إنّ أسوأ ما يجعلُنا لوحة مشوّهة من الخارج هو كمّ التناقضات التي نتقلّب فيها، ذلك أنّك بمُجرّد أن تعقد العزم بحُسن نيّة على تأمّل صورتك بالمرآة و من دون نوايا مُتطرّفة، ستكتشف أن بداخلك عوالمًا غريبة لن تقربها الفُتوحات يومًا ولن يفُكّ شفرتها "برايل" ولن تتأثّر بأحوال المُناخ خارج مدارك الجُغرافي ..وزخم الأمثلة التي يستطيع أن يؤكد بها المواطن أنّ نظريتي هذه صحيحة، أكبر من كلّ الإسقاطات التي من المُمكن أن أدرِجها قصدًا هنا، لكن ولأنّ لكلِّ قاعدة استِثناء .. فهناك ما أُسميه استثناء الاستثناء ..وهو ذلك النوع من التّناقضات التي تتحلّل في ذرّاتها لتجدك تضحكُ همّاً لا بسطًا.. تجعلُك تُفكّر أن الذكاء وحده لا يكفي وأن حبوب الأسبرين وكبسولات "دوليبران" لا تُشفي وأن الكائن العربيّ إن كان لا يهدي فلابدّ أنّ حاله يُبكي! فالآلاف كلّ عام في مثل هذا اليوم يحتفلون و يُقيمون ولائمًا شرسة لأمعائهم ويترنّمون بالمدح النّبويّ الذي يزور شاشاتنا مُحتشِما ويشترون ثيابا جديدة لأطفالهم ويتبادلون الحلوى والتبريكات كما يتبادلُ الكثير منهم وشائج الإخلاص لمولِد المسيح والاحتفال به أيضا.. فالمُواطن المغربيّ وفيٌّ للاحتفال أكثر من وفائه لأسباب الاحتفال، وهذا ما يجعل مدينتِي مستعدّة لاحتضان جميع أنواع الاحتفالات بغضّ النظر عن مرجعيّتها وبصرف النّظر عن رسالتها.. فاليوم يحتفل المغاربةُ بذكرى المولد النّبوي والأحد القادم سيحملون المشعل في اليوم العالمي للأديان والشَّهر القادم سيحمِلون الوُرود الحمراء في الڤالانتاين .. وهكذا.. والغريب أنّنا نتوقّف عند إشارة " قف " بناصية الشّارع ولا نتوقّف عند بعض الإشارات لنتساءل..كيف نحتفل ولا زال لسانُنا حشو بُندقية وصلة الرّحم بيننا صارت سحابة صيفيّة، كيف نحتفلُ ولا زال البعضُ يتصدّق ويمنُّ والبعض الآخر لا يُزكِّي وفوق ذلك يشتَكي.. كيف ندّعي حُبّ سيّد الخلق ولا زلنا نترُك الفرض ونغتابُ البعض ونخونُ العهد.. هل تكفي الحلوى والفاكهة المُجفّفة والمديح النّبويّ لنُجدّد الحبّ؟ هل فكّرت يوما أن تتخلّق بخُلق النّبي.. فتكونُ ابتسامتُك تحيّتك وحسن ظنِّك بالآخرين عادتك، هل سبق واستوقفت أحدهُم بالشارع وأخبرته أنّك تُحبّه في الله.. هل حدث أن شاركت مُتسوِّلا طعامك أو منحتهُ هديّة صغيرة من حقيبتك.. هل سبق وضايفت فقيرًا بما تُضايف به ضيوفك الأغنياء أو قابلت السُّوء من أحدهم بالحِلم منك، هل عفوت عن من غرز يوما رمحًا في صدرك أو تعلّمت الاعتذار ممّن آذيته.. هل تحكُم على الآخرين وترسلهم لجهنّم بأحكامك المُعدمة ومُستعدّ في أيّ لحظة لخوض حروب كلامية أو يدويّة من أجل أسباب تافهة.. هل جرّبت أن تكون مثالا لفرد من أُمّة محمد أم أنّك جرّبت فقط الاحتفال بذكرى مولِد محمّد! إنّ محمّدًا صلوات الله وسلامه عليه لن يسُرّه أن نحتفل به إن لم نُحسن الاحتفال بتعاليمه.. فإن نحنُ منحنا أنفُسنا فرصة إلقاء نظرة بانورامية بريئة على حالنا من فوق، سنكتشفُ أن كل الحلوى والسّكاكر لن تُفلح في تحلية صورتنا الهجينة أمام سيِّد الخلق إن هو اطّلع على حجم التسيُّب الفكري والأخلاقي والاجتماعي الذي نتخبّط فيه.. لأنّ ما يجعلُنا حقا نستحقُّ الانتماء للأُمّة المحمّدية .. هو حسن الخلق الذي يكون بالأصل بوثقة كل شيء جميل! وفي الخَتم، الحبّ وحده ليس كافيا، هو ليس وصفة حُلوة أو حارّة، لا يعتمدُ على فلسفة اقتصاد الريع ولا تُقاس حرارته بترمومتر البشر.. هو مجموع ذرّات ميكروسكوبية يتنفّسها المرء بحياته!.