الجزائر مرة أخرى بلاد "الحكمة السياسية العجائبية" وخاصة عندما يتعلق الأمر باتخاذ قرارات استراتيجية تهم جميع المخلوقات باستثناء أولئك العقلاء الذين يعيشون على كوكب الأرض. ففي عصرنا الراهن حيث تركز معظم الدول على أولويات التقدم والتعاون والتنمية الاقتصادية والاستثمارات المتبادلة ، يتمادى حكام الجزائر في تهورهم ويقررون اتخاذ مواقف غير مفهومة تمامًا لعل آخرها : " فرض تأشيرات الدخول على المواطنين المغاربة". فمع استمرار تزايد عدد الدول التي تعترف بمغربية الصحراء كان آخرها إيسلاندا والدانمارك، ترد الجزائر بما يمكن وصفه بأنه المعادل الجيوسياسي لنوبة هيستيريا جراء التحول في خط الدبلوماسية الدولية، والنزاعات الإقليمية، التي أصبحت تميل للواقعية على الأرض بارتفاع عدد الدول المدعمة لمخطط الحكم الذاتي في الصحراء المغربية مما جعل جارتنا "الشقيقة" ترى حل المشكل بالدخول من نافذة السفارة بفرض تأشيرات الدخول على أشقائهم المغاربة . ولنتأمل قليلاً الخطوات الجبارة التي قطعها المغرب مؤخراً في مساراته التنموية . فالمملكة منشغلة بالطول والعرض بتشييد البنية التحتية الأساسية استعدادا لتنظيم كأس العالم لكرة القدم 2030 ، وتحديث اقتصادها، وتعزيز العلاقات الدبلوماسية، وخاصة ما تعلق بتأكيد الاعتراف الدولي بالصحراء المغربية وهو السبب الذي لابد أن يكون مزعجاً للغاية بالنسبة للجزائر وصنيعتها بوليساريو. هكذا يتخيل الرئيس عبدالمجيد تبون جاره المغرب لا ينشغل بطلاء بيته العتيد فحسب، بل ويشيد أركان دولة أمازيغية عربية رائدة بينما يجلس تبون في مكتبه الرئاسي يحدق حوله في ورق الحائط المقشر. طبعا إنه لأمر محبط، ومثير للسخرية أليس كذلك؟ ولكن بدلاً من أن تحذو الجزائر حذو جارتها وبدلاً من اللحاق بركب التنمية والدبلوماسية العالمية الرصينة، اختارت مساراً مختلفاً وأكثر إبداعاً: إطلاق ما يمكن وصفه بأبشع مؤامرة انتقامية في تاريخ شمال أفريقيا: فرض تأشيرة الدخول على أشقائهم المواطنين المغاربة . لكن لماذا لجأت الجزائر إلى هذا التصرف المضحك والمبكي في نفس الوقت؟ هل هناك من أسباب عملية وراء قرار فرض التأشيرة هذا ؟ والجواب واحد وواضح : إذا لم يتمكن عسكر قصر المرادية من منع المغرب من حشد الدعم الدولي لقضية الصحراء المغربية ، ف"القوة الضاربة" سوف تجعل من زيارة المواطنين المغاربة للجزائر كابوسا وحرمانا من دخول الفردوس المفقود . ومما لاشك فيه أن الجزائريين يتوهمون بأن هذه الخطوة البئيسة من شأنها أن تجبر المغرب على الخضوع لأطماعهم التوسعية في اتجاه الغرب نحو المحيط الأطلسي عبر الصحراء المغربية . فما الذي قد يعرقل خطط التنمية الكبرى في المغرب هل بعرقلة مواطنيه بمنعهم من السفر إلى الجزائر لقضاء عطلة نهاية الأسبوع في وهران أو تلمسان ..إلخ ؟ ودعونا نتوقف لحظة لنتأمل بصدق مدى عبقرية هذا القرار. فقد نجح المغرب في تأمين الاعتراف بسيادته على الصحراء وهو انتصار دبلوماسي كبير، والمغرب يحتفل بهذا الإنجاز من خلال تشييد المزيد من مشاريع التنمية هناك . ومن الواضح أن الرئيس عبدالمجيد تبون ومن معه قد أمضوا ساعات طويلة في غرفة سرية غارقة في دخان السيجار الكوبي والخرائط التوسعية والنظارات السوداء ، وهم يفكرون في أكثر الخطوات المضادة فعالية. وبعد مداولات مطولة واستشارات مع لينين في الآخرة ، توصلوا إلى السلاح الفتاك النهائي: " فرض تأشيرات الدخول على المغاربة!". إن هذا بالطبع كما يعتقدون منذ انطلاق المسيرة الخضراء المظفرة أواسط السبعينات هو أكثر تأثيراً من تطوير اقتصاداتهم أو تعزيز العلاقات الإقليمية. فلماذا يشغلون سياستهم بالاستثمار في رأس المال البشري أو الصناعة أو الابتكار التكنولوجي بل يكفيهم بكل بساطة أن يجعلوا المغاربة يملؤون بعض الاستمارات قبل دخول بلدهم ؟ إنها لعبقرية جزائرية خالصة وغير مفلترة. ولنتحدث بصراحة. ففي مرحلة ما، لابد وأن تكون القيادة الجزائرية قد أدركت أن زاوية النظر ل "معاكسة تقدم المغرب" لم تكن ناجحة بالنسبة لها. وربما حدث ذلك عندما بدأت القوى الدولية تتجاهل بياناتها الرئاسية الكاذبة والملفقة. أو ربما حدث ذلك عندما بدأت معظم الدول في تغيير مواقفها لصالح مخطط الحكم الذاتي، واحدة تلو الأخرى. وفي كلتا الحالتين، لابد وأن تكون الجزائر قد استنتجت أنه إذا لم تتمكن من التفوق على المغرب من حيث الإنجازات التنموية الفعلية، فسوف تتأكد على الأقل من اضطرار المغاربة إلى القفز عبر الأسلاك الشائكة حتى يتمكنوا من وضع أقدامهم في الفردوس المفقود الجزائري. إن أفضل فصل في هذه المعركة الجديدة المتعلقة بالتأشيرات هو مشاهدة بقية دول العالم تحاول أن تفهم ما تطمح الجزائر إلى تحقيقه هنا على وجه التحديد. إن أغلب المراقبين مازالوا يفركون رؤوسهم، ويفكرون عشرات المرات في هذا التهور الديبلوماسي الجزائري العاري من الحكمة والعقلانية. إن المفارقة واضحة للعيان. فعلى الرغم من كل ما تبذله الجزائر من جهود واهية ومضيعة للوقت في هذا الصدد، فقد اعترفت عن غير قصد بأنها لا تملك حلاً حقيقياً لكبح نمو المغرب على جميع الأصعدة باستثناء سلاح التأشيرة الذي تمت هندسته ببراعة. ولابد أن أحداً ما في وزارة الخارجية الجزائرية يهنئ نفسه الآن، معتقداً أنه قد ورط المملكة المغربية العريقة في مشكلة سوف تعيق مسارها التنموي في الصحراء المغربية. بالطبع، السؤال الملح الذي يدور في أذهان الجميع هو: ما هو التأثير الذي قد يخلفه هذا القرار الطائش والمتهور على دينامية المغرب في صحرائه الغالية ؟ ربما ستنهار هذه المملكة العريقة التي عمرها إثنا عشر قرنا تحت وطأة القيود الجديدة المفروضة على التأشيرات؟ وسيضطر مواطنو المغرب إلى العيش في البؤس والفقر من دون حليب ولا موز ولا زيت ولا سفريات سياحية ترفيهية في نهاية الأسبوع إلى فردوس الجزائر؟ يا لغبائهم السياسي !! في الواقع، من الصعب أن نتخيل أن هذا القرار سيكون له أي تأثير ملموس على المسار الدبلوماسي أو الاقتصادي للمغرب. لا تزال وستظل المملكة تجتذب الاستثمارات، وتعزز العلاقات الدولية، وتزيد من نفوذها. وفي الوقت نفسه، تبقى الجزائر ماضية بعزم في جعل نفسها تعيش في جزيرة العزلة وأحلام الحرب البائدة عفوا الحرب الباردة .