بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله. إنّ الرّحمة صِفةٌ من صفات الله عزّ وجلّ، فهو الموصوفُ بالرحمةِ المطْلقةِ والمنعوتُ بها، والرّحمن والرّحيم اسمان من أسمائه الحُسنى، الواردةِ في مُفْتَتَح فاتحةِ الكتابِ، وفي جُل سورِ الذكرِ المجيدِ. وقد بينت آيُ التّنزيلِ الحكيمِ سَعةَ رحمةِ الله تعالى، كما في قوله تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [1]، وقد بيّن لنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلمَ ذلك أيضا في قوله: (جعلَ اللهُ الرحمةَ مائةَ جزءٍ، فأمسك عنده تسعةً وتسعين جزءاً، وأنزل في الأرضِ جُزءاً واحداً، فمِن ذلك الجزءِ تَتَراحم الخلقُ، حتى ترفع الفرسُ حافرَها عن ولدِها خشيةَ أن تصيبَهُ) [2] فإذا كانت رحمةُ الله بالخلقِ في الدّنيا عظيمةً، فرحمته بهم في الآخرة أعظمَ، كيف لا وقد خلقهم ليرحَمهم، لا ليعذبَهم. وإن من رحمةِ اللهِ بعباده في الدنيا – وفي الآخرة أيضا- أن بعثَ إليهم رسولاً رحيماً بهم، ونبيّاً كريماً، فهو جزءٌ من ذلك الجزءِ من رحمةِ الله المُنْزَلةِ على الخليقةِ في الدّنيا. يُبيِّنُ ذلك بجلاءٍ ووضوحٍ تامّين قولُ المُصطفى صلى الله عليه وسلم: (إنّمَا أنا رَحمةٌ مهداةٌ) [3]. فقد تودَّدَ اللهُ عز وجل إلى عِبادِه بجميل نِعمهِ وعظيمِ مِننِه عليهِم، وإن من أجملِ النِّعمِ، وأعظمِ المِنَنِ التي أهداها لهم، أَن أرسلَ إِليهم سيّدَنا محمّداً بنَ عبدِ اللهِ رسولاً كريماً، ونبيّاً رؤوفاً، ومُرشِداً رحيماً، فهو صلى الله عليه وسلم عَينُ الرّحمةِ، فمن أحبَّ أنْ يَرى الرّحمَةَ إذا تجسَّدتْ على هيئَةِ بشرٍ، فإن رسول الله تجسيدٌ لها، لأنّه رحمةٌ مهداةٌ من الله تعالى. وإذا تأمّلنا قول الحق سُبحانَه في وصفِ مَشاعرِ رَسولِ اللهِ تجاهَ عبادِ الله، علِمنا يقيناً أنّ اللهَ عزّ وجلّ اصْطَفى مِنهم أنْفَسَهُم وأرسَل إليهِم أرحَمَهم بِهم، يقول الله تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ) [4] وتَسْتَوْقِفُنَا فِي هذه الآيةِ الكريمةِ مسألتانِ في غَايةِ الأهمية: المسألة الأولى: في وصفِ اللهِ تعالى رَسولَه بالحريصِ على العِبادِ، أيْ أنّه يَخافُ عليهم مِن السّوء، ويَخْشَى عليهم الهَلاك، فيَعمَل جاهِداً لتجْنِيبِهِم ذَلك، وسلوكُ الحِرصِ عَلى الغَير مَعروفٌ عن الوَالدينِ أكثرَ مِن غيرِهم، لأنّهم شدِيدُو الخَوف على أولادِهم، ورسولُ الله بِمنزِلة الوالِدِ للمؤمِنين، كما ثَبَتَ في بعضِ الأحاديثِ. إنّ حرصَ رسُولِ اللهِ على النّاسِ مِن أجلِ هِدايتِهم إلى الطريقِ السّويِّ، ونَيلِهم رِضوَان ربِّهم، ونَجَاتِهم من الهَلاك، أَعظَمُ من كلِّ حِرصٍ بشريّ نتصَوَّرُه، فهو الرّسولُ الحَنونُ، والنّبيُّ العَطوفُ، المَبْعوثُ رحمةً للعالمينَ. المسألة الثانية: في وصف الله عز وجل سيدنا محمدا بأنه: (بالمؤمنين رؤوف رحيم)، فإن اسمي الرؤوف والرحيم اِسمان من أسماء الله الحسنى، ومع ذلك وُصف بهما رسول الله، ونُعت بهما من لدن الرحمن جل شأنه. وقد ذكر الإمام أبوعبد الله القرطبي عن بعض السلف قولَهم: “لم يجمع الله لأحد من الأنبياء اسمين من أسمائه إلا للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه قال: (بالمؤمنين رؤوف رحيم) وقال: (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ)” [5]. فصلوات الله عليك وسلامه يا صاحب الوسيلة والمقام المحمود. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بُعث رحمة للعالمين جميعا، فمن تبعه وآمن به فهو السعيد، ومن عصاه وكفر به فهو الشّقي، لأنه مُعْرضٌ عن رحمة الله المُسداة. قال الله عز وجل: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[6] ، يُعلِّق العلامة ابن جزي الغرناطي رحمه الله على هذه الآية قائلا: “والمعنى أن الله رحِم العالمين بإرسال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه جاءهم بالسعادة الكبرى، والنجاة من الشقاوة العظمى، ونالوا على يده الخيرات الكثيرة في الآخرة والأولى، وعلَّمهم بعد الجَهالة، وهداهم بعد الضَّلالة.” [7] إن رحمة رسول الله بالناس بادية في سيرته، لمن قرأها أو سمِعها، ورأفتُه بهم جَليَّة في أقواله وأفعاله، وحركاتِه وسكناته. فقد أوذِي في مكّةَ قبل الهجرة أشدَّ الإيذاء، ومُنع من الدعوة إلى الله ومن العبادة، وحوصِر وضُرب وطُرد، ولم يَسلمْ أهْله وأصْحابُه من ذلك أيضا، فقوتلوا وقُتِّلوا وهُجِّروا … كل ذلك صَدر عن شِرذِمةٍ من أشرار قريش وكبراء مكة. وبعد زَمَن غير يسيرٍ حيْث تغيَّرت مَوازينُ القِوى بعدَ الهجرة إلى المدينة، فتمكَّن المسلمون من بعد ضُعف، وسادوا من بعد ذُل، فَفَتح رسولُ اللهِ مكّةَ وبلَّغ أهْلها التّوحيدَ، إلا أن المُلْفِتَ أنّه صلى الله عليه وسلم بَدا كأنّه نَسِي جَرائم كبراء قريش في حقِّه وفي حقِّ المسلمين قبل الهجرة، فلمْ يَنْتَقِمْ، ولم يثْأَرْ، بل ولم يخاصِم! ليس هكذا فحسب، بل عَفى عنهم وصفَحَ، كيف لا وهو نبيُّ الرّحمةِ، المُتّصف بالرّأفةِ، فخَطَب فيهم قائلا: (يا قُريش، إن الله قد أذْهب عنكم نَخوةَ الجاهليةِ وتَعظُّمها بالآباءِ، والناسُ من آدم، وآدمُ من تراب … يا مَعشر قريش، ما تَرَون أنِّي فاعلٌ بكمْ؟ قالوا: خيراً، أخٌ كريمٌ وابن أخٍ كريمٍ. قال: اِذهبوا فأنتم الطّلقاء) [8]. لم يشر لما حصل بينهم في الماضي، ولم يُلمّح قَط، إنه حقا بعث ليتمِّم مكارِمَ الأخلاقِ. ولم تكن فيه الرحمة والعفو عن المسيء تكلفا منه صلى الله عليه وسلم، بل هي طبيعة خِلقيّة فيه، جُبل عليها من لدن الباري عز وجل، فقد عصمه الله تعالى عن الانشغال بالثأر لنفسه، مصداق ذلك، قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (ما خُيّر رسولُ الله صلى الله عليه وسلمَ بين أمرين قط إلا أخذ أيْسرهما، مالم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيءٍ قط، إلا أن تُنتَهَك حرمةُ الله فينتقِمَ بها للهِ) [9]. ولكن الأمر لا يتوقّف عند عفوه عمن أساء إليه، بل يتعدّى ذلك كلَّه فيلتَمس للمسيئين أعذارا!. بل يدعو لهم بالهداية والمغفرة، وقد أساؤوا إليه! كما في غزوة أُحدٍ، حيث أسال العدوُّ دمَه الزكيَّ من جسده الشريفِ … لكن رغم كل ذلك لم يَزِدْ كلاماً على قوله: (اللهمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يَعلَمونَ)! صدَق رسولُ اللهِ، إنهم لا يعلمون أنه يسُوقهم إلى النّعيم سوقا، ويدفعُهم إلى الجنةِ دفعاً، ولكن قادهم الجهلُ فأعرضوا عنه إعراضا، فكان من رحمته بهم أن عفى عنهم، وصفحَ صفْحاً جميلاً. وفي مشهدٍ عظيم آخر من مشاهدِ رأفة رسول الله ورحمته بالناس، تُبيِّنهُ لنا قصّة إسلامِ الطّفيلِ بن عمْرو الدَّوسي -رضي الله عنه- مع قبيلته دَوْس، فبعدَ إعلانِه إسلامَه لرسول الله في مكةَ استأذَنَهُ في دعوة قومِه (دَوْس) إلى الإسلامِ، فأذن له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقام الرجل فدعاهم إلى الإسلام وأرشدًهم إلى التّوحيدِ، لكنّهم أعرضُوا واستَحبّوا العَمَى على الهُدى، فما آمَن له إلا أفرادٌ قليلون، فغضِب الطُّفيْل، وطلبَ من رسول الله أن يدعوَ عَليهم بالهلاك والبَوار! فما كان من النّبيِّ الرحيمِ والرسولِ الرّؤوفِ إلا أن يرفَع يديهِ الكريمتينِ إلى الرّحمن فيقول: (اللهمّ اهدِ دَوساً) [10] لم يدعُ عليهمْ كما طلب منه الطّفيل، بل دعا لهم بالهداية رأفةً بهم، لأنه بُعِثَ رحمةً للعالمين، ولم يُبْعثْ نِقمةً عَليهم. روى الإمام مُسلم عن عبد لله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ قوله تعالى: (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فرفع يديه وقال: (اللهمّ أُمّتي أُمَّتي) وبَكى، فقال الله تعالى: يا جِبريلُ، اِذهبْ إلى مُحمّد، فقل: إنا سَنُرضيكَ في أمَّتكَ ولا نَسُوؤك) [11]. إن دعاءَ سيِّدنا محمدٍ لأمته بهذه الكيْفيَّة التي تفوق كلَّ وصْفٍ، لَبرهان على رِقة قلبِه، ولِين طَبْعهِ، وجمَال خُلُقِه، وجَلال مكانتِه، إنه بالمؤمنين رؤوفُ رحيمٌ. هكذا ظل هَمُّ رسولِ الله أن يُسْعِدَ الإنسانَ في الدنيا والآخرةِ، ويُجَنِّبَه موجِبات الشّقاوةِ والخُسرانِ في الأولى والآخِرةِ. فهو الجدير بالمَحبَّة، والأَوْلى بالشّوقِ إليه، فَطوبى لِمنْ أحبَّهُ، وهنيئا لِمَن اشتاق إليه، لأن المرءَ يُحشر مع من أحبّ. إن محبّة رسولِ الله وتَعلُّقَ القلوبَ به فِطرةٌ في المَخْلوقاتِ، وسَجِيَّة في الكائِناتِ، جَبَل عليها الله عُموم خَليقتِه. وإن بُغضَه تبديلٌ فاحِشٌ للفِطرةِ السَّليمة، وزَيغٌ مُهلِك عنْها، وإكراه القَلبِ على ما يَكره. بيد أن مَحَبته صلى الله عليه وسلم لِلنّاسِ أعظَمُ من محبتهم له في كل الأحوال، وإن ثناءَنا عليه ليلاً ونهاراً، سرّاً وجِهاراً، وذِكرَنا إيّاهُ بالخَير في كلِّ حالٍ وحينٍ، وغيرَ ذلك مِمَّا هو من هذا القَبيلِ، لا يُساوي شيئا أمام الخَيرِ العَمِيم، والفضلِ العظيم الذي أتى إلينا من الله تعالى على يديْهِ الكريمتين. فاللهمّ صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما صلّيت على آل إبراهيمَ، وبارك على محمد وعلى آل محمدٍ، كما باركتَ على آل إبراهيمَ في العالمين، إنك حميد مجيد. الهوامش [1] الأعراف. الآية: 156. [2] صحيح البخاري، كتاب الأدب، رقم الحديث: 6000. [3] مستدرك الحاكم، كتاب الإيمان. رقم الحديث: 100. [4] التوبة. الآية: 128. [5] الجامع لأحكام القرآن. ج:10/ ص:442. [6] الأنبياء. الآية: 107. [7] التسهيل لعلوم التنزيل، ج2/ ص:46. [8] سيرة ابن هشام، ج2/ ص:412. [9] صحيح البخاري، كتاب الأدب، رقم الحديث: 6126. [10] سيرة ابن هشام، ج/1 ص:384. [11] صحيح مسلم، كتاب الإيمان، رقم الحديث: 202.