كلية التغير والتغيير بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله مقلب القلوب، غافر الذنوب، ساتر العيوب، علام الغيوب، نحمده سبحانه حمد الراغبين، بالضعف والعجز معترفين، باحثين عن هدايات المسير في مسالك التغيير.. والصلاة والسلام على سيد المقبلين، وإمام المتقين، وسراج السالكين المتخلين المتحلين، وعلى آله وصحبه والتابعين. أما بعد: التغير والتغيير يرجعان إلى معنيين: أحدهما: صلاح وإصلاح ومنفعة. وثانيهما: اختلاف شيئين. وكلا المعنيين مقصودان هنا، فالسائر في دروب التغيير يرجو صلاحا وإصلاحا ومنفعة، ويرجو حصول اختلاف حاضره عن أمسه وغده عن يومه نحو الأفضل والأصلح والأنفع… خلال أحد عشر شهرا من شهور السنة، كل منا له برنامجه اليومي، ويكاد هذا البرنامج يتشابه على اختلاف الأشخاص والبيئات والمجتمعات، إذ أستيقظ لصلاة الفجر، وبعد ذلك يأتي موعد الإفطار، وبعدها آخذ الطريق إلى العمل ليرميني الانهماك فيه إلى صلاة الظهر فموعد الغداء، وفي مساء بعد العشاء أو قبله موعد العشاء، ثم النوم، وهكذا يمضي اليوم طيلة السنة، ويتعبر ذلك أصول البرنامج اليومي عند أغلب الأشخاص في معظم المجتمعات، على اختلاف العادات واللغات. يستمر هذا الأمر يوما بعد يوم إلى آخر شهر شعبان وأنا على نفس البرنامج لا أحيد عن أصوله وإن تغيرت بعض أعراضه، فجأة يعلن عن هلال رمضان، أو يتم شهر شعبان عدته، فينقلب ذلك البرنامج رأسا على عقب، فيقدم المؤخر ويؤخر المقدم، ويصبح الليلي نهاريا والنهاري ليليا، بمجرد الإعلان عن دخول الشهر الكريم، وهذا التغيير التلقائي والمفاجئ يحدث في ألزم الأمور بالإنسان، وألصقها به، ألا وهي طعامه وشرابه، ورغم ذلك تكون الاستجابة مطلقة وتلقائية وتامة، دون تلكئ أو اعتراض أو تدرج.. وقت أكلي أصبح صوما، ووقت نومي أصبح يقظة، ووقت انشغالي وانهماكي أصبح تفكرا وتذكرا، كنت أصلي خمس صلوات في اليوم مضيفا لها بعض النوافل إن تيسر ودفعني لذلك دافع إيماني، فأصبحت ملتزما بصلاتي حريصا على نوافلي، مصليا لعشر ركعات بل عشرين ركعة في الليلة الواحدة.. كنت لا أجد وقتا للمسجد، واليوم أتردد عليه في كل صلاة، كنت لا أجد وقتا لقراءة القرآن، واليوم أجد متسعا لذلك، كان بصري يتفلت أحيانا، واليوم أجدني أكثر ضبط له، كان لساني يزيغ مرات، واليوم أجده أكثر انضباطا، وهكذا سائر جوارحي… هنا أقف مليا عند تلك الكلية العظيمة والقوة الراسخة التي يساعدني رمضان على التحقق منها، ورصد فاعليتها، ألا وهي قوة التغير… فلا مجال بعد اليوم، لقولي أنا هكذا!! ولا مجال بعد اليوم، لزعمي أنا لا أتغير!! ولا مجال بعد اليوم، لادعائي أنا لا أستطيع !! يأتي رمضان ليفند كل تلك الوساوس والشبهات، وليزيل كل تلك الغشاوات المعتمة للبصر، وتلك القيود المكبلة للحركة، وتلك التسويفات والأعذار المعرقلة للإرادة… ولاشك أن لهذا التغير دافعا ومنشطا ومغذيا، جعلني ألتزم به طيلة ثلاثين يوما التزاما انتقاليا سريعا، ولا شك أن في مكنوني من القوة على الاستجابة لذلك التغير الشيء الكثير… ومما أتأمله أن من أهم الأساليب السهلة الناجعة وسريعة المفعول في باب التغير والتطور والتجديد، واستبدال العادات السيئة بغيرها، والسلوك القبيح بغيره، هي ما كان منطلقه الوحي، وباعثه الإيمان… هذه الوسيلة المهمة هي ما ينبغي أن نُفعِّله بعد هذا الشهر في أحوالنا الحياتية ، ووسائلنا التربوية، على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع، وندعم التربية الروحية بكل الوسائل الأمكانات الحديثة، لأن لها من الأثر العميق والسريع والأقل تكلفة الشيء الكبير، ورمضان خير دليل. وإذا نزلنا بهذه النتيجة التي أبان عنها رمضان إلى ميادين أخرى، من ميادين العبادة والحياة والسلوك ، فسنجد أناسا تاركين للصلاة، أو تاركات للحجاب، أو ملطخين بقاذورات الربا، أو بسلوكات سيئة، ويعتذرون باستحالة أو صعوبة الكف عن السيئ كالربا أو السلوك القبيح، ويعتذرون كذلك باستحالة أو صعوبة الإقدام أو الاستمرار في الصالح كالصلاة أو الالتزام بالحجاب.. يأتي رمضان ليعطينا الأمل ويمنحنا الفرصة لمراجعة حقيقة تلك الاستحالة أو الصعوبة، ويقول لنا: لا!! هاأنت قد أمضيت شهرا كاملا متتابعا قد غيرت فيه أعمق سلوكاتك وأرسخ عوائدك، وقد التزمت فيه أعمال إضافية ما كنت تعملها طيلة عامك، وقد أوجدت لها من الوقت والحيز ما مكنك من إنجازها، فأزل عنك قيد العجز، وغشاوة التردد، وران التسويف، وأقبل على ما يصلحك ويصلح دنياك وأخراك. بعد تلك المشاهد الواضحة التي قد نغفل عنها، والتي توضح لنا مدى قدرتنا وإرادتنا على التغيير، نسلك مسالك التغيير لنكمل المسير في الحلقة الثانية.. يتبع..