كما كان منتظرا، صوت المغاربة - و بأغلبية ساحقة - ب" نعم" في الاستفتاء الشعبي على مشروع الدستور الجديد. لكن هذه المحطة الانتخابية ليست نهاية المطاف، فالتحدي الحقيقي يبدأ الآن، لأن الذين وضعوا ثقتهم في هذا الدستور، إنما يعقدون عليه الآمال في غد أفضل على كل المستويات. لذلك فالامتحان الحقيقي الذي ينتظر الدولة المغربية هو الانتقال من القول إلى الفعل، وبغير تحقيق النجاح على هذا المستوى لن يكون للوثيقة الدستورية أي معنى أو أثر. لقد راكم المغرب تجربة سياسية أصبحت معها الاستحقاقات الإنتخابية مجرد ديكور لتزيين الواجهة، و هو ما أفقد ثقة المغاربة في الدولة، و كذا في الأحزاب السياسية التي لا تلتفت إلى المواطن إلا عندما يتعلق الأمر بالمنافسة من أجل استقطاب صوته الانتخابي. و بدا واضحا أن الشعب قد عزف عن الممارسة السياسية بشكل كبير عندما صدمت الانتخابات البرلمانية لسنة 2007 كل المتتبعين بنسبة امتناع عن التصويت قاربت 63 بالمئة. لذلك كان رهان الدولة الأساسي في محطة الاستفتاء الأول من نوعه في عهد محمد السادس، هو إقناع المواطنين بالتوجه نحو صناديق الإقتراع. و الواقع أن نسبة المشاركة التي أعلن عنها وزير الداخلية ( 72 بالمئة ) تعتبر مفاجئة بمقاييس المشهد السياسي الذي مازال يراوح مكانه. لكن هذه النسبة لا تدل على تغير استراتيجي في مواقف الكتلة الناخبة، بقدر ما أملتها ظروف كثيرة، أهمها أن المغاربة ينظرون عموما إلى الوثيقة الدستورية الجديدة باعتبارها مشروعا للملك. و لأن الملكية تحظى بإجماع كبير من طرف المغاربة، فإن هذه المشاركة تعبر عن الاستجابة للنداء الملكي الذي عملت مختلف أجهزة الدولة، و معها أغلب الأطياف السياسية و النقابية و الجمعيات المدنية على حشد التأييد الجماهيري له بكل الوسائل خلال الحملة التي سبقت هذا الاستحقاق... ثم إن النسبة المذكورة لا تعبر بدقة عن الحجم الحقيقي للكتلة الناخبة لأن أكثر من 7 ملايين من المغاربة الذين هم في سن التصويت ليسوا مسجلين في اللوائح الإنتخابية أصلا...لذلك فإن موعد الإمتحان الحقيقي لكل الأحزاب التي طبلت لنسبة المشاركة المرتفعة في الاستفتاء حول الدستور، سيكون خلال الانتخابات التشريعية المقبلة. فهل ستكون هذه الأحزاب قادرة على إقناع المغاربة بالذهاب إلى صناديق الإقتراع؟. هل سنرى تجديدا في النخب السياسية يقطع مع أحزاب "الأعيان" و " موالين الشكارة "؟. هذه الأسئلة تفرض نفسها بقوة، لأن المؤشرات الحالية تثبت أن العائق الأساسي الذي يقف حاجزا منيعا أمام ممارسة سياسية متخلقة و مسؤولة، يتجلى في طبيعة العقليات السائدة التي أصبح معها الشأن السياسي مصادرا و محتكرا من طرف نخبة استفادت من اختيارات الدولة، و كان من الطبيعي أن يفرز الريع الاقتصادي "ريعا سياسيا " في إطار زواج المال و السلطة الذي أضحى مشهدا مألوفا في مختلف مناطق المغرب. و بدون تجديد حقيقي للنخب الحزبية و تشبيبها و إعطاء الفرصة لذوي الإستحقاق من الطاقات و الأطر المثقفة الحاملة لمشاريع سياسية ملموسة و مستمدة من هموم المواطنين و انشغالاتهم، فإن الحال سيبقى على ماهو عليه إلى أجل غير مسمى. و إذا كان جزءا مهما من مستقبل المغرب رهين بطبيعة النخب التي سيفرزها المشهد السياسي، فإن مؤسسات الدولة يجب أن تتخلى بدورها عن كثير من الممارسات المخزنية التي أفقدت ثقة المواطنين فيها. و هي بذلك مدعوة إلى تحقيق المصالحة مع أبناء هذا الشعب عبر تفعيل حقيقي لآليات المراقبة، و محاربة الرشوة، و السمو بمقتضيات القانون، و القطع مع المحسوبية و الإنتهازية و محاربة المفسدين. و هنا أيضا لابد من طرح أسئلة تعبر عن انتظارات المغاربة بعد التعديل الدستوري. فهل ستقطع الفترة المقبلة مع ممارسات الماضي؟. هل سيؤدي القضاء دوره حقا باستقلال تام و بدون ضغوط أو وصايات؟. هل يحفظ المستقبل كرامة و إنسانية المواطن المغربي في علاقته مع الإدارة؟. هل سيرقى هذا الدستور بالشعب المغربي إلى تحديد اختياراته من خلال انتخابات نزيهة نظيفة؟... تلك هي الاستفهامات التي ينبغي الإجابة عنها. و تلك هي الرهانات التي ينبغي رفعها من أجل غد أفضل. إن الذين يعتقدون أن محطة فاتح يوليوز 2011 خلقت مغربا جديدا لا يمت بصلة إلى المغرب السابق، هم واهمون و مخطئون، فالوثيقة الدستورية لا تغير من الواقع شيئا بدون إرادة سياسية تترجم الأقوال إلى أفعال. و القطع مع الماضي من أجل استشراف آفاق المستقبل لا يكون بالنصوص و الأماني، بل بالعمل الميداني.