كما هو ديدن الحكومات المتعاقبة ببلادنا، في اللوذ المتواصل بسياسة فرض الأمر الواقع دون تمهيد أو سابق إشعار كلما همت باتخاذ قرار ارتجالي أو تمرير قانون ما، لاسيما إذا كانت هناك صلة للأمر بجيوب المواطنين، والأمثلة على ذلك عديدة ومتنوعة. لأنها تسير على ما يبدو وفق ما ورد في الأثر عن سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه: (إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)، حيث أنها في غياب الشروط الموضوعية والتربية على احترام القانون، تؤمن بشدة أن ضرب الجيوب أبلغ من لغة البرلمان والحوار الاجتماعي… ففي خضم انشغالات الشعب المغربي ب"الزلزال السياسي" وما خلفه وراءه من ارتدادات وضحايا، تمثلت في الإطاحة برؤوس عدد كبير من الوزراء والمسؤولين السامين ورجال السلطة بمختلف الفئات، وما يعيشه العالم من اضطرابات على وقع المظاهرات والمسيرات الاحتجاجية بالعواصم العربية والإسلامية والغربية، تنديدا بإعلان الرئيس الأمريكي المتطرف دونالد ترامب عن اعترافه بالقدس الشريف عاصمة أبدية للدولة العبرية، وعزم واشنطن نقل سفارتها من تل أبيب إليها. وجدت حكومة العثماني الفرصة مواتية لتمرير قانون "تغريم الراجلين". ذلك أنه مع بزوغ الخيوط الأولى من شمس يوم الخميس 14 دجنبر 2017، ألفى المواطنون أنفسهم بغتة وجها لوجه أمام شروع شرطة المرور بكافة المدن المغربية في تحرير محاضر تغريم الراجلين، ممن يتم ضبطهم في "حالة تلبس" بمخالفة القانون وعدم احترام الممرات المخصصة لهم أثناء عبور الطريق، وإلزامهم بأداء مبلغ 25 درهما مقابل محضر عن الغرامة التصالحية والجزافية ل"الجريمة" المرتكبة، يقوم مقام وصل بالأداء متضمنا كل المعلومات اللازمة. مما أثار موجة عارمة من السخط، وأنعش المخيال الشعبي في التفنن كالمعتاد خلال الظروف المماثلة في الخلق والإبداع، بابتكار أشرطة وصور ساخرة تستهزئ بالغرامة المفروضة، وتداولها على نطاق واسع بين الناس في مواقع التواصل الاجتماعي "الفيس بوك" والواتساب… وإذا كانت فئة قليلة استحسنت هذه الخطوة، معتبرة أن هناك عددا كبيرا من الشاردين يعبرون الطريق بعشوائية، لا يعيرون اهتماما بإشارات المرور وممرات الراجلين، ولا بما قد يعرضون إليه أنفسهم والآخرين من أخطار وحركة المرور من إرباك في تحد سافر للقانون، وأن الغرامة المفروضة جاءت في إطار وقائي وذات أهداف تربوية، تتغيا الحفاظ على الأرواح البشرية. فإن الجمهور العريض من مستعملي الطريق، استنكروا بشدة هذا الإجراء الذي نزل على رؤوسهم كالصاعقة. إذ فضلا عن فجائيته وعدم خضوع تنزيله لأي تمهيد وتوفير الأرضية الملائمة أو حملة تحسيسية قبلية، عبر وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمكتوبة والإلكترونية والملصقات واللوحات الإشهارية ومكبرات الصوت في الشوارع الرئيسية… هناك من يرى فيه امتدادا لسياسة الحكومة السابقة، التي لم تفلح عدا في ضرب القدرة الشرائية للمواطنين بالزيادات المتوالية في الضرائب والأسعار… وإلا كيف يمكن تفسير تزامن هذه "الضريبة" الجديدة مع رفع سعر "تمبر" جواز السفر وتكاليف رخصة السياقة والضرائب على المقاولات الصغرى والمتوسطة ورخص البناء…؟ فقد يقبل المواطن بتغريمه عن عدم وضع حزام السلامة أو الإفراط في السرعة… لكنه يرفض أن تفرض عليه غرامة على السير راجلا أمام انعدام الشروط الموضوعية، ويعتبرها سرقة مغلفة باسم القانون، الهدف منها إنعاش خزينة الدولة المنهوكة، بما يساهم في أداء معاشات البرلمانيين والوزراء على حساب الفقراء والمعوزين، الذين ليس لهم من وسائل نقل سوى أرجلهم المتورمة من فرط المشي؟ ألم يكن حريا بالمسؤولين اللجوء إلى استرجاع أموال صناديق التقاعد المنهوبة وغيرها، وفضح الموظفين الأشباح الذين يستنزفون أموال الشعب، وفرض ضريبة على الثروة والحد من تعدد أجور وتعويضات البرلمانيين وإلغاء معاشاتهم وخفض رواتب كبار الموظفين من مدراء عامين وسواهم؟ ولأشد ما بات الكثيرون يتخوفون منه، هو الاستيقاظ يوما على ضرائب جديدة عن الهواء والشمس ! وفوق هذا وذاك، ماذا أعدت الوزارة الوصية في المقابل للراجلين من بنية تحتية جيدة وطرق آمنة؟ فالراجلون لا يمكنهم استساغة هذه الذعيرة والممرات الخاصة بهم شبه منعدمة في معظم شوارع المدن، وغالبا ما تختفي بسبب رداءة الطلاء المستعمل وعدم مراعاة المعايير المعمول بها، حيث أنها تقام في أحايين كثيرة على عجل أو تحت حرارة مرتفعة أو فوق الأوساخ، لاسيما أثناء الأنشطة والزيارات الملكية. ثم كيف لهؤلاء الشعور بالأمان أثناء عبور ممرات دون إشارات ضوئية، وتخطي بعض السائقين خط الوقوف أو عدم التوقف؟ وأين نحن من تحرير الملك العمومي (أرصفة وطرق وشوارع) من قبضة أرباب المقاهي والمحلات التجارية والباعة المتجولين…؟ وتندرج هذه "العقوبة" حسب المسؤولين في إطار تفعيل مقتضيات مدونة السير في صيغتها الجديدة، التي دخلت حيز التنفيد منذ أن صادق عليها البرلمان عام 2016، وتنص في إحدى موادها على تغريم الراجلين بمبلغ 25 درهما، عند مخالفة القانون. ويعد معنيا المتنقل على قدميه في الطريق العام، أو الذي يجر عربة أطفال أو معاقين أو دراجة أو مركبة… نحن مع كل المبادرات الجادة التي تسهم في إشاعة النظام وخلق أجواء من الأمان والاطمئنان والحد من حوادث السير، لكننا نرفض الإتيان بمبادرات "عرجاء" تثير الزوابع الهوجاء. فتغريم الراجلين لا يستقيم دون تهييئ الشروط اللازمة والتأسيس لثقافة جديدة في المدرسة والبيت والشارع، وانخراط المجالس البلدية والسلطات المحلية، في إحداث ممرات آمنة وتحرير الملك العام ووضع علامات التشوير… اسماعيل الحلوتي