شهدت الأبحاث الأكاديمية في الغرب خلال العقود الأخيرة تبلور منهج دراسي لافت، لقي حظوة بين العديد من الباحثات والدارسات ممن ينتمين إلى الأوساط الدينية عُرف باسم "اللاهوت النسوي". تعلّق بمعالجة قضايا المرأة في كافة تشعباتها التاريخية والدينية والمؤسساتية، بوصف ذلك اللاهوت تأملا لنساء مسيحيات في سياق الدين والحياة في ضوء الإنجيل. صاغت رائداته العديد من الرؤى المعرفية والدينية بقصد بناء تصورات جديدة في معالجة قضايا المرأة. فبعد حضور دوني في الكنيسة امتدّ قرونا، لم تسنح الفرصة للتنديد بحياة القهر التي ترزح تحت وطأتها المرأة، سوى مع مطلع ستّينيات القرن الماضي. حيث شكّل الكتاب المرجعي لفاليريا غولدستاين 1960، "أنا مرأة وأدرُس اللاّهوت"، قطعا مع اللاّهوت الرّجالي وتدشينا لمرحلة جديدة عُرِفت باسم اللاّهوت النّسوي. ومنذ ذلك العهد تناسلت المؤلفات والأبحاث حتى غدت تيارا شائعا له أنصاره داخل الأوساط الدينية وخارجها. كتاب تيريزا فوركادس "اللاهوت النسوي" الذي نتولى عرضه هو متابعة تاريخية وتحليلية لتطورات ذلك المسار الفكري، من تأليف إحدى المنشغلات بهذا اللاهوت، وهي راهبة ودارسة لاهوت تحمل شهادتي دكتوراه في اللاهوت والطب. عُرِفت تيريزا فوركادس بالتزامها النضالي على جبهتين: بقضايا إقليم كاتالونيا في إسبانيا حيث نشأت وبقضايا النسوية داخل الكنيسة وخارجها. تروي فوركادس في القسم الأول من كتابها تاريخ الدونية الذي تعرضت له المرأة داخل حيز المؤسسات التابعة للكنيسة، وما عانته المرأة المؤمنة من تهميش من قِبل مؤمنين، بوعي وبدون وعي. مبرزة الكاتبة أن الحركة النّقدية المستلهِمة للكتاب المقدّس في مراجعة السائد الديني قد لفتت الانتباه نحو القضايا النّسوية، منذ ما يربو عن القرن، ولكنها ما كانت بذلك الإصرار والتركيز والوضوح حتى
فترة قريبة. فقد سبقت تدعّم الحركة إرهاصات تمثّلت في البدء بنشر مؤلَّف نسويّ جماعي سنة 1895 برعاية إليزابيث ستانتون بعنوان: "الكتاب المقدّس النّسوي"، وهو عبارة عن شروحات لمنتخبات من الأسفار المقدّسة متعلّقة بالمرأة. لِتلي ذلك في الفترة المعاصرة محاولة جادة في إطار بلورة نقد نسوي لأصول العهد الجديد مع شوسلر فيورانسا، في مؤلّفها "مذكّرات" (نيويورك 1983). ففي ضوء التأويلية المستحدثة، أعادت فيورانسا ملامح حركة المساواة الأصلية إلى يسوع. ودائما ضمن المدخل التاريخي نفسه تستعرض الكاتبة الحضور المتواصل، والخافت في بعض الأحيان، لشخصيات نسائية رمزية عملت على إثارة قضايا المرأة الدينية أكان بالمطالبة في حقها التعليمي أو بالمناداة لمنحها دورا أفضل في الكنيسة. وبحلول الفترة المعاصرة بات اللاهوت النسوي حائزا على اعتراف في أوساط الدراسات الأكاديمية، بوصفه خطا متميزا على غرار "اللاهوت الأسود" و"لاهوت التحرر".
في القسم الثاني المخصص لمتابعة الطروحات النسوية ورصد قضاياها، وهو القسم الأهمّ من الكتاب، تتحول فوركادس إلى تناول المسائل الملحة في اللاّهوت النّسوي، التي لا تقتصر على المطالبة بالمساواة التامة والشاملة بين الرجل والمرأة، بل تنادي بإلغاء الأحكام الجنسانية في الحياة المدنية وفي الحياة الكنسية أيضا. حيث يرْشَح هذا الوعي من تطلّع إلى تحوير جذري للأسس اللاّهوتية للوجود، بدءا من صورة الله، التي لا تزال رهينة الثقافة الذكورية إلى كشف خبايا مواقع السلطة في المؤسسة الدينية وما تتوارى خلفها من مصالح. يَبرز هذا الوعي الجديد مدفوعا بالعودة إلى لغة استيعابية، تستند إلى الكتاب المقدّس بقصد توظيفها في اللّيتورجيا، بما من شأنه أن يساهم في إلغاء التمييز الجنساني. تشحذ هذا التوجه قراءة مستجدّة للذّاكرة داخل التاريخ الرّسمي، المدوَّن من قِبل المنتصرين، الرّجال. فاللاهوت النسوي هو سعيٌ للكشف عن الواقع المطموس والمقموع للطّرف الأنثوي. ذلك أن الأنساق الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، التي تطوّرت عبر الزمن في الغرب، قد رهنت المرأة داخل حالة من الخضوع والاستغلال، كما تقول فوركادس، سُخِّرت فيها لحاجات الذَّكَر ورغباته. لذلك يظهر اللاّهوت النسوي بمثابة مراجعات في التصورات الدينية التي تعتبر المرأة أقل أهلية من الرجل في الحديث عن الله، وفي تولي المهام الطقوسية أو تسيير المؤسسات
الدينية. إنه نظرية نقدية تحرّرية للجموع المؤمنة وليس للشقّ الأنثوي فحسب، يصبو إلى إصلاح صورة الألوهية الذّكورية، بغرض إعانة الذّكر، في ضوء تعاليم الإنجيل، للإقرار بالمكوّنات الأنثوية في كيانه، حتى تعبّر المرأة عن ذاتها كشخص، لأن كلاهما –المرأة والرجل- إنسان بحسب إرادة الله المتجلّية فيهما.
تجلى هذا التمشي اللاهوتي المحدَث في مساعي التخلص من سلطان الكنيسة الحاضر بقوة في الشأن السياسي، وهو ما خاضت هوبرتين أوكلارر (1914-1848) نضالات مبكرة ضده للمطالبة بحق الاقتراع للنساء، كرد فعل على الرؤية الكاثوليكية الذكورية النافذة في بعض المجتمعات الغربية. كما تجلى أيضا في المسائل التشريعية المتعلقة بالزواج والطلاق والإجهاض وهو ما يتحكم في بنية الأسرة عامة. تُبرز فوركادس أن ذلك الخصام بين المرأة والكنيسة في الغرب قد تركّز في جملة من المسائل، ظهر بالخصوص في الدول التي عانت من الرؤى الكنسيّة الكاثوليكية في التعليم وفي الشأن الأسري، لا سيما في جنوب القارة الأوروبية مثل إيطاليا وإسبانيا. فعلى سبيل المثال لم تنل المرأة الإيطالية حق الطلاق سوى مع قانون "فورتونا باسليني" 1970، وهو حق طبيعي لم تفتكه سوى في مرحلة متأخرة. فالتقليد الكاثوليكي يَعدّ الطلاق عامة ولا يزال إثما وخطيئة بناء على ما يرد في الكتاب المقدس "فأجاب وقال لهم: أما قرأتم أن الذي خلق من البدء، خلقهما ذكراً وأنثى وقال: من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكون الاثنان جسداً واحداً؟ إذاً ليسا بعد اثنان، بل جسد واحد. فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان. وجاء في إنجيل متى (9: 19) أيضا "فسألوه: لماذا أوصى موسى بأن تُعطى الزوجة كتاب طلاق فتطلّق؟ أجاب: بسبب قساوة قلوبكم سمح لكم موسى بتطليق زوجاتكم. ولكن الأمر لم يكن هكذا منذ البدء. ولكني أقول لكم: إن الذي يطلق امرأته لغير علة الزنى ويتزوج بغيرها فإنه يرتكب الزنى، والذي يتزوج بمطلقة يرتكب الزنى"، بناء على أن ما جُمِع في الأرض لا يفرق إلا في السماء. وبإلغاء هذا الحق الطبيعي انجر إفساد من نوع آخر للحياة الأسرية. إذ صحيح أن الطلاق مضرة ولكن منْعه، وفق فوركادس، يغدو أحيانا مفسدة أشد وأقوى.
من جانب آخر تُبرز فوركادس أن مطلب تصحيح دور المرأة في مجتمع الكنيسة لا زالت الراهبة دون بلوغه، مع أن هناك إلحاحا من جانب العديد من اللاهوتيين واللاهوتيات لإدخال تحويرات في هذا المسار. حيث لا يزال مفهوم النسوية مصطلحا محرِجا في الأوساط الكنسية لما يستبطنه من مراجعات ودلالات عميقة توحي بالرفض والنقد والتصحيح والثورة أحيانا. ثورة من جانب المرأة في مقابل الرجل، وثورة للمرأة على المفاهيم المغلوطة التي سادت وباتت واقعا مترسخا. لكن النسوية المؤمنة وفق فوركادس هي بالحقيقة وعيٌ ذاتي جديد يشمل كل ما يتعلق بالمرأة، وقد ولّدت تلك الحاجة تطورات حصلت في الاجتماع الحديث هدفت إلى مراجعة أنظمة السلطة التقليدية، لا سيما منها السلطة الدينية التي تبقى مقاليدها بحوزة إكليروس ذكوري متمثل في الكنيسة، وسائرة وفق رؤى ذكورية متمثلة في اللاهوت، بات كلاهما يزعج المرأة كشريك في الدين وفي الوجود.
في القسم الثالث والأخير من الكتاب المخصص لتأصيل المسألة لاهوتيا تبرز فوركادس أن اللاهوت النسوي في المسيحية لم ينشأ من عدم، بل وجد في التراث الديني سندا ودعما، وبالمثل أيضا خذلانا وعائقا، لذلك اقتضت الأمور تدشين قراءة أنثروبولوجية متأنّية تقطع مع القراءة الأيديولوجية، بغرض بناء رؤية نقدية ما بعد أيديولوجية. إذ بالتمعن في التجربة المسيحية المبكرة للمسيح (ع) مع المرأة، كما تستعرضها فوركادس، نلحظ تطويرا وتجديدا متمثّلين في رد اعتبار للمرأة والتعاطي معها ككيان حرّ مكرَّم، بعد أن كانت مبعَدة عن المعبد أو في عداد الكائنات النجسة، وهو ما استلهمه المسيح من روح الناموس القديم الذي يضع المرأة جنب الرجل في تلقي رسالة الروح القدس وفي تولي مهمّة البشارة والرسالة، إلى حدّ الحديث عن المرأة الحَوارية على غرار الرجل الحَواري، أو بتعبير مسيحي "رسولة" على غرار (يونياس) الوارد ذكرها في "الرسالة إلى مؤمني روما" (16: 7). لكن ذلك الموسم الإيجابي في تاريخ المرأة المسيحية كان خاطفا، سرعان ما عادت إثره المرأة إلى رهن المجتمع بغياب نبي الله عيسى. ففي "الرسالة الأولى إلى مؤمني كورنثوس" (14: 34) إعلانٌ فجّ بشأن حضور المرأة، يأتي بشكل صارم ليحدّ من حضورها، يأمر بمقتضاه النساء أن يخرسن في الكنائس، فليس مسموحا لهن أن يتكلمن، بل عليهن أن يكنّ خاضعات. والأمر ذاته
يتكرر في "الرسالة إلى مؤمني أفسس" (5: 23-22) "أيتها الزوجات اخضعن لأزواجكن كما للرب، فإن الزوج هو رأس الزوجة كما أن المسيح هو رأس الكنيسة".
تُبرز فوركادس أن مرحلة النضج في اللاهوت النسوي قد أطلّت، مع أن حقل الأبحاث في المجال مازال مشرعا على طرح العديد من القضايا الحساسة. ويتجلى هذا النضج في سعى اللاهوت النسوي إلى القطع مع أجواء التوتر التي تصاحب معالجة المواضيع المتعلقة بالمرأة في النص المقدس والنظر إليها بعقل هادئ وروح إيمانية سمحة بغرض بلوغ فهم ميكانيزمات النص خارج أجواء التوتر التي عادة ما تخيم عند تناول هذه المباحث. وبالتالي بعد قرون من هيمنة التأويل الذكوري للنص المقدس يبدو حتى الذكور في حاجة إلى التعرّف على المغامرة النسوية مع النص ترقبا لرؤية مكتملة في النص المقدس.
وفي تناول فوركادس للتطورات الحاصلة في الفكر المسيحي تُبرز أن الأوساط البروتستانتية الأنغلوسكسونية كانت رائدة في ترسيخ مطالب النسوية الحديثة، في مقابل تحفظ الأوساط الكاثوليكية. لكن تلك التطورات ما فتئت أن اكتسحت الأوساط الكاثوليكية أيضا في فرنسا وألمانيا، غير أن الدور القيادي لذلك اللاهوت بقي محصورا في الأوساط اللوثرية.
خلال العام 1966 صادق مجمع الكنيسة الإصلاحية في فرنسا رسميا على دخول المرأة المجالس الراعوية، وقد تجلى ذلك الدور في تولي المرأة مهام قيادية في المجلس الوطني لنساء فرنسا البروتستانتيات. أوضاع التحرر في الأوساط البروتستانتية انعكس تأثيرها على الأوساط الكاثوليكية، حيث هجرت العديد من النساء الكنيسة الكاثوليكية عقب صدور وثيقة (Humanae Vitae) سنة 1966، وهي عبارة عن ملخص لمرسوم البابا بولس السادس بشأن الأسرة. في المقابل دبّ حراك في الأوساط النسوية الكاثوليكية تجلى في أنشطة الحركة الفرنسية البلجيكية "نساء ورجال في الكنيسة" التي نادت بتوظيف روح تعاليم مجمع الفاتيكان الثاني لكسب حقوق جديدة للمرأة في مسعى لترسيخ المساواة بين الجنسين. وتلخصت مطالب ذلك المسعى في كتاب بعنوان "ماذا لو تمّ تصعيد المرأة إلى دور قيادي في الكنيسة" صاغته الفيلسوفة رينيه ديفور رفقة مجموعة من اللاهوتيات في الجامعة الكاثوليكية في ليون، عالجن فيه ارتباط مسألة الذكورية بالكهانة. تقول
فوركادس معلقة: "لقد تواجد اللاهوت النسوي منذ بواكير لاهوت الآباء (آباء الكنيسة) وإن تضمن مواقف في منتهى التحقير للمرأة تلخصت في قولة ترتوليان الشهيرة "أنتِ باب الشيطان!". وعلى العموم تطور هذا التوجه داخل الأوساط الكاثوليكية النسوية التي باتت أكثر حدة في انتقاد الرؤى الكنسية المحافظة تجاه المرأة، وإن لم تحدث انشقاقات لافتة داخل الأوساط النسوية فقد ترسخت الانتقادات، التي دنت من المواقف العلمانية المغالية أحيانا، رافعة شعار "لا للمغادرة ولا للصمت".
والجلي أن النضالات داخل الكنيسة قد وجدت دفعا معنويا وأرضية مؤسساتية في تشريك 23 مرأة (10 راهبات و13 علمانية) كمستمعات في مداولات أشغال مجمع الفاتيكان الثاني (1962-1965) بشأن الأسرة. عُدَّ ذلك مكسبا ثمينا ينبغي البناء عليه وتطويره، وهو ما تجلى في المؤتمر اللاهوتي الدولي المنعقد بروما سنة 2012 الذي شاركت فيه 220 مرأة متخصصة في اللاهوت من 23 دولة. ودائما ضمن تأثير مشاركة المرأة في مداولات مجمع الفاتيكان الثاني، وإن جاءت صامتة، كانت ماريا لويزا ريغاتو أول مرأة تلتحق بالتعليم الجامعي في مؤسسة بابوية في روما لدراسة اللاهوت. حتى ذلك التاريخ كانت النساء الدارسات للاّهوت عصاميات. بات ذلك الحظر ذكرى بعد أن غدا أكثر المسجلين في كليات الدراسات اللاهوتية من الإناث. لكن تبقى الدراسة الدينية للمرأة حتى الراهن غير مؤدية إلى مناصب قيادية داخل الهرمية الكنسية، وإن فُسح المجال لهن لتولي مهام في الأعمال التطوعية والأنشطة الجمعياتية.
تتجلى أهمية كتاب فوركادس في تسليطه الضوء من الداخل على أوضاع المرأة المسيحية، وهو مؤلف جريء يلامس قضايا حساسة تحبّره منتمية إلى الأوساط الكنسية ما جعل الكتاب يلقى قبولا حسنا في الأوساط المدنية.