يعرف عن أخناتون فرعون مصر أنه كان موحدا أعلن ثورة على تعدد الآلهة التقليدية و أعلن كذلك الحرب على أسطورة أوزوريس إله البعث و الحساب عند قدماء المصريين الذي كان يمثل ثالوثا كلي القداسة: فهو رمز الشمس، و رب النيل و باعث الفيضان و مخصب الأرض، و هو كذلك ملك مملكة الموت، و هي الحرب التي خسرها الفرعون ضد الكهنة الذين دافعوا عن تجارتهم التي تمثلت في كتابة التعاويذ التي كان يفترض فيها إرشاد الميت إلى طريق الحياة الأبدية السعيدة و إرضاء أوزوريس لحضة المحاكمة الأخروية، حيث تآمر الكهنة عليه سرا مع الجنود فانتشرت الفوضى و تمردت البلدان، و هذا يبين بوضوح كون الكهنة مستعدون للقيام بأي شيء و كل شيء في حال تم المس برأسمالهم الذي يجعلهم يخدرون عقول الناس، و هي نفسها حال تجار الدين عبر التاريخ و التي تستمر إلى الآن، و قد بدا ذلك جليا خلال كلمة بنكيران الأخيرة أمام شبيبة حزبه في مؤتمرها الأخير و هو يذكرهم غير ما مرة بالحفاض على مرجعيتهم التي تمثل حسبه الأمان و الاستمرارية بالنسبة لهم و يحذرهم من أنهم سيزولون إذا تخلوا عنها، فخطاب بنكيران بصفة عامة كان يريد إيصال رسالة واحدة مفادها كونه و حزبه جاؤوا بحكم ديني ثيوقراطي ليخلصوا الناس و ليصلحوا لهم أمورهم الدينية و الدنيوية، و أنه هو الكاهن الأعظم الذي يكتب التعاويذ التي ستجعل أوزوريس يكون رحيما خلال المحاكمة الأخروية، و قد انقسمت كلمته إلى ثلاثة محاور أساسية : 1 - تبخيس دور باقي الكهنة :
فقد حاول بنكيران أكثر من مرة خلال كلمته التقليل من شأن خليفته العثماني و تقزيمه سواء بإضحاك الحاضرين عليه بقفشاته المعتادة التي لا تخلوا من همز و لمز حين قال مثلا أن العثماني رغم كونه " هزيل الجسد إلا أنه يعرف كيف يغضب " و أيضا حين تحدث عن كونه كان يحضى باحترام تام خلال اللقاءات التي جمعته بالملك إلا أنه لا يعرف إن كان نفس الشيء بالنسبة للعثماني " و حين قال بفضاضة " اسمحلي سي العثماني أنت تستحي( يقصد تخاف ) أما أنا فسأقولها بصراحة.."، و كلها رسائل مرموزة/واضحة كان غرضه منها أن يظهر نفسه كونه الكاهن الأعظم الذي لن يستقيم الحال بدونه و لن يرضى أوزوريس عن الناس دون تعويذاته و أن العثماني أو غيره لن يجيدوا لعب هذا الدور الذي يحتاج إلى معايير و شروط لا تتوفر إلا في شخصه.
2 - قارون يجر في ذيوله لعنة الهلاك :
لقد أصبح جليا من هو المنافس الأول لحزب العدالة و التنمية مستقبلا، فلا أحد يستطيع إنكار كون نجم أخنوش أصبح لامعا و كونه يحضى بثقة القصر و حضوة الملك و هو ما لا يخفى على بنكيران الذي انتقل من حديثه المشفر عن منافسيه بلغة التماسيح و العفاريت إلى الحديث بالأسماء لكون الأمور خرجت عن السيطرة و قد تلقى الإشارة بوضوح عن كون دوره انتهى و أن النظام يريد التخلص من حزبه و من كلفته، لذلك ركز بنكيران في جزء مهم من كلمته على شن حرب ضد عدو اليوم حليف الأمس دون مراعاة لمصلحة الحكومة التي يرأسها حزبه و التي يعتبر أخنوش أحد أهم أركانها، لقد تحدث عن هذا الأخير و كأنه قارون الذي تبعته لعنة الهلاك بسبب تجبره و مراكمته الثروة من عرق الفقراء و لذلك من الخطأ جعله يقود الحكومة المقبلة، و قد حذر أكثر من مرة خلال كلمته من زواج السلطة بالمال و كأنه و باقي الكهنة من حزبه ينتمون لفقراء الشعب و نسي و هو يتحدث عن من أصبحوا برجوازيين في ظرف 10 سنوات كونهم حققوا هذا الإرتقاء الطبقي في أقل من ذلك و أنهم كذلك يزاوجون بين السلطة و المال و لا يختلفون سوى في طبيعة رأس المال و الوسيلة المستخدمة لترويجه.
3 - الإعلان عن عودة المخلص :
لا يستطيع من استمع لكلمة شيخ الطريقة الذي فقد حتى الصفة التي تخول له إلقاءها تنظيميا ( لا يستطيع ) التغاضي عن كون السمة الأساسية التي طبعتها في مجملها هي بعث رسالة واضحة عن كونه تراجع عن الإعتزال السياسي و أنه ينوي العودة للعب مجددا في المرحلة المقبلة، فقد استهل كلمته بالقول لمريديه " بلغوا محبينا في كل مكان أنني بخير " و قال أيضا أردت الارتكان في بيتي إلا أنهم لم يتركوني " و حاول أن يوصل إلى الحاضر و الغائب رسالة أخرى عن كون شعبيته مازالت جارفة و تخول له العودة إرضاءا " لمن يدافع عنهم من فقراء الوطن " حين قال " تقصدني وفود من كل بقاع الوطن من المستضعفين إلا أنني حاليا أعمل على إيقافهم عن زيارتي " .
خلاصة القول أن من كان يضن أن بنكيران سيقبل بعودته للصفوف الخلفية و يقبل بكونه عضوا عاديا داخل حزب العدالة و التنمية فهو بالتأكيد خاطئ فالرجل مستعد للقيام بكل ما تقتضيه استعادته مكانته على رأس الحزب و رأس المشهد السياسي بالبلاد، فلا هو أو باقي الكهنة من حزبه يحملون أيديولوجية معينة أو يهتمون لانتصار برنامجهم في فرض حكم ديني ثيوقراطي بقصد شريف يرمي تخليص الناس و إصلاح شؤونهم، و هذا يبدو جليا من خلال ممارساتهم المتناقضة تماما مع ما يدعونه بل همهم شخصي بأن يعتلوا قمة المشهد لا أقل من ذلك و لا أكثر و لأجل ذلك فالكاهن الأعظم مستعد للتحالف مع الشيطان لبلوغ مبتغاه و شعاره في ذلك أنا و بعدي الطوفان.