ضمن هذه المقالة السادسة عشر من سلسلة "أخلاق الإسلام وسلوكيالت المسلم"، سنقف اليوم مع خلق آخر لا يقل أهمية عن باقي الأخلاق التي وقفنا معها فيما سبق. هذا الخلق يحتاجه جميع الناس لأن الحياة لا تتأتّى بدونه، إنه خلق "الصبر". إن وجودنا على هذه الأرض ليس بالصدفة ولا بالعبث وليس كذلك من أجل المتعة فقط، وإنما من من أجل الاختبار والابتلاء. فكل إنسان -مهما كان دينه ومنصبه ووضعه في الحياة- لا بد سيبتلى ويختبر. أما العيش في بحبوحة النعيم التام دون ابتلاء ودون منغّصات، فهو لأهل الجنة وليس لأهل الدنيا. فالدنيا دار ابتلاء واختبار وليست دار جزاء وقرار، يقول الله تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) المؤمنون:115. ويقول جل من قائل: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ) الإنسان:02 صنوف البلاء هذه، تفرضها أيضا طبيعة العلاقة التي تربط المؤمن بربه، أعني علاقة الإيمان. هذا الإيمان، لا يتمحص إلا بالابتلاء، وعلى إثر الابتلاء، ينكشف الصادقون من الكاذبين والمؤمنون من المنافقين والراضون من الساخطين والصابرون من الجازعين، يقول تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) العنكبوت:02. وما دامت طبيعتة الحياة وطبيعة الإيمان تقتضيان الابتلاء والاختبار، فعلى المسلم أن يوطن نفسه وأن يكون مستعدا لذلك، متسلحا بكثير من الصبر بعد الاحتماء بحول الله وقوته. هذه الابتلاءات، عندما يريد الله أن يصيب بها أحدا أو نفرا من خلقه، فإنه لا يستشير سبحانه وتعالى في ذلك مع الشخص المعني بالابتلاء ولا مع غيره في اختيار وقت الابتلاء ولا نوعه ولا مدى قوته. ولا يستشير الله كذلك أحدا في اختيار من سيكون هدفا لهذه الابتلاءات. فسهام البلاء تطال الغني والفقير، الصغير والكبير، الصالح والشرير والصعلوك والأمير. لا تراعي الأحول ولا الظرف، ولا تستأذن من أحد بل تأتي رغم الأنوف. تطال من كان ضاحكا أو باكيا ومن كان لها مستعدّا أوعنها لاهيا، كل ذلك حسب علم الله المحيط وحكمته البالغة. بل ربما تصيب سهام البلاء الأخيار أكثر وأشد من الأشرار، فعَنْ سَعْد بن أبي وقاص رضي الله عنه قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً ؟ قَالَ : "الأَنْبِيَاءُ , ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ , فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ , فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ" (الترمذي). ليس معنى هذا أن المؤمن يرتجي البلاء ويسعى وراءه، كلا، فسؤال الله العفو والعافية مما علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن، هذا مجرد تذكير بحقيقة الحياة الدنيا وبحقيقة الإيمان، كي نستعد للبلاء وفجأة الأقدار. ومتى قضى الله أن يبتلي عبدا أو عبيدا من عباده، فلن يملك لهم أحد غير الله ضرا ولا نفعا. فلا أحد قادر على أن يمسك رحمة أراد الله بها أحدا ولا أن يكشف ضرا مسّ الله به عبدا. ولسان حال المؤمن في هذا كما عبر عنه الشاعر بقوله: يامن ألوذ به فيما أؤمله **** ومن أعوذ به فيما أحاذره لا يجبر الناس عظما أنت كاسره **** ولا يهيضون عظما أنت جابره وهذا مصداق قول الله تعالى: (وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ۖ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ۚ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) يونس: 107. وما دام الابتلاء سنة من سنن الحياة ولازما من لوازم الإيمان، فلا بد من حسن التعامل معه، ولا يكون ذلك إلا بالصبر. لا بد إذا من الصبر في مواجهة البلاء. فبدون صبر، لن نكسب أي رهان وبدون صبر سنخسر في أي امتحان. فالحفاظ على الصلوات المفروضة في أوقاتها طول الحياة مثلا، يحتاج إلى صبر، والصيام وخاصة في فصل الصيف حيث الحرارة وطول النهار، يحتاج إلى صبر، وهكذا القيام بكل الواجبات كالحج والزكاة... ثم إن ترك الشهوات واجتناب المحرمات -والنفس تميل إليها- أيضا يحتاج إلى صبر. ونحن نعلم أن الجنة إنما تدرك -بعد رحمة الله وتفضّله- بترك المحرمات وامتثال الطاعات، وهذا الأمر لا يتم بدون صبر. وبالتالي، فدخول الجنة والنجاة من النار رهين بالصبر. فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لما خلق الله الجنة، قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال: أي رب، وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، ثم حفّها بالمكاره، ثم قال: يا جبريل اذهب فانظر إليها فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال: أي رب، وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد، قال: فلما خلق الله النار، قال: يا جبريل اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال: أي رب، وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فحفها بالشهوات ثم قال: يا جبريل اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، ثم جاء، فقال: أي رب، وعزتك لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلا دخلها "(الترمذي وأبو داود والنسائي). ولأهمية هذا الخلق، فقد تم ذكر كلمة الصبر بختلف مشتقاتها أكثر من مائة مرة في القرآن الكريم. وتكررت بذلك الآيات التي يأمرنا الله فيها بالصبر ويبين فضائله. يقول الله تعالى مثلا في الحث على الصبر والأمر به: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) آل عمران:200. ويقول جل شأنه في فضل الصبر وفي جزاء الصابرين: ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) الزمر:10. وأما في السنة النبوية، فقد تكرر الحث عن الصبر وبيان فضله أيضا في عشرات الأحاديث، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم حتى نفد ما عنده فقال لهم حين أنفق كل شيء بيده: "ما يكن من خير فلن أدخره عنكم ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله ومن يتصبر يصبره الله وما أعطى أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر" (البخاري ومسلم ). ففي هذا الحديث، يبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الصبر نعمة عظيمة من نعم الله لا تضاهيها أية نعمة. فهنيئا للصابرين والصابرات بهذا العطاء الذي لا يعدله عطاء. وفي نفس الحديث، يرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم كذلك إلى أن من يتصبّر (أي من يرد الصبر ويحاول التخلق به) يصبّره الله. وهذه دعوة من الرسول صلى الله عليه وسلم لنا جميعا لندرب أنفسنا ونمرّنها على التخلق بالصبر، فالإنسان قادر على تعلّم الصبر وكسبه إن هو تصبّر كما بين النبي صلى الله عليه وسلم. لنصبر إذاعلى القيام بالواجبات ولنصبر على ترك المحرمات ولنصبر على ما قد يصيبنا من ابتلاءات. ولنستحضر دائما أننا مأجورون -بفضل الله وكرمه- على كل هذه الابتلاءات، متى صبرنا عليها واحتسبنا الأجر عند الله. قال رسول الله صلى الله وسلم: "ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه " (رواهالبخاري و مسلم). نعم، أي تعب مادي أو معنوي -بغض النظر عن سببه- إلا سيؤجر عليه المسلم الصابر المحتسب. ومن ذلك ما قد يحصل للإنسان من مشقة وتعب أثناء دراسته أو أثناء عمله أو داخل أسرته، حتى ما يحمله المسلم من هم بغية إصلاح أسرته وتربية أولاده، يدخل في هذا الإطار. وكلما عظم البلاء عظم الأجر عند الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاءِ، وإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ، فمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ" (الترمذي). وقال أيضا: "يقول الله تعالى: (ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة)" (رواهالبخاري) . ويقول الله تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) البقرة155-157. جعلني الله وإياكم من الصابرين.