في كل مرة تقترب فيها الذكرى السنوية لانقلاب/الحركة المباركة/ثورة 23 تموز/يوليو 1952 في مصر، تمتلئ صفحات مواقع الانترنت والفيسبوك والصحافة بمقالات تتراوح بين مادح وقادح لهذه التجربة التي احتلت حيزا في وعي الشعوب العربية وعلى مدى عقود… لفت انتباهي فيما نُشِرَ وينشر غياب النظرة النقدية والموضوعية لتجربة عبدالناصر البشرية، واستمرار الحملة الظالمة على حركة (الإخوان المسلمين)، واتهامها بما أثبتت الدراسات الحيادية بطلانه وكذبه… تأخذ هذه الهجمة بُعدا خطيرا في ظل التجارب الديمقراطية الوليدة في أكثر من بلد عربي، ووصول الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم عبر صناديق أول انتخابات حقيقية تتم في مصر منذ خمسة آلاف عام، قبل أن ينقلب عليهم العسكر مدعومين بالناصريين والعلمانيين والليبراليين (إلا قليلا)، ليذبحوا هذه التجربة، وليُجروا الدماء انهارا، حتى حولوا مصر خلال أشهر إلى سجن كبير لا مكان فيه إلا للمتملقين والمسبِّحِين بحمد الانقلاب العسكري الدموي.. سَبَحَ بي الخيال وأنا أقَلِّبُ الصفحات، وعادت بي الذاكرة الى اللحظة التي قام فيها الشعب المصري ليصنع تاريخه من جديد، منهيا حقبة من الملكية كان آخر رموزها الملك (فاروق) الذي أخضع بلاده للاستعمار الأجنبي، وقاد أمته إلى هزائم متلاحقة، وسخر إمكانات دولته لإشباع غرائزه البهيمية، وألغى الدستور، وَحَوَّلَ الجيش إلى حرسٍ يحميه من شعبه.. تخيلت هذا الشعب وهو يقف على شاطئ الإسكندرية يثأر لكرامته بطريقته الخاصة من ذلك الملك الذي طغى وبغى وتجبر وتكبر، حتى سَوَّلَتْ له نفسه ارتكاب أفظع الجرائم ضد مصر وقواها الحية، وعلى رأسها اغتيال الإمام الشهيد (حسن البنا) رحمه الله، مرشد أعظم جماعة إسلامية إصلاحية عرفها تاريخ أمتنا المعاصر، جماعة (الإخوان المسلمون)، تلبية لأوامر الانجليز والفرنسيين والأمريكان … ظن (فاروق)، أو هكذا سَوَّلَ له أسياده، أنه بهذه بهده الجريمة قد تخلص من أكبر أعدائه، وأزال من طريق استمرار مُلْكِه في مصر أجرأ خصومه، وما عرف أن الله كان له بالمرصاد، وأن الشعب المصري الذي أحب المخلصين من أبنائه، أصبح بركانا يغلي، سرعان ما تفجرت حممه فحولت ظلام مصر إلى ضياء، وعروش الظلم إلى هباء، لتقيم على أنقاضها صروح الحرية والانعتاق.. الأمل الذي خاب… هذا ما كان يتمناه الشعب المصري من ثورة 23 تموز/يوليو 1952… علق الشعب المصري والأمة العربية من ورائه آمالا عريضة على الثورة فدعموها بالمال والرجال، وكان (للإخوان المسلمين) الدور الكبير في نجاحها وحمايتها في أكثر مراحلها خطورة، وذلك باعتراف قادة الثورة نفسها … لم يطمح (الإخوان المسلمون) يوما إلى السيطرة على الثورة أو فرض الوصاية عليها، بل كانوا الحريصين على أن تحقق أهدافها في إطلاق الحريات، وإقامة مجتمع العدل والمساواة والديمقراطية المستنيرة والكرامة الإنسانية.. إلا أن الثورة تحولت بعد مدة قصيرة إلى أتون تأكل أصحابها وتصفي أبناءها، وتحكم شعبها بالحديد والنار، وابتعدت ما استطاعت إلى ذلك سبيلا عن أهدافها، فذاق الشعب المصري في ظل حكمها ألوان العذاب، وانتهى أمرها إلى هزائم مريرة، وإلى ذل تجرعه الشعب المصري فوق ما تجرع من ذل سياسات الدولة الداخلية … الدكتاتورية والاستبداد والفساد … إنها ذات الأمراض التي انتفض ضدها الشعب المصري، عادت هذه المرة على دبابات (الضباط الأحرار)، ولكن إلى حين، وقد قيل (دوام الحال من المحال) … مرحلة جديدة قديمة… سقطت منظومة (جمال عبدالناصر) مع وفاته، كما هو حال الدكتاتورية دائما، ليتسلم الحكم من بعده (أنور السادات) … لم يتعلم السادات من سلفه، فلم يُجْرِ تغييرات جذرية في نظام الحكم يؤسس لديمقراطية حقيقية، ولتداولٍ سلميٍّ للسلطة في ظل تعددية سياسية وإطلاق للحريات العامة. مرة أخرى يفقد (السادات) أعصابه في ظل ضغوط جماهيرية طالبت بحقها سلميا، فصب جام غضبه على قوى الشعب الحية وعلى رأسها (الإخوان المسلمون) لمجرد أنه رأى فيهم طليعة التحرك المعارض لسياساته الداخلية والخارجية.. جردهم من أبسط الحقوق، وزج بهم في السجون، وتجرأ على علمائهم بما لم يسبقه إليه أحد، فسرعان ما انتهى أمره إلى ما انتهى إليه سلفه … دكتاتورية واستبداد وفساد، ثم اغتيال على يد مجموعة من شباب مصر الغيارى وهو في عرينه وبين جنده وتحت سمع وبصر خلصائه وصفوته، (فما بكت عليهم السماء والأرض) … حُجَجٌ أقبحُ من ذنب… يدخل عهد ( حسني مبارك ) في العام 1980 ، وتخضع مصر للأحكام العرفية من ذلك التاريخ وحتى سقوط مبارك بعد انتصار ( ثورة 25 كانون ثاني/ يناير ) من العام 2011 … لم يتعلم هو أيضا الدرس من أسلافه ، فعاد ليرتكب ذات الأخطاء والخطايا ، فسامَ الشَّعبَ المصريَّ أصناف العذاب ، وكما كان لفاروق وعبدالناصر والسادات زبانيتهم الذي أذلوا الشعب وأهانوا كرامته وامتصوا دماءه ، كان ( لمبارك ) زبانيته أيضا ممن افترسوا الشعب المصري ، وحولوه ، أو هكذا ظنوا بغبائهم ، إلى مجموعة من العبيد الخانعين ، وما عرفوا أن الشعب وإن صبر حينا ، فلن يطول صبره ، وقد قيل (إنما للصبر حدود) … مرة أخرى تقع القوى الحية وعلى رأسها (الإخوان المسلمون)، فريسة لنظام مبارك كما كان حالها مع من سبقه، ومرة أخرى ينتهي أمره إلى ما انتهى إليه أسلافه… دكتاتورية واستبداد وفساد، ثم ثورة سلمية أشعل فتيلها شباب مصر، سرعان ما تحولت إلى ثورة شعب بأكمله، أزاحت مبارك ونظامه… الدرس: لا ثقة في العسكر.. نجحت ثورة 25 يناير في إسقاط مبارك لكنها لم تفطن الى ان “الدولة العميقة” التي ضربت جذورها عميقا في الأرض المصرية من انقلاب 23 يوليو 1952 ما زالت هي الحاكمة بكل أذرعها الاخطبوطية النافذة: الجيش والمخابرات والشرطة والقضاء والاعلام وجيش “البلطجية” وملايين العملاء السريين والعلنيين المزروعين في كل زاوية من مؤسسات الدولة.. نجحت الثورة في اسقاط رأس النظام إلا انها لم تفكك منظومته السرطانية الممسكة بمفارق الدولة والشعب الرئيسية والحيوية.. جرت انتخابات حرة عبَّرت لأول مرة عن إرادة الشعب الحقيقية، الذي اختار الصادقين من أبنائه لتولي المناصب المهمة: برلمان ورئاسة جمهورية، لكن الشعب وقيادته الجديدة لم يفطنوا إلى ان كل ما وقع هو استبدال رأس النظام الذي نخره السوس برأس نظيف، إلا ان جسد الدولة ما زال عفنا الأمر الذي جعل مهمة الرأس الجديد للدولة مستحيلة.. أذَكِّرُ هنا ان واحدا من أسباب نجاح انقلاب صعلوقٍ صغيرٍ كالسيسي وعصابته، أن ثورة 25 يناير رضيت ان تدير الشأن المصري بعد تنحي مبارك حسب القواعد التي رسمها والتي من اهم أهدافها الحفاظ على الدولة العميقة انتظارا للحظة الانقضاض على الثورة، وهذا ما حصل بالفعل. الحديث المتكرر عن تراجع شعبية السيسي الى أدني مستوى، واستمرار الحديث عن تردي الأوضاع في مصر وعلى جميع المستويات، كوسيلة لتوعية الشعب المطحون ودفعه للثورة على جلاديه، أمر مهم.. لكن الأهم منه، أن نكون على وعي تام بأن هذا الحديث لن يؤثر في الطغمة الانقلابية، لآن آخر ما تفكر فيه هو الرأي العام واستطلاعات الرأي وأوضاع الشعب. الذي يهم الانقلابيين هو البقاء في السلطة ولو على أنقاض شعب يموت جوعا وقهرا وقتلا وسحلا وحصارا وتنكيلا وسجنا. أما كيف، فهذا أمر هين. تزييف إرادة الشعب، والترتيب لانتخابات صورية كما حدث في الانتخابات الرئاسية والتشريعية في عهد الانقلاب، تدفع بأزلام الانقلاب دون غيرهم إلى مواقع اتخاذ القرار. على قوى الثورة ان تكون في منتهى الحذر والانتباه من مغبة الانجرار إلى ساحة السيد المستبد، والابتعاد ما استطاعوا عن محاولاته المكشوفة لإرجاع (القطيع) إلى حظيرته من خلال تقديم تنازلات محدودة لا تهدم بيت السيد تماما، ولكنها تغير في طلاء جدرانه وترتيب غرفه على أكثر تقدير… الشعب يجب ان يسعى إلى تغيير النظام وليس إصلاحه، وهذا هو الذي يصنع الفرق ويحقق المعجزة… خلاصة القضية، أدوات السيد لا يمكن أن تهدم بيت السيد، خصوصا حينما يكون الأمر متعلقا بتغييرات جذرية تقلب الأوضاع رأسا على عقب، بالمعنى الإيجابي طبعا، وإلا فلا فائدة … فالمطلوب ليس تغيير استبداد باستبداد آخر، (فملة الكفر واحدة) كما يقال. الثورات العربية ومنها المصرية كانت مع الأسف ثورات لم تكن خارج نص النظام تماما، ولذلك أخفقت في تحقيق أهدافها كما أرادت. بناء البيت الجديد على أسس جديدة من الحرية الحقيقية والديمقراطية الحقيقة والتنمية الحقيقة، معناه فعلا الزوال النهائي لنظام السيد القديم.. * الرئيس السابق للحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني