نص مرصع بحب وبغضب لا متناهيين. هذا النص مهدى إلى كل من يحمل مثقال ذرة حبا أو غضبا للوطن هناك صراخ موجع من الوطن، هناك نداء عميق إلى ما تبقى من الضمير. أوقفوا هذه المهازل المتتالية، أقفلوا جميع الأبواب حتى لا نستضيف مزيدا من الرداءة، أغلقوا جميع النوافذ حتى لا نصبح محطات لجميع التفاهات، فمنسوب السفاهة مرتفع، والضحالة وصلت إلى أقصى درجاتها، لقد حصل لنا إشباع وتخمة وشربنا حتى الثمالة.لم يعد هناك مكان للهزل، للكسل وللخمول، لم يعد هناك مجال للوقوف أو للرجوع، لقد أحرقنا كل سفننا وفرصنا، ولم تعد لنا من فرصة إلا التوجه نحو المستقبل، إلا الكد و الجد، إلا الاستقامة والمحاسبة. إما أن ننتمي إلى هذا العالم ونشارك في برمجته أو لا نكون. لم يعد لنا من حق كي نبقى موتى وجثث عصرنا.لقد جربنا جميع أشكال الموت المتاحة لنا، لقد استنفذنا كل الفرص المتوفرة لنا، لقد استعملنا كل الهوامش التي منحنا إياها التاريخ. ليس هناك من وصفة سحرية ومثالية للخروج من انتظاراتنا القاتلة. لم يعد لنا من اختيار بعد أن أقصينا ذواتنا من حاضر البشرية إلا أن ننتمي إلى نادي الإنسانية ونساهم من موقعنا من أجل مستقبل أفضل للجميع وإلا لن نجد أرضا أو مكانا للعبور أو حتى للقبور. يا أمة الكهف، النوم ليس وجهة نظر.لم يعد هناك من وقت للضياع ،للتردد ،للبكاء، للثرثرة وللضجيج ،لم يعد هناك من وقت للتجارب الفاشلة، فكل البرامج استهلكناها وكل الخطط طبقناها ،لقد انتهت كل الاقتراحات ،لا مجال للإعادة والتكرار،لا مجال للتراخي وللارتكان للحلول السهلة وغير المكلفة ،لا مساحة للأخطاء القاتلة بل حتى البسيطة .لا وقت للانتظار أو الاختيار، إما التوجه نحو المستقبل والانتقال إلى السرعة القصوى أو الهمجية وبعدها الانقراض والاندثار .لا مكان لبيع الأوهام أو حتى لنسج الأحلام .إننا نتدحرج يوما بعد يوم نحو الهاوية.لقد أصبحنا مجرد معلبات فاسدة انتهى زمن استهلاكها. لقد صرنا عالة على الإنسانية ولم يعد العالم ينظر إلينا إلا ككائنات لا تتقن إلا الاستهلاك وكمواقع خاصة للمتلاشيات و كمراتع خصبة لصناعة جميع أشكال البؤس واليأس المولدة للإرهاب .لقد أصبحنا ذواتا غير صالحة للمساهمة في بناء المستقبل، وكل القرارات تتخذ خارج وجودنا وإرادتنا ومصالحنا. ونحن لا نساهم ولو بأحلامنا أو بخيالنا في بناء عصرنا. لقد أصبحنا أشلاء و بقايا حضارة، ومازلنا نعيش تحت أنقاضها و أوهام استعادة أمجادها والبكاء على أطلالها. نحن نُمَنّي على أنفسنا وننوه ونتملق لذواتنا، لم نعد ننتمي إلى أفق الإنسانية .عفوا ليس هذا جلدا للذات لكن حقيقة واقعنا وحاضرنا المر. ما هي علاقتنا بالعالم ؟ فالعالم الغربي يقوم بالفعل ونحن لا نقوم سوى برد الفعل دون حتى أدنى تفكير أو دراسة. وهناك عالم شرقي (الصينالهند ماليزيا… ) يقوم بالتأسيس لتجربة مختلفة و منفردة ونحن لا نقوم إلا بتكرار هزائمنا وتيئيس أجيال متعاقبة.هل نملك تصورا ما لأنفسنا وعنها ؟ هل من قرارات في أيدينا ؟ هل مازالت أسئلة من قبيل من نحن؟ ماذا نريد؟ ولماذا تقدم الآخرون وتخلفنا نحن على الركب ؟ ذات راهنية وفي حاجة لأجوبة منا ؟ أم نفوض الإجابات لغيرنا ليجيب مكاننا ونيابة عنا ؟ بعد أن لم نعد صالحين للمساهمة في إغناء الحضارة الإنسانية، أصبحنا جثثا تؤثث لواقعنا الرديء، وشهودا على موتنا المستمر، ومكتوفي الأيدي أمام تيارات جارفة لكل الأوهام وأمام تاريخ يلفظ كل الأمم غير القادرة على الركوب في قطاره المتجه نحو المستقبل . لم يعد لنا من موعد مع التاريخ، لقد أصبحنا أصناما في محطات لم يعد قطار الحضارة الإنسانية يتوقف عندها أو حتى ينظر إليها .لم تعد مرايا العالم كلها تتسع لرؤية وجوهنا المقنعة، فوجوهنا هي المنكسرة وليست مرآة العصر. لقد فضلنا سلال المهملات، وقمامات التاريخ، بدلا من المساهمة في بناء حاضر ومستقبل الإنسانية.لقد أصبحنا مادة خامة لا تصلح إلا لصناعة البؤس واليأس.لم يعد لنا من مكان في هذا العصر إلا في مطارح النفايات.لقد صرنا الجثة التي لا تصلح إلا لجميع أنواع التشريح.هل من قدر لنا غير قدر تخلفنا وتمزقنا وبؤسنا اللامتناهي ؟ هل من انتماء لنا غير انتمائنا إلى هوامش وحواشي العصر؟ هل من أعطاب لنا غير عطب عقولنا المنحدرة نحو المجهول؟ هل من باطن لنا حتى ننظر إليه ؟ وهل من ظاهر لنا حتى نعيد ترميمه ؟ هل من ضمير لنا حتى نستفزه ونوقظه من سباته العميقة ونعري عليه من ستار الجهل والذل حتى يصبح غير مستتر؟ ما هذا النزيف الداخلي والخارجي المستمر فينا دون توقف أو انقطاع ؟ نحن لم نوضع بعد في مواجهة وجودية مع أنفسنا العميقة. هل سنعيش دائما سعداء بأوهامنا وتفاهاتنا المسترسلة؟ لماذا وقفنا حيث نحن بل حتى تراجعنا إلى الوراء وانحدرنا نحو السفح؟ لماذا تدحرجنا في سلم القيم إلى درجة الحضيض؟ أي شلل يسكننا ؟أي لعنة نزلت بنا؟ وماذا عن انكساراتنا وهزائمنا ؟ وبأي لغة سنرثي أنفسنا الضائعة ونرمم قبحنا الظاهر؟ هل هذا العالم المتاح لنا لم يخلق على مقاسنا أم نحن من خلق على غير قياسه ؟ هل هذا العصر سابق لزماننا أم نحن من تقدمنا في تأخرنا عليه أو ربما نحن نقع خارج الأزمنة إلا زمن تخلفنا ؟ كل الصلاحيات المتاحة لنا انتهت بما فيها صلاحية موتنا، ولم يعد لنا من وقت أو اختيار.لقد أرسل إلينا إله الكون الغربان ،وفي درس حضاري غرباني بامتياز تعلمنا منها كيف ندفن موتانا، لكن نحن من الأمم التي لم تستوعب الدرس كاملا ،إذ لم ندفن إلا جزءا يسيرا من جثثنا، فماضينا لم يدفن بعد ،بل صرنا نحمله ونتحول ونتجول به أينما حللنا وارتحلنا،وهو يثقل كاهلنا. كما لم نستفيد من درس الكتاكيت الصغيرة التي تغادر قوقعاتها إلى الأزل، دون الرجوع أو الحنين إليها ،وتندمج في زمنها وعصرها رغم كل المخاطر المحدقة بها. فهل ننتظر من إله الكون أن يبعث ويرسل إلينا ديناصورات كي تعلمنا في درس عن العدم كيف ننقرض ؟ نحن نرتجل الحياة لا غير، خليط هجين من السياسات والبرامج والخطط لا تصلح حتى لترميم وجه بؤسنا المستشري. مستنقعات تحيط بنا من كل الجهات. هزائم وإخفاقات تتردد علينا في كل الأزمنة ،نكسات متتالية لا تأبى أن تفارقنا، إحباطات تأتينا كالأكسجين من كل الجهات ،لا مبادرة ،لا إبداع ،لا اجتهاد أو ابتكار، حتى الأحلام هجرتنا ولم تعد تزرنا وتحضرنا إلا على شكل أضغاث أو كوابيس مسترسلة. نحن أسرى أوهامنا اللامتناهية. نحن إمبراطورية البؤس واليأس، هل مكتوب علينا أن نكون محطات لكل الانكسارات ومطارات لكل الانهيارات و موانئ لكل الفواجع ؟ إلى متى سنبقى ننفخ في جثثنا النتنة ؟ إلى متى سنبقى سيركا مجهزا ومفتوحا لكل الزوار؟ إلى متى سنبقى ضيوفا مزعجين و مثقلين على الإنسانية وعلى العصر؟ فيما تفيدنا اللغة المنمقة والكلمات المنتقاة بعناية ودقة فائقة مرصعة في بيانات فارغة من كل مضمون لأي مستقبل ؟ هل قدر سفننا ألا تبحر إلا في شواطئ البحار دون أعاليها وأعماقها ؟ أي عوائق تحول دون أن تطير طيورنا وتحلق في أعالي السماء كغيرها من الطيور الحرة ؟ أي طوفان ينتظرنا بعد اليوم ؟ أي انشطار وأي تشظي نحن مقبلين عليه بعد كل هذه التمزقات ؟ أي ملفات سنودع غدا وبعد غد في أروقة و مكاتب الأممالمتحدة لتضاف ولتصطف وتصفف في رفوفها بعد هذا الكم الهائل من ملفاتنا الموضوعة سلفا ؟ هل لابد من إشارات من القوى العظمى لنتعارك أو لنتصالح مع أنفسنا ؟ ما هذا الجبن الذي حل بنا واستشرى فينا ؟ حتى الشيطان لم يعد يبارك لنا في تخلفنا وجهلنا، في بشاعتنا وقبحنا، في تمزقنا وتشتتنا. كم من قبر ينقصنا وكم من كفن نحن في حاجة إليه ؟ كل المقابر لفظتنا ولم تعد هناك من مقبرة تستقبلنا وتستحملنا ،لقد طال وقت استضافتها لنا ،لقد ملئنا واحتكرنا فضاءاتها وأثقلنا كاهلها، نحن دون سوانا .حتى الموت تعب من موتنا المتواصل ،فهل هناك ما فوق وأقوى من الموت لنلتجئ إليه ليستريح منا ؟ لقد توحدنا مع الفشل و تماهينا مع الأوهام. أي نموذج نقدمه للإنسانية وللتاريخ ؟ أي تجربة سنفتخر بها ونزكيها أمام الأمم ؟ عن أي مجد أو بطولات سنتحدث لأحفادنا ؟ أي اقتراح سنقترحه ونفيد به مستقبل البشرية ؟ ثقوب سوداء في السماء ونحن في الأرض.نحن مواد حيوية صالحة لكل المختبرات، نحن خارطة لجميع الأعطاب، نحن تضاريس لكل السراب، نحن برمجة لجميع المحن، نحن إطار لكل الفواجع .يا موسوعة غينيس الأزلية، سجلي على صفحاتك: كل الأرقام القياسية التي تؤدي إلى محطات الفشل والسقوط نحن من صنعها وهي من إنجازاتنا الفذة .حتى الملل كَلَّ وسئم من تكرارنا وإخفاقاتنا اللامتناهية .وماذا عن عقولنا الترميقية والترقيعية والدوغمائية التي تستحم في نفس النهر دائما وأبدا ؟ وكم من مكنسة تنقصنا لإزالة الغبار عن هذه العقول؟ نحن الوحيدين الذين انتصرنا في تمزقنا وانهزمنا في وحدتنا. لأي صنف من الكائنات الحية ننتمي نحن ؟ أي شكل من الجزر نحن ؟ أي نوع من الجزئيات نحن التي لا تقبل إلا بالتجزيء كحل ؟ نحن التعدد والتنوع الوحيد الذي لا يقبل الوحدة. أي وفاء هذا لتخلفنا وموتنا ؟ .كل تجميل لقبحنا وكل ترميم لبؤسنا لن يزيدنا إلا تشويها وبشاعة. إلى متى سينام الإنسان فينا ؟ إلى متى سيموت الوطن فينا ؟ إما أن نعي ونفهم شكل الحياة الجديدة الراهنة الذي خلقته الحداثة الغربية ونعترف به وننضم وننتمي إليه وننخرط ونساهم فيه وإما سنبقى جثث التاريخ. فالعصر لم يعد يحتمل مزيدا من الأوهام ولم يعد صالحا للجثث وللأعراس.