قرابة 90% من مجموع المساعدين التقنيين والمساعدين الإداريين بالإدارات العمومية. تعقيد قضية حاملي الشواهد والديبلومات بالجماعات الترابية. عكس ما كان يأمل حاملو الشواهد والديبلومات بالجماعات الترابية غير المدمجين في السلالم المناسبة، في أن يحمل مشروع النظام الأساسي حلا عادلا ومنصفا لقضيتهم التي عمرت طويلا منذ سنة 2010، وأن تعمل المديرية العامة للجماعات المحلية على دمج موظفيها في السلالم المناسبة للشهادات والديبلومات الحاصلين عليها. كوزارة العدل التي قامت بتسوية الوضعية الإدارية والمالية لموظفيها خلال السنة الجارية 2019، و وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي التي أقدمت على بنفس الإجراء خلال سنوات 2014، 2015 و2016. فعوض أن تقوم وزارة الداخلية ومعها المديرية العامة للجماعات المحلية باحترام “مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص” الذي حث عليه الدستور في أكثر من فصل، بإدماج حاملي الشواهد بالجماعات الترابية كباقي القطاعات الوزارية، ارتأت اعتماد صيغة ملغومة في المادة 8 للترقية بناء على الشهادات بعد النجاح في مباريات مهنية تفتح عند الضرورة، والتي تبقى جد مبهمة وخالية من أي التزام من الوزارة الوصية. واستغرب الكل التهرب الصريح لوزارة الداخلية من حل هذه القضية التي عمرت طويلا، على الرغم من أن الحل يكمن في الفصلين 9 و 43 من الظهير الشريف رقم 1.63.038 الصادر مارس 1963 الذي لا يزال معمولا به وفق ما أكدته المادة 16 من مشروع النظام الأساسي. عدم الإشارة إلى مبدأ المساواة والمناصفة و وضعية ذوي الاحتياجات الخاصة. ضد التوجهات الدستورية، أغفل مشروع النظام الأساسي لموظفي الجماعات الترابية التطرق إلى مسألة بديهية ترتبط بمبدأ المساواة والمناصفة بين الرجل والمرأة كما تطرق إلى ذلك الفصل 19 من الدستور والاتفاقيات والمواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب. لا يشير مشروع النظام الأساسي بالمطلق إلى كيفية تقلد المرأة الموظفة بالجماعات الترابية لمناصب المسؤولية، ولم يتخذ أي إجراء استثنائي في هذا الصدد لمواجهة العقلية الذكورية والنظرة الناقصة للرؤساء والمسؤولين بالجماعات المحلية للمرأة، الشيء الذي يمكن تسميته بنوع من التمييز اتجاهها. دعى الفصل 34 من الدستور إلى ضرورة وضع سياسات موجهة إلى الأشخاص والفئات من ذوي الاحتياجات الخاصة، وذلك بمعالجة أوضاعهم الهشة، وإعادة تأهيلهم وإدماجهم في الحياة الاجتماعية والمدنية، وتيسير تمتعهم بالحقوق والحريات المعترف بها للجميع. في الحين نجد محتوى مشروع النظام الأساسي فارع من ذلك تماما، ولم يعر هذه الفئة أي اهتمام سواء بالنسبة للموظفين الحاليين أو طرق ضمان توظيف نسبة من ذوي الاحتياجات الخاصة مستقبلا. التوظيف بالتعاقد آلية غير صالحة بالجماعات الترابية. اعتبر العديد من المهتمين بالشأن المحلي فتح مشروع النظام الأساسي إمكانية توظيف المتعاقدين كما جاء في المادتين 4 و 7 بأنها آلية غير صالحة بالجماعات الترابية، و ستكون لها نتائج عكسية وكارثية على القطاع، لعدة اعتبارات و أسباب؛ يبقى أهمها معاناة الموظفين الرسميين وبالأحرى المتعاقدين، من بطش الإدارة والرؤساء و تعرضهم المستمر للشطط في استعمال السلطة، خاصة اتجاه النشطاء الحقوقيين والنقابيين. الغريب في الأمر عدم اتعاض وزارة الداخلية وإقدامها على إعمال التوظيف عن طريق التعاقد بالجماعات، وهي التي خبرت عن قرب الاجماع الشعبي الرافض للأمر، خاصة بعد تجربة قطاع التعليم المريرة. بل من المحتمل جدا أن تكون التجربة بقطاعات الجماعات الترابية أشد مرارة بعد فتح المجال للمنتخبين لتوظيف من يشاؤون من المتعاقدين، والانتقام من أصحاب التوجه السياسي والايديولوجي المخالف بعدم تجديد عقودهم، خاصة من خاضوا حملات انتخابية مع جهات منافسة. قضايا أخرى تم إغفالها. تعاني الشغيلة الجماعية المدرجة ضمن السلالم الدنيا بشكل واضح من غياب العدالة الأجرية، كباقي القطاعات الأخرى التي يتقاضى موظفوها تعويضات وتحفيزات مشجعة عن المسؤولية والتفويض، وهو فراغ ملفت لم يعالجه مشروع النظام الأساسي، حيث أنه اكتفى فقط بذكر تعويضات الأطر العليا المعلقة إلى حين صدور نص تنظيمي. عكس المعمول به في قطاعات أخرى لم يعتمد مشروع النظام الأساسي آلية تغيير الإطار، خاصة في نفس السلم والدرجة، كالمساعدين التقنيين الذين يتوفرون على شواهد البكالوريا إلى درجة المساعدين الإداريين، أو المحررين الذين يتوفرون على شواهد تقنية إلى درجة تقني، بالرغم من أن الأمر لن يكلف الوزارة والجماعات الترابية ماديا أي شيء. يعتبر موظفي الجماعات الترابية الحلقية الأضعف ضمن موظفي الدولة، حيث يتم توظيفهم بناء على شهادات وديبلومات من أجل القيام بمهام محددة، لكن سرعان ما يتم تحميلهم أعباء جديدة داخل الإدارة الجماعية، على الرغم من كونهم غير ملمين بالمهام الإضافية المسندة لهم، مما تضطر الجماعات الترابية بمباركة من المديرية العامة للجماعات المحلية إلى تنظيم دورات تكوينية وعقد شراكات في هذا الشأن لتدارك النقص الواضح للموظفين في عدة مجالات. لكن عوض أن تكون الاستفادة متبادلة من هذه الدورات التكوينية بين الجماعة الترابية والموظف، تستفيد الجماعات من الخدمات المجانية للموظف دون أن يحصل على أي امتياز. وفي هذا الصدد لابد من أن يتضمن النظام الأساسي لموظفي الجماعات الترابية كيفية تثمين الدورات التكوينية التي تحدث عنها المشروع في المادة 12 وطرق وعقلنة تسييرها وحسن تدبيرها. وكيفية استفادة الموظفين من تحفيزات واقعية كالترقية في الدرجة بعد اجتياز مرحلة التكوين بنجاح والحصول على الديبلوم. من أهم الأمور الملحة التي كانت مطلبا للشغيلة الجماعية وجميع الهيئات الحقوقية والنقابية بالقطاع، القطع بين المؤسسة السياسية المتمثلة في الرؤساء والمجالس المنتخبة وبين الجهاز الإداري. لأنه من غير المقبول أن يسير رئيس لم يتعدى مستواه الدراسي الابتدائي أو الاعدادي شؤون موظفين بلغوا أقصى درجات التحصيل العلمي، ويكون هو المسؤول عن تعيينهم وتوزيع مهامهم. إن مشروع النظام الأساسي للموارد البشرية بالجماعات الترابية وهيئاتها في صيغته الحالية، يضرب في الصميم أهم النصوص الدستورية ذات الطابع الاجتماعي كالمناصفة والمماثلة بين الرجل والمرأة في تقلد مناصب المسؤولية، ويغيب حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة، ويكرس الاقصاء في حق حاملي الشواهد والديبلومات ولا يعامل موظفي الجماعات الترابية بالمثل، كباقي القطاعات العمومية وفق مبدأ “المساواة وتكافؤ الفرص”. *فاعل مدني وحقوقي