كثير من الناس العاديين، ومعهم حتى العديد من المثقفين والمفكرين، يرفضون المنهج القرآني القائل باللاعنف في قصة ابني آدم حيث يقول الله تعالى على لسان هابيل: (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني فما أنا بباسط يدي لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين) حيث تبرز الآية المسلك الذي زكاه الله تعالى في حل النزاع من خلال أول نزاع عرفته البشرية في مطلع وجودها، وقد كتب الشيخ الأستاذ جودت سعيد كتابا كاملا في هذا الصدد سماه “مذهب ابن آدم الأول” وكثيرا ما انتقد الأستاذ جودت سعيد من خلال ما حكاه في كتابه، وقد سمعت بأذني العديد من القراء والمثقفين وحتى من بعض من يمكن اعتبارهم مفكرين وهو يسمون ما حواه الكتاب وقاله الشيخ سعيد بالفكر الرجعي والانبطاحي، حتى أن البعض راح يشبهه بالمنطق المسيحي القائل “إذا ضربك أحد على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر” إن فلسفة اللاعنف، عبر التاريخ، كلما اتبعت إلا وأدهشت من رآها واتبع مجراها، والذي يتجاهله الكثير من المتحاملين على الإسلام هو أن الإسلام قد انتشر بمنطق اللاعنف وليس بالعنف أو السيف الذي يدعونه. ومن أراد أن يعرف حقيقة هذا الأمر ومصداقيته فما عليه سوى أن يقرأ التاريخ ويقارن كيف كان يتعامل الإسلام، وكيف كانت تتعامل الأمم قبله وبعده، فالرومان والفرس والفيكينك والمجر والقوط والانجليز والإسبان والإيطاليون، وحتى الأمريكيون، كأحدث حضارة قامت وتقوم على العنف وسفك الدماء، ومن على شاكلتهم في تعاملهم مع من سواهم، حين كانوا يغيرون على القرى والمدن. وحتى بعد استسلام أهلها، لم يكن هؤلاء الأقوام يتركون أحدا دون أن يُعملوا فيه السيف بالقتل والفتك، لقد كان القتل فقط للهلاك. إن منطق اللاعنف هو الذي جعل المسلمين يخيرون الدول أثناء الفتوحات بين الإسلام أو الجزية أو الحرب، ولا يهم إن كانت هذه الدول قوية أو ضعيفة، لأن الذين نهجوا منطق القوة والعنف ما كانوا في حاجة لطرح بدائل الاختيار لاغترارهم بقوتهم وعددهم وعتادهم في حالة وجود دول ضعيفة لا تقوى على الدفاع عن نفسها. فإن دَخَلوا في الإسلام، وهو خير لهم في الدنيا والآخرة، فإخوانهم في الدين لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن قبلوا الجزية دخلوا في حماية الإسلام وحافظوا على دينهم ومعتقداتهم وأموالهم، والجزية هي أن يدفع كل قادر على حمل السلاح دينارا واحدا سنويا وتسقط عن المرأة والمريض والطفل والمسن. وغالبا ما كانت الفتوحات الإسلامية هي عبارة عن تحرير للمستضعفين من بطش الجبارين وكيد الظالمين الذين أثقلوا رقاب شعوبهم بالضرائب وسامومهم أشد العذاب، كما في رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهرقل عظيم الروم “أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فعليك إثم الأريسيين”، (انظر مقالا رائعا للعلامة مصطفى بن حمزة في هذا الصدد 2013). كما يتجلى ذلك بوضوح في فتح الأندلس، فعند أول لقاء بين طارق بن زياد وكتيبة صغيرة للودريق جنوب إسبانيا، لم يسفك دماءهم ولا قتل جنديا منهم ولا احتقر صغر وحجم هذه الكتيبة وضعفها، وهو الذي يقود جيشا يتكون من أربعة عشرة ألف جندي، بل عرض عليهم الخيارات الثلاثة: عرض عليهم الإسلام أولا ثم عرض عليهم الجزية كي يحافظوا في المقابل، إذا قبلوها، على أنفسهم وأموالهم وأسلحتهم، وإذا أبوا ذلك عرض عليهم أن يقاتلوا، وليس أن يقتلوا. فاختارت الكتيبة القتال وكان ما كان، إلا البعض منهم فر نحو الشمال وحكوا للملك أنهم تلاحموا مع أناس لا يدرون إن كانوا من أهل الأرض أم من أهل السماء. ومباشرة بعد معركة الفصل معركة برباط أو لكة بدأت جل الحصون تفتح أبوابها وذلك شعورا منهم بأنهم تحرروا من طاغية ظالم ومن القمع والإرهاب والضرائب والتنكيل. وقد عاش الجميع في رخاء ورفاه حرا أبيا يحافظ على دينه كيف يشاء ولم تهدم كنيسته ولا ديره ولا حطم صنمه كما حافظ على تجارته وماله. ويكفي شهادة أن اليهود يعتبرون وجودهم في هذا العصر تحت قيادة دولة الإسلام بعصرهم الذهبي وقد تقلدوا مناصب كبرى في السلم الإداري للدولة ولم يمنع من ذلك كونهم كانوا على دين غير الإسلام. إن فلسفة اللاعنف هي الفلسفة التي ظلم فيها الإسلام ظلما شديدا، نتيجة سوء التسويق من أبنائه أحيانا، وجهلا من أبنائه وأعدائه أحيانا أخرى، وفي كثير من الأحيان بفعل المكر والدسائس والكذب والتحريف والتزييف من الأعداء والمتربصين منهم على الخصوص المستشرقون الذين ما درسوا الدين الإسلامي بحثا عن الحقيقة وإنما قصد التشويه ونشر الافتراءات والأكاذيب. إن مبدأ ابن آدم الأول مبدأ اللاعنف ما كان القرآن ليذكره ويؤرخ له، لو لم يكن مبدأ أصيلا لا مناص منه ولا تملص، وهو يختلف اختلافا كبيرا عن المفهوم المسيحي الذي يكرم العدو في جميع حالاته فإن أخذ العدو من المسيحي رداءه أعطاه جبته أو سرواله، وإن ضربه على خد منحه الخد الآخر حتى يتلقى الصفعة الثانية بكل رضا واستسلام وطاعة. إن الإسلام يرفع من قيمة أبنائه فجعل العزة لله ولرسوله ولأتباعه المومنين، ولا ذلة ولا انتقاصة ولا مهانة ولا ذل ولا خنوع، ولكنه بحجم حفاظه على كرامة أتباعه جعل عقابهم شديدا في حالة الاعتداء على من هو على غير دينهم يعيش بينهم سواء انتقصوه أو ظلموه أو كلفوه فوق طاقته أو أخذوا منه شيئا بغير طيب نفس. حتى أن الوعيد كان غير متوقع البتة، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل نفسه خصيما لكل مسيء لهؤلاء يوم القيامة. إن العديد من المثقفين يظن أن المهاتمة غاندي هو من أسس فلسفة اللاعنف التي بدأها أثناء وجوده بجنوب إفريقيا، وكثيرا ما يرددون شهادة حفيده آرون غاندي حين قال: ” بدأ جدي يطور فلسفة اللاعنف ويمارسها في حياته، وكذلك في سعيه لتحقيق العدالة في جنوب إفريقيا، فقضى في تلك الدولة اثني وعشرين عاما ثم عاد إلى الهند ليقود حركته بالمبدأ نفسه، وهي الحركة التي أدت إلى استقلال الهند، وهو الاستقلال الذي لم يكن متوقعا”. إن اللاعنف الذي جاء به غاندي يختلف اختلافا كبيرا عما نعنيه بفلسفة اللاعنف في حديثنا عن الإسلام، إن الإسلام أسس حضارة مترامية الأطراف ودولة قوية باستطاعته أن يفعل ما يشاء، كما كان يمكنه أن يدخل مكة وهو ليس في حاجة لصلح الحديبية، وغضبُ الصحابة يدل على مدى القوة التي كان يتوفر عليها الإسلام، وهذا اللاعنف جاء بعد حروب دامية مع ذلك العدو، فأي قائد سيوقف النزيف ويلجأ للاعنف بعدما قويت شوكته وكبر جيشه وخارت قوى عدوه؟؟ فلو لم يكن هذا اللاعنف أصلا لتمت إبادة قريش عن بكرة أبيها. ومن من قادة التاريخ دخل منتصرا قويا وعفا عن أعدائه وقال لهم: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”؟ هل فعلها هولاكو عندما دخل بغداد؟ أم فعلها البابا أوربان الثاني عندما دخل القدس وارتكب مجزرته الشنيعة والمروعة حيث قتل فيها تقريبا جميع سكان القدس، فحاول عدد من المسلمين الهرب باتجاه المسجد الأقصى، إلا أن ذلك لم يمنع الصليبيين من ذبحهم، وحول هذه المجزرة تقول المصادر الغربية نفسها بأن “عمليات الذبح كانت كبيرة جدا وبدأت بعد الظهر واستمرت مساءا وصباح اليوم التالي لدرجة أن الدم وصل الى كواحل رجالنا”. وبحسب فوشيه شارتر وهو أحد المقاتلين الصليبيين خلال هذه الحملة إذ يقول: “رأيت أقدامنا ملونة للكاحلين وأكثر من ذلك فلم نترك منهم أحدا على قيد الحياة، لا من نسائهم ولا من أطفالهم”. إن غاندي لم يكن يملك شيئا سوى الكفن الذي ارتداه هو والهنود، فقاطعوا أقمشة مانشستر ولبسوا الخيش وأكلوا الطعام بدون ملح ما دام الاستعمار يملكه، وسياسة المقاطعة مجدية خصوصا لعلم المجاهد أن العدو يتخذ من دولته سوقا رائجة، ولم يكن هناك من حل سوى العمل على كسر هذا المخطط الاستعماري كي ينكسر بعدم تحقيقه لأهدافه. إن لاعنف غاندي له خصوصيات تخص الهند وحدها ولذلك لم تتكرر التجربة وهي غير صالحة الآن لا في فلسطين ولا في العراق ولا في سوريا ولا في أي بؤرة من بؤر التوتر في الكرة الأرضية. إن الفرق شاسع بين أن يكون اللاعنف متأتيا عن مبدأ وأصل وأن يكون تكتيكا أو خطة قد تتغير حسب تغير الأوضاع، كما أن الفرق بين وواضح بين أن تمارسه في لحظات ضعفك وأن تمارسه في لحظات قوتك وتمكينك.