جرت سُنَّة الله تعالى كما قضت حكمته أن يجعل معجزة كل نبي من جنس ما يُتْقِنُ قومه ويتفوَّقون فيه، ولما كان العرب قوم بيان وبلاغة، كانت معجزة النبي صلى الله عليه وسلم الكبرى والعظمى هي القرآن الكريم، ومع ذلك فرسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر الرسل معجزة، وأبهرهم آية، فله من المعجزات الحِسِّيَّة ما لا يُحَدُّ ولا يُعَدُّ، وقد أُلِّفت في معجزاته المؤلفات الكثيرة، وتناولها العلماء بالشرح والبيان. قال ابن تيمية : " وكان يأتيهم بالآيات الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم ، ومعجزاته تزيد على ألف معجزة، مثل انشقاق القمر وغيره من الآيات".
وقال البيهقي: "بلغت ألفًا".
وقال ابن حجر: " وذكر النووي في مقدمة شرح مسلم أن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم تزيد على ألف ومائتين".
وهذه المعجزات الحِسية بعضها ثابت بالقران الكريم نصا: كالإسراء، وانشقاق القمر، أو بالإشارة إليه كالمعراج، وبعضها ثابت بالأحاديث الصحيحة المروية في الصحيحين وغيرهما من كتب السنن، ولا يطعن في كونها معجزات أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتحدّ الناس بها كما تحدّاهم بالقرآن الكريم، لأن فريقا من العلماء لا يشترط في المعجزة أن تكون مقترنة بالتحدي، ثم إن بعضها وإن لم يقع التحدّي به صراحة، لكنه في قوة المُتحَدّى به، والإمامان البخاري ومسلم وهما مَنْ هما، دقة وتحريا عن الرجال، وتشدّدا في الحكم بالتصحيح قد خرّجا في صحيحيهما أحاديث كثيرة منها، والأقدمون من المؤلفين في السِيَّر والتاريخ ذكروا في كتبهم الكثير من المعجزات الحسية للنبي صلى الله عليه وسلم ، وإنِ اختلفوا في ذكرها قلّة وكثرة، وابن إسحاق - شيخ كتاب السّير وعمدتهم - ذكر منها الكثيرمع قرب عصره من عصر النبوة، وقد لقي الكثيرين ممن أخذوا العلم والحديث عن الصحابة العدول وروَى عنهم.
بدعة الاكتفاء بمعجزة بالقرآن الكريم:
ابتدع هذه البدعة السيئة - وهي الاكتفاء بمعجزة بالقران الكريم - المستشرقون، ثم سرت عدوى هذه البدعة إلى بعض المعاصرين، ومِن هؤلاء من يتلطف فيقول: إنه ما دام القرآن الكريم معجزة كبرى وآية دالة ظاهرة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم ، فنحن في غِنى به عن غيره من الآيات والمعجزات، ولا سيما أن بعضها كما يزعمون لم يثبت إلا بالطرق التي لا تفيد اليقين مثل ما ورد في القرآن الكريم، ومنهم من يجاهر فينكر المعجزات الحسية جملة!!.
واستدلَّ بعضهم بقوله صلى الله عليه وسلم : ( ما مِنَ الأنبياء نبي إلا أُعْطِىَ ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أُوتيتُ وحيا، أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة ) رواه البخاري.
والحقيقة أن هذا الاستدلال ليس في محله، ويؤكِّد ذلك ابن حجر في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : (وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ الله إِلَيَّ)، فيقول: " أي إنَّ معجزتي التي تحدَّيت بها (الوحيُ الذي أُنزل عليَّ) وهو القرآن، لِمَا اشتمل عليه من الإعجاز الواضح، وليس المراد حصر معجزاته فيه، ولا أنه لم يُؤْتَ من المعجزات ما أُوتِي مَنْ تقدَّمه، بل المراد أنه المعجزة العظمى التي اخْتُصَّ بها دون غيره، لأن كلَّ نبي أُعْطِيَ معجزة خاصَّة به لم يُعْطَهَا بعينها غيرُه، تحدَّى بها قومه، وكانت معجزة كل نبي تقع مناسِبة لحال قومه".
وهذه البدعة السيئة ( الاكتفاء بمعجزة القرآن الكريم ) جعلت بعض المبشرين والمستشرقين يطعنون في قدْرِ النبي صلى الله عليه وسلم وتفضيل غيره من الأنبياء عليه، بحجة أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس له من المعجزات الحسية المتكاثرة ما لموسى وعيسى وداود وغيرهما من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .
قال ابن القيم بعد أن ذكر معجزات موسى وعيسى عليهما السلام : " وإذا كان هذا شأن معجزات هذين الرسولين مع بُعْدِ العهد وتشتت شمل أمتيهما في الأرض وانقطاع معجزاتهما، فما الظن بنبوة مَنْ معجزاته وآياته تزيد على الألف والعهد بها قريب، وناقلوها أصدق الخلق وأبرهم ، ونقلها ثابت بالتواتر قرنا بعد قرن".
وقال ابن حجر في فتح الباري: " .. عن الشافعي قال : ما أعْطى الله نبيا ما أعطى محمدا صلى الله عليه وسلم ، فقلت: أعطى عيسى إحياء الموتى، قال: أعطى محمدا حنين الجذع حتى سمع صوته، فهذا أكبر من ذلك".
ويقول ابن كثير: " وأمّا تسبيح الطير مع داود عليه السلام فتسبيح الجبال الصمّ أعجبُ مِن ذلك .. ولا شكّ أنَّ صدور التسبيح من الحصا الصغار الصمّ التي لا تجاويف فيها أعجبُ مِن صدور ذلك من الجبال لما فيها من التجاويف والكهوف، فإنَّها وما شاكلها تردّد صدى الأصوات العالية غالباً، ولكن من غير تسبيح، فإنَّ ذلك ( أي تردادها بالتسبيح ) من معجزات داود عليه السلام ، ومع هذا كان تسبيح الحصا في كفِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان أعجب".
ويقول ابن حجر: " وأما ما عدا القرآن من نبع الماء من بين أصابعه وتكثير الطعام، وانشقاق القمر، ونطق الجماد، فمنه ما وقع التحدّي به، ومنه ما وقع دالا على صدقه من غير سبق تحدّ، ومجموع ذلك يفيد القطع بأنه ظهر على يده صلى الله عليه وسلم من خوارق العادات شيء كثير .. وإن كانت أفراد ذلك ظنية وردت مورد الآحاد، مع أن كثيرا من المعجزات النبوية قد اشتهر وانتشر، ورواه العدد الكبير، والجم الغفير، وأفاد الكثير منه القطع عند أهل العلم بالآثار، والعناية بالسير والأخبار".
لقد أجرى الله تعالى على أيدي أنبيائه ورسله من المعجزات الباهرات والدلائل القاطعات التي تدل على صدق دعواهم أنهم رسل الله .. وقد أيد الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالعديد من المعجزات الدالة على صدقه ونبوته، وعلو قدره وشأنه، وكان أعظمها على الإطلاق القرآن الكريم، إلا أنه لا يمكن لِمُنصف تجاهل باقي المعجزات الحسية والأمور الخارقة للعادة التي شهدها الصحابة الكرام بأعينهم، ورووها لمن بعدهم، والتي تمثلت في سلسلة مضيئة من المعجزات والأمور الخارقة للعادة، التي كان لها الأثر البالغ في نفوسهم ونفوس المسلمين من بعدهم، مِنْ معرفة عِظم قدر ومنزلة نبيهم، مما يزيد من إيمانهم به، وحبهم وطاعتهم له صلى الله عليه وسلم .
فعلى المسلمين والدعاة منهم أن لا يتنصلوا من ذكر هذه الخوارق والمعجزات التي أكرم الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم ، بل يذكروها لأولادهم، وفي دروسهم وخطبهم، ما دامت ثابتة بالسنة النبوية الصحيحة.