من سنن الله التي لا تتبدل ولا تتخلف أنه لابد أن يبتلي الناس ليعلم الصادق من الكاذب، والمؤمن من الكافر، والصابر من العاجز والجازع، وليميز كل فريق عن الآخر {ليميز الله الخبيث من الطيب}. والقرآن الكريم ينص في آياته المحكمات على أن الابتلاء من مقاصد الخلق {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا}.
ومن يتأمل التاريخ والوقع وأحوال نفسه والناس من حوله لا يكاد يرى إنسانا إلا وقد ابتلي بنوع من أنواع البلاء: إما في نفسه وعافيته وماله، وإما في أهله واقاربه وعياله، لا يخلوا أحد من ذلك على الإطلاق ولكنهم بين معجل ومؤجل: المرء رهن مصائب لا تنقضي .. حتى يوسد جسمه في رمسه فمؤجل يلقى الردى في غيره .. ومعجل يلقى الردى في نفسه
فالابتلاء قصه طويلة، وتاريخ ممتد بدأ منذ نزلت لا إله إلا الله ومنذ أنزل آدم إلى الأرض.. لابد من الابتلاء حتى لا يكون الإيمان مجرد ادعاء يناله كل من ابدعاه دون أن يبتلى لتعرف حقيقة دعواه {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}(العنكبوت:2، 3)، وقال: {أمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}(آل عمران:124)، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}(محمد:31). فالابتلاء تمحيص ليعلم أهل الصدق من أهل الكذب، وليعلم أهل الإيمان من أهل النفاق، وليعلم الله الصابرين.
فليس الابتلاء دليل سخط من الله، ولا علامة على عدم الرضا، وإلا فالأنبياء أفضل الخلق وأكرمهم على الله ومع ذلك هم أكثرهم بلاء؛ كما قال سيدنا وسيدهم عليه الصلاة والسلام: [أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل].
ونحن أيها الإخوة سائرون في هذا الطريق وسالكون هذا الدرب وطالما أننا في الدنيا فلابد أن يصيبنا مثل ما أصابهم، ويحصل لنا من جنس ما حصل لهم.. طالما أننا في هذه الحياة لابد أن يصيبنا كدرها وبلاؤها ونكباتها ولأواؤها، فهذا حالها وحال أهلها فيها، ومن ظن أنه يعيش عمره سالما وحياته منعما من غير تنغيص فلم يعرف حقيقة الدنيا: خلقت على كدر وأنت تريدها .. صفوا من الأقذاء والأكدار ومكلف الأيام ضد طباعها .. متطلب في الماء جذوة نار
فإذا أيقنا أن البلاء سنة كونية، وحقيقة دنيوية وجب علينا أن نعلم أن حق الله في ابتلائه الصبر، فلنصبر على بلاء الله: فإذا بليت بنكبة فاصبر لها .. من ذا رأيت مسلما لا ينكب وإذا أصابك في زمانك شدة .. وأصابك الخطب الكريه الأصعب فادع الإله فإنه أدنى لمن .. يدعوه من حبل الوريد وأقرب
والعلماء متفقون على أن الصبر واجب، وأن الرضا مستحب زائد، وحق الواجب أن يعرف؛ فما لا يتم الواجب إلا به فهوا واجب، فلابد أن يتعلم الناس الصبر ويعرفوه ليقوموا بحق الله عليهم فيه:
معنى الصبر وأركانه والصبر كما يقول العلماء: . خلق كريم يمنع من فعل ما لا يحسن. . وقيل: هو تجرع الغصص من غير عبس. . وقيل: تحمل البلوى من غير شكوى.
وأركان الصبر ثلاثة، لا يتم إلا بها: "حبس النفس عن التسخط بالمقدور، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن فعل ما يغضب الرب سبحانه".
فالصابر: لا يتسخط البلاء، ولو في نفسه وقلبه، بل نفسه صابرة محتسبة، وإن لم يكن راضيا، ولكنه أيضا غير ساخط. والصابر: يمسك لسانه عن الشكوى، فلا يقول: لماذا أنا؟ أو: لماذا يفعل بي هكذا؟ أليس في الدنيا غيري؟ ومثل ذاك الكلام الذي يدل على الجزع والتشكي وعدم الصبر. والصابر: يحفظ جوارحه عن فعل ما يغضب الله: كلطم الخدود، وشق الجيوب، وحلق الشعور، والدعوى بدعوى الجاهلية. وإنما كما قال النبي صلى الله عليه وسلم حين مات ولده إبراهيم: إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا. فإذا ابتليت فاصبر، ولا تشكو ربك لخلقه، فإنه رحم بك منهم وإذا بليت فاصبر لها .. صبر الكرام فإنه بك أرحم وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما .. تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
فوائد الصبر وعواقبه اعلم أن الصبر رغم مرارته إلا أن عاقبته أحلى من العسل كما قيل: والصبر مثل اسمه مر مذاقته .. لكن عواقبه أحلى من العسل
فمن فوائد الصبر وعواقبه الجميلة: أولها: إعانة الله للصابرين ومعيته معهم: {واصبروا إن الله مع الصابرين}. ثانيها: نوال الخير الكثير والفضل الكبير: {ولئن صبرتم لهو خير للصابرين}. ثالثها: الثواب الذي لا يحد والأجر الذي لا يعد: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب}. رابعها: رفع الدرجات ومحو السيئات ومغفرة الخطيئات. خامسها: صلوات الله ورحماته وهدايته: {وبشر الصابرين . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}(البقرة: 155 157) سادسها محبة الله لهم: {والله يحب الصابرين}. سابعها: العوض في الدنيا والخلف في الآخرة فأما في الدنيا فيجعلهم أئمة الهدى {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون}. وأما في الآخرة: لهم جنات عدن يدخلونها.. قال تعالى: {إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون}.
فاللهم إنا نسألك العافية في الدين والدنيا والأخرة، فإن ابتلينا فألهمنا حسن الصبر على بلائك، والرضا بقدرك وقضائك.. يا خير المسؤولين.