أجد المقال "الانهزامي والاستسلامي" للأستاذ محمد جبرون، الذي اختار له عنوان "البيجيدي ومواجهة التحكم.. في الحاجة إلى التخلي عن أطروحة الانتقال الديمقراطي"، دعوة شاردة توقيتا وسياقا، ودعوة تخدم في العمق جبهة التحكم وتوفر غطاء بصفة الأكاديمي والمفكر والباحث، لكل المهزوزين في معركة الصمود إلى أخر رمق، أمام التحكم ومن يتخذه منهجا في الحكم، وليس مجرد أطروحة يمكن جعلها طرفا في ثنائية "التحكم/الديمقراطية". ربما قد يستفيد الأستاذ جبرون من اللغة التي يُصنف أنه من محترفيها، ومن الصفات التي يؤثت بها ما يصدر عنه وما يجعله محط "اتّباع" لكثير من الذين يرون فيما يكتب مستنَدا "أكاديميا" و"نظريا"، يجدون فيه التبرير الكافي لمواقفهم الخارجة عن الإجماع الديمقراطي، ولكن حسبي أن أسجل ملاحظات على شرود ما كتبه في اللحظة الخطأ على الأقل، على اعتبار أن حزب العدالة والتنمية اليوم منشغل بمعركة 7 أكتوبر برهانات تتجاوز الحساب الانتخابي الضيق، إلى رحابة المعركة السياسية، بين السير قدما في ترسيخ ثقافة جديدة في البلاد موثقة في أطروحة المؤتمر الوطني السابع، وبين شبح التحكم في كل شيء والعودة إلى مسلك الضبط وتصدير المسرحيات إلى الشعب والرأي العام. *- ما تحدث عنه الاستاذ جبرون من كون ثنائية تحكم/ديمقراطية أطرت المشهد السياسي في المغرب منذ أكثر من 60 سنة، قد لا يكون التشخيص المناسب، بالنظر إلى ما يشهد عليه تاريخ الدولة في المغرب، من ثنائيات أخرى منها "دولة/مجتمع" و"بنية سلطانية/بنية استعمارية" و"وطني/مستعمر" و"فساد/إصلاح" وغيرها... منح تفاعلها للمشهد السياسي هوية أو هويات إضافية ميزت المغرب، ولذلك يمكن القول بأن إصرار الاستاذ جبرون على هذه الثنائية فقط فيه اختزال غير موفق لطبيعة الصراع السياسي الدائر منذ الاستقلال. *- أطروحة الاستاذ جبرون تجعل مصير السياسة في البلاد في بنية فوقية محصورة في صراع أفقي، متناسيا أهمية المجتمع في العملية وملغيا الحديث عن التحولات التي يعرفها المجتمع في اتجاه مزيد من الطلب على الديمقراطية كآلية لتدبير العيش المشترك وليس فقط كآلية لاختيار من يمثله، وفي اعقتادي إلاء الاستاذ جبرون لدور المجتمع كاف لنسف دعوته إلى التخلي عن شعار ومطلب الانتقال الديمقراطي. *- الاستاذ جبرون يكشف أنه بعيد كل البعد على منطقة ممارسة السياسية، وأنه مجرد متابع لها من الهامش بنظرة استعلائية تحجب حقيقة ما يجري في الظاهر بله أن تستنتج ما يدور في الكواليس خلف الأبواب المغلقة، لذلك يصر على تحديد تعريف للتحكم في وقت لا يهم الممارس الفعلي أن يُجهد نفسه في تعريفه، بقدر ما ينبغي الحرص على جعله حالة سياسية مناقضة للمشروع الديمقراطي محفزة على الانخراط فيه والتعبئة لصالحه دون السقوط في متاهات تعريف المفاهيم حتى وإن كان بقصد تمليكها للجمهور. ومع ذلك فتعريف الاستاذ جبرون للتحكم زاغ به عن معطى لا يُمكن إغفاله، وهو كون هذا المفهوم من صناعة خالصة للتيار الإسلامي المشارك في المؤسسات، ومن إبداع حزب العدالة والتنمية وأمينه العام بالتحديد، وأنه استطاع بالفعل أن يؤطر النقاش السياسي طيلة مرحلة ما بعد ظهور حزب الاصالة والمعاصرة كقوة مختارة للعب الأدوار نفسها التي ورّثها الاستعمار الفرنسي وألصق جيناتها في نظام الحكم في المغرب، وقد لوحظ تجاوب الكثيرين مع هذا المفهوم خاصة من المنتمين إلى الجبهة الأخرى المناقضة للبنية الاستعمارية المقاومة لآلياتها وفق ما عبر عنه الاستاذ عبد الله بلمليح في بحثه المعنون ب"البنيات السياسية لمغرب الاستعمار"، والتي أبدع هو الآخر في ايجاد وصف وتعريف غير متداول للدولة الحديثة في المغرب عندما أطلق عليها اسم "الدولة الرسوبية". *- إن سؤال الخصوصية المغربية، لا ينبغي أن يحيلنا على مصير واحد يتعلق بالتسليم لزاوية نظر واحدة ووحيد، وإنما ينبغي أولا الاجتهاد على تفكيك هذه الخصوصية بناء على شواهد من التاريخ القريب والبعيد للدولة الحديثة في المغرب، واستنتاج ما كان في صالح الشعب لتثمينه والبناء عليه، وما كان ضد مصلحة الوطن في مختلف المراحل والعمل على التقليل من حضوته وحضوره بالمواجهة السياسية والاجتماعية اللازمتين، عوض الهروب إلى الأمام واستنتاج خلاصات تُعفي من صعوبة المواجهة وتتجه إلى "الحسنة النقية" كما تجسدها النكتة المعروفة عند المغاربة. *- لا أعرف من أين استقى الاستاذ جبرون أن حزب العدالة والتنمية يتبنى أطروحة بعنوان الانتقال الديمقراطي على الرغم من كونه ابن الدار ويُفترض فيه كباحث ومفكر حسب ما يُوصف به، أن يكون أكثر دقة في إطلاق مثل هذه العناوين، وسفو لن يجد صعوب في اكتشاف أن الحزب لم يطرح يوما نفسه صاحب أطروحة من هذا القبيل، ولم يسبق لأي من قياداته المؤسسة صاحبة العمق النظري فيما يقوم به الحزب، أن تحدثوا عن هدف "الانتقال الديمقراطي" كغاية للحزب، وربما وردت هذا المفهوم في مرات محدودة ومعدوة في كل وثائقه الرسمية، ولم تأتي مختلف محاضرات امينه العام وكلماته وخطاباته على هذا المفهوم إلا يفما نذر. إن العبرة عند العدالة والتنمية ليست في المفاهيم بقدر ما هي في التفاعل مع الأحداث والمواقف بخلفية المساهمة في ايجاد صيغ جديدة لعلاقة الدولة مع المجتمع يكون قوامها تقوية وتصليب مؤسسات الدولة لخدمة المجتمع، وبالنسبة إلى الحزب تكاد كل المفاهيم النظرية تكون مجرد تفاصيل لا باس من استعمالها في السجال السياسي الذي تتقنه النخبة في المغرب. *- يسقط الاستاذ جبرون ربما من حيث لا يقدّر في خلاصة خطيرة تتعلق بعلاقة الملكية بالتحكم، هذه الخلاصة فيها اتهام مباشر للملكية برعاية التحكم أو ربما بتوظيفه في الحكم، وهذا أيضا يجد ما ينفيه في مراحل مهمة من تاريخ المغرب سواء في الفترة الاستعمارية أو بعدها، لأن هدف تأمين استمرارية الحكم ربما قد يكون الاشتغال عليه بآليات غير ديمقراطية لكنها ظلت على كل حال مفهومة، وظلت رهينة برد فعل القوى الوطنية الإصلاحية وموقفها من الملكية، بحيث أصبحنا نعيش حالة اقتناع بأهمية الملكية ودورها وضرورتها، ليس تكتيكا وإنما عمقا استراتيجيا، وهو ما عبرت عنه مختلف المواقف بعد انقشاع غبار المحاولتين الانقلالبيتين في سبعينيات القرن الماضي، وقبول الكتلة الديمقراطية بتسلم حكومة التناوب، أما عن حزب العدالة والتنمية فموقفه من الملكية لا يمكن التأريخ له فقط بسنة 1996 التي أعاد فيها بناء حزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية، وإنما ينبغي البحث عنه في أدبيات الحركة الإسلامية التي ينتمي إليها، خاصة في مرحلة المراجعة والانتقال من العمل السري إلى العمل العلني، حيث إن من تكلفوا بتدبير عملية المراجعة آنذاك وعلى رأسهم الأمين العام للحزب حاليا الاستاذ عبد الإله بنكيران، لم يكونوا يتصورون قطعا أنه سيأتي عليهم يوم يجدون فيه أنفسهم في مواقع اتصال مباشر مؤسساتيا -على الاقل- مع الملكية حتى يعدوا موقف التوافق والتعاون مع الملكية منذ ذلك الحين، وإنما كان الموقف مبدئيا يصل حد العقيدة، وهو ما يفسر السلاسة في تدبير الموقف عندما وصل الحزب إلى رئاسة الحكومة وتبنى بعدها خيار الشراكة في البناء الديمقراطي، وحتى مصطلح البناء الديمقراطي يحيل على الرؤية التي يرى بها الحزب مسار الانتقال الديمقراطي في البلاد أفقيا وعموديا. إن التحكم يشكل خطرا على الملكية نفسها، ألم يدخل الاستعمار إلى المغرب، بجبة حماية الملكية، حتى يستفرد بها، ويتحكم فيها، وعندما أيقن أنها كمؤسسة لن تخضع له، سارع إلى تشكيل بنية حكم موازية، ليحقق أهدافه، ولعل ثورة الملك والشعب التي نستعد لتخليد ذكراها هذه الايام، شاهدة على رفض الملكية للتحكم، ويزداد رفضها له كلما كانت مواقف وسلوك القوى الوطنية رافضة له هي الأخرى، ولذلك تم نفي محمد الخامس بعد تأكد الاستعمار من قيام تحالف قوي بينه وبين القوى الوطنية بعد التوقيع على وثيقة المطالبة بالاستقلال، وهذا ما يفسر نجاحات المغرب في مواجهة الاستعمار وخططه بعد مغادرته، ورهان التحكم سيظل هو توسيع الهوة بين القوى الوطنية وبين الملكية، ولئن ظلت الملكية هي نفسها، فإن القوى الوطنية تتغير حسب المراحل والظروف، ويمثلها اليوم حزب العدالة والتنمية وأطراف أخرى. وفي الختام، يحق لنا أن نتساءل من الداخل عن السر وراء خرجات الأستاذ جبرون بتفجير نقاشات لا محل لها سياقا، مثل ما كتب قبيل انتخابات 4 شتنبر متحدثا عن وهم الاكتساح وفزاعة الانتصار المكلف، متقمصا دور المحامي لجهات معروفة تخشى التقدم الانتخابي لحزب العدالة والتنمية، خوفا على مصالحها وعلى توسيع الهامش الديمقراطي، وها قد مرت الانتخابات الجماعية والجهوية وحقق فيها الحزب ما حققه من نجاح نعتبره نجاحا للوطن وليس للحزب فقط، وهو ما شهد عليه فرح العديد من الديمقراطيين المختلفين ايديلوجيا مع الحزب، واحتفاؤهم به وانخراطهم في المعركة نفسها. إن واجب الوقت عند المنتمين لحزب العدالة والتنمية بصفة خاصة، ليس هو الدخول في اتون نقاشات نظرية بزنطية، لن توصل حتما إلى معرفة من السابق للوجود هل الدجاجة أم البيضة، نقاشات مُلهية ومُنهكة، في لحظات يحتاج فيها الحزب إلى الوقوف صفا واحدا خلف قيادته لخوض معركة الانتخابات النيابية، دفاعا عن الدولة التي تحتاج إلى الديمقراطية لتقوي بنيانها، وترافعا عن المواطنين الذين يحتاجون للديمقراطية للشعور بمزيد من الاطمئنان والثقة في دولتهم وفي نخبتهم الصادقة، واستكمالا لمسار البناء الديمقراطي، أما رهانات التنمية الاقتصادية فلن تكون ذات أثر، ما لم تكن أثرا للديمقراطية نفسها... ولكم في تونس ومصر عبرة يا أولي التنظير من فوق ... قالت العرب قديما: الواقف على الشاطئ سباح ماهر! جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "العمق المغربي"