إذا كانت القضية خاسرة وأسندت لمحام فاشل،، فما عساها تكون النتيجة؟ لا شك أنها ستكون كارثية..
وهذا ما حصل للشيخ الفزازي في مناظرته مع الأخ رشيد، حيث تبنى قضية وجود إعجاز علمي في القرآن والسنة، ونصب نفسه مدافعا عنها ، فهيأ أوراقه، وحضّر وثائقه وحججه، وجاء إلى المناظرة ليُبين للعالم ما في القرآن والسنة من إعجاز علمي في تطور الأجنة الذي كان هو موضوع المناظرة ..
ولإيماني بما تمثله هذه المناظرة من أهمية على مستوى العالم العربي والإسلامي بكل طوائفه وشيعه،
وليقيني أيضا بما كان يهيئ لها أصحاب الإعجاز من دعاية صاخبة، ونشر وتوزيع على كل المواقع التي يهيمنون عليها، وملايين الصفحات التي يتشاركونها، ومن إطلاق للألسنة والتعليقات، فيما لو استطاع الشيخ الفزازي أن يُفحم الكافر المرتد، رشيدا المغربي، الذي فقد رشده بانسلاخه عن الدين الإسلامي الحنيف؛
فقد قدّرت حجم المسؤولية الكبيرة التي كانت ملقاة على عاتق الشيخ قبل المناظرة وأثناءها، وخاصة إذا عرفنا أنه سيكون في مواجهة رجل عنيد، مسلم سابق(Ex-muslim) ، ملم بالدين الإسلامي، ودارس لكتابه وسنة رسوله، القولية والفعلية،، وله برنامج تلفزيوني
عالمي مشهور، يقدمه أسبوعيا منذ عدة سنوات، جعله وقفا على نقد الدين الإسلامي والطعن عليه في أهم ركائزه، وهي القرآن والسنة والسيرة النبوية، مما يفرض على الشيخ الفزازي أن يتهيأ لهذه المناظرة بكل ما يستطيع من زاد وعتاد، وأن يكون محيطا إحاطة شاملة بموضوعها، ملما بتفاصيله من كل جوانبه العلمية والدينية، بداية من النطفة والبويضة إلى لحظة الولادة.
ولأنني أدرك أيضا بأن الخزانة الفرنسية غاصة بأهم المراجع الطبية المعروفة على المستوى العالمي، وبخاصة في علوم الأجنة، والحمل، والوراثة، والتشريح الطبي، التي تعتبر فرنسا من الدول الرائدة فيها
ولمعرفتي كذلك بأن الشيخ الفزازي يتقن اللغة الفرنسية بصفته مدرسا لها؛
فقد توقعت ساعةَ الإعلان عن المناظرة، أن يكون الشيخ قد نهل من تلك المراجع الفرنسية علما وفيرا، موثقا مضبوطا، وأنه استقى منها معلومات صحيحة دقيقة، وتوقعت أكثر من ذلك أن يكون قد وقف على أمر ما في هذا الموضوع، لم يسبقه إلى الانتباه إليه أي من الشيوخ الدعاة الذين تعرضوا له قبله ..
كما توقعت في نفس الوقت أن يكون الشيخ قد عاد إلى أمهات المصادر في علم الحديث والتفسير، وأعاد قراءة متونها المتعلقة بموضوع الحمل وتكوين الجنين ونموه، وأنه قد وقع على اجتهاد في تفسير آية أو حديث لم يُسبق إليه، يوافق ما أصبح يعتبر اليوم من الحقائق العلمية القطعية الثبوت ، سيفاجئ به الناس والعلماء في مناظرته، وسيعرضه بطريقة علمية تثبت أن القرآن والحديث كانا فعلا سباقين إلى كثير من الحقائق العلمية قبل أربعة عشر قرنا لأن مدار الإعجاز عندهم؛ هو القول بسبق القرآن والحديث النبوي إلى أي حقيقة علمية تكتشف في العصر الحاضر
كل هذا توقعته كما توقعه غيري، وقلوبنا معلقة عشرين يوما في انتظار ساعة النزال ..
إلا أن الشيخ الفزازي مع الأسف كذّب كل تلك التوقعات؛ حيث تبيّن للناس أنه لم يُعِدَّ للمناظرة شيئا يُعتد به؛ لا في جانبها العلمي، ولا في جانبها الديني.
فهو لم يَعُد في الجانب العلمي إلى أي مرجع أجنبي، أو محايد معترف به، يحتج به: فلا قدّم شيئا مقتبسا من بحث أكاديمي أو أطروحة جامعية، ولا أحال على كتاب لطبيب أو مختص معروف على الصعيد العالمي، ولا عرض لقطة من فلم وثائقي أنجزه فريق متخصص، لكي يجعل الناس يطمئنون إلى كلامه ويصدقونه ..
بل حتى في الجانب الديني، لم يرجع إلى المصدر الذي انتُزع منه ذلك الحديث المنكر الذي كان أولَ ما استشهد به حول جنس الجنين، وإنما اكتفى بأن استقاه هو وشرحَه من أحد
المواقع التافهة، ثم جاء إلى المناظرة ليقرأ على الناس ترهات ذلك الموقع وتفاهاته؛ دون أن ينتبه إلى أنه كان بذلك يطعن في القضية التي جاء ليدافع عنها، وأنه كان يؤكد لهم من حيث لا يدري أنها قضية خاسرة منذ البداية، أو حتى قبل البداية، لأنه لو كان قد وجد شيئا مما يخدم قضيته في المراجع العلمية الصحيحة المختصة، لكان قد استدل به؛ ولما التجأ إلى مواقع إلكترونية تافهة متهالكة يتكئ عليها، وينقل سخافاتها وأباطيلها، مما بيّنا بعضه في الحلقة السابقة، بوقوفنا على حديث ثوبان الذي يزعم أن يهوديا جاء إلى الرسول ليمتحنه، وبينتُ ما في قِسْمه المتعلق بالجنة وفقراء المهاجرين من دجل واستحالات، وإهانة لله وللرسول ولكافة المسلمين..(1)
وبما أن ذلك القسم من الحديث لم يكن هو الشاهد عند الفزازي، وإنما كان الشاهد عنده هو مقطعه الأخير الذي جاء فيه :
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد سألني هذا عن الذي سألني عنه، وما لي علم بشيء منه حتى أتاني الله به».
فهذا المقطع بالنسبة للشيخ الفزازي، هو موطن الإعجاز العلمي في تطور الأجنة وخلق الإنسان، ووجْهُ الإعجازِ فيه يتمثل في أن الحديث النبوي «يجعل المسؤولية عن تحديد جنس الجنين مشتركة بين الرجل والمرأة»، كما قال بالحرف (د. 34).
ولا جدال في أن هذا الكلام يعتبر اليوم ضلالا علميا فاحشا، حيث لم يعد أحد في عصرنا الحاضر يجهل أن المرأة لا دور لها في تحديد جنس الجنين، وأن الحيوان المنوي هو وحده المسؤول عن ذلك؛
ورغم كل ما قُدِّم في المناظرة من أدلة علمية مؤكدة تُجزم بأن الحيوان المنوي هو الذي يحمل صفة الذكورة أو الأنوثة (Y أوX ) في الكرموسوم 23 ، إلا أن الشيخ رفض أن يقر بهذه الحقيقة العلمية القطعية الثبوت، حتى لا يصيب الحديثَ الذي استشهد به في مقتل.
ولذلك فإنني أعتقد أن الشيخ لو كان قد رجع في هذا الحديث إلى مصدره ليستقيه منه، بدل أن يكتفي بأخذه من موقع تافه هجين، لربما كان قد أهمل هذا الحديث ولم يتورط فيه البتة،
لأنه كان سيجد في صحيح مسلم، وبالضبط قبل حديث ثوبان مباشرة، أربعةَ أحاديث (من 311 إلى 314)، كلها تتحدث عن ماء الرجل وماء المرأة، ولكن بمضمون يتعارض كلية مع حديث ثوبان، مع ما يميزها من خلوها من ذلك الدجل والهراء اليهودي، كما أنها لا تبعُد كثيرا عن العلم الصحيح، كما سنبين ذلك في حلقات مقبلة إن شاء الله .
لكن الذي يبدو لي هو أن الشيخ عندما كان يبحث في الأنترنيت عما يسعفه في مناظرته، وقع صدفة على موقع "الطب النبوي والتداوي بالأعشاب"، فوجد فيه هذا الحديث متبوعا بكلام مُبهم، زعم الموقع أنه لدكتور متخصص في علم الأجنة والتشريح، يفسر به الحديث النبوي ويبرز ما فيه من إعجاز علمي، فانبهر الشيخ به، واعتقد أنه وقع على ضالته، وأنه وجد حلا لضائقته، فحمل ذلك الكلام كمن يحمل أسفارا، ثم جاء به إلى المناظرة ليهُدّ به قلاع الكفر، ويفتح به معاقل المرتدين والعلمانيين والمنكِرين لقضية الإعجاز العلمي، ويُعيدهم إلى طريق الرشد والدين الصحيح، كما صرح بذلك وهو يوجه كلامه إلى الأخ رشيد قائلا : «وأنا أعتقد أن الكثير من النصارى والمتنصرين الذين تنصروا على يدك بالباطل ، الآن هذه الليلة سيسْلِمون إن شاء الله، وسيعودون إلى دين ربهم فرادى وجماعات» (د.61).
... حتى إذا أدرك شهرزادَ الصباح، استيقن الناس ممن تابعوا المناظرة، أن كل ما قدمه الفزازي من شروح وحجج على إعجاز الحديث النبوي المذكور، لم يكن في الواقع إلا ترهات وخزعبلات، وكلاما لا علاقة له بعلم ولا بشيء قريب من العلم؛ بل هو افتراء على العلم، جعل فيه ذلك الدكتورُ الوهميُّ جمال حمدان حسنين بويضةَ المرأة تتحول إلى بطارية تنتج تيارات كهربائيةً سالبةَ الشحنة مرة، وموجبةَ الشحنة مرة أخرى..؛؛ فتداخلت الأسلاك في دماغ الرجل، واختلطت الشحنات الإيجابية بالسلبية، وانقطعت الكهرباء ..
..انقطعت الكهرباء، وانطفأ نور العلم، ليحل محله ظلام الدجل والشعوذة التي هي أساس حجة الفزازي وأمثاله من الشيوخ الدجالين المهرطقين، لإثبات ما في القرآن والحديث من إعجاز علمي.. لم يقل به لا صحابي قبلهم ولا تابعي .
وإذا كانت هذه مصيبةً كبيرة في حد ذاتها؛ أن يعتمد العلماء على الترهات والأباطيل ليضللوا الناس ويقنعوهم بإعجاز القرآن والحديث، متذرعين بنُبل الغاية التي تبرر الوسيلة، إن كانوا فعلا صادقين، ولم يكن انخراطُهم في التهريج ونشر الدجل والشعوذة من أجل مطامع دنيوية باعوا بها دينهم وعلمهم ومبادئهم، فالرد عليهم يُجْمِله العلماء والفقهاء أنفسهم في أن كل ما بني على باطل فهو باطل؛؛
ومع ذلك فقد يهُون كل هذا أمام الكارثة العظمى التي يطرحها ذلك الحديث؛ كارثة أراها تضع الإسلام وعلماء المسلمين، من عصر النبوة إلى اليوم، وربما إلى ما يشاء الله، بين نارين حارقتين، هم عاجزون عن تحمل أي منها :
فإما أن يُكذبوا ما صح لديهم من أحاديث رويت عن الرسول عليه السلام
أو يرفعوا صفة النبوة عن محمد بن عبد الله ..
فأيهما يختار المسلمون؟
إن الكارثة العظمى التي يتضمنها حديث ثوبان، هي أنه ينسب ما فيه من جهل وجهالة إلى الله عز وجل، وحاشاه ذلك !!
فقد جاء في آخر الحديث قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((لقد سألني هذا (اليهودي) عن الذي سألني عنه، وما لي علم بشيء منه، حتى أتاني الله به.))
أي أن الله عز وجل هو الذي كان يجيب عن أسئلة اليهودي على لسان رسوله ، لأن النبي لم يكن يعرف الجواب قبل أن يأتيه الله به.
ولذلك فعندما كان اليهودي يقول لمحمد : صدقت، إنما كان يقولها لله جل وعلا، لأنه هو الذي كان يوحي لمحمد بالجواب الصحيح.
وما دام الله هو الذي يجيب ، فسيكون بالطبع هو مَن يتحمل مسؤولية الصواب أو الخطإ في إجابته.
لقد كان موضوع السؤال في الحديث ، "عن الولد" :
قال اليهودي : «جئت أسألك عن الولد؟»..
ومع أن السؤال مبهم ، لأنه لا يحدد أي شيء يُسأل عنه في الولد؛ فقد أجاب عنه النبي بمجرد سماعه، دون أن يستفسر اليهوديَّ عن أي شيء يريد معرفته "عن الولد"، وذلك لأن الجواب كان من عند الله ، وهو سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى أن يَسأل السائلَ عن المقصود من سؤاله، فهو يعلم ماذا يريد، فأوحى إلى رسوله بالجواب الصحيح على الفور. فما كان من اليهودي إلا أن صدّقه، وشهد بأنه نبي وانصرف !
وعلى هذا الأساس فإن كان في الجواب خطأ ما، فهو خطأ من الله، وليس من النبي ولا يُحسَب عليه، وهذه هي الكارثة العظمى؛ لأنه لو كان الحوار ثنائيا محصورا بين محمد واليهودي دون تدخل من الله سبحانه وتعالى، بحيث يكون اليهودي يضع سؤاله، فيجيبه النبي
من علمه الذي اكتسبه في الحياة الدنيا، وليس بوحي من الله عز وجل، لهان الأمر، سواء كان الجواب صحيحا أم خاطئا، لأن موضوع ذلك السؤال "عن الولد"، لا يدخل في نطاق العبادة والتشريع، ولا في الحلال والحرام، التي لا يجوز أن يشوب الجوابَ عنها أيُّ خطإ مهما كان صغيرا؛ وإنما هو من أمور الدنيا التي لا يكون العِلمُ بها من شروط النبوة، ولا يكون من الواجب على الرسول أن يعرفها بالضرورة. فمسألة معرفة مَن المسؤول عن جنس الجنين هل هو الأب أم الأم، هي شأن دنيوي، تدخل ضمن المعارف البشرية التي خاض فيها الناس، واجتهد فيها العلماء والفلاسفة والأطباء من قديم الزمان، فإذا أخطأ النبي في الجواب عنها، فلن يكون لذلك أي تأثير على الإسلام أو المسلمين، بل نَحْمِل ذلك الخطأَ على ما وقع عندما نَهى النبيُّ أهلَ المدينة عن تأبير نخلهم، فنفضت النخل ولم تثمر، فلما علم بفشل التجربة، قال لهم كما جاء في رواية مسلم في باب الفضائل (حديث 2361) : ((إني إنما ظننت ظنا، فلا تؤاخذوني بالظن؛ ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به؛ فإني لن أكذب على الله عز وجل)) ، أو قال كما جاء في مسند أحمد (حديث 1326): ((إنما هو ظن ظننته إن كان يغني شيئا فاصنعوا ، فإنما أنا بشر مثلكم، والظن يخطئ ويصيب، ولكن ما قلت لكم : "قال الله عز وجل"، فلن أكذب على الله))
مما يُستفاد منه أن النبي عليه السلام يُقِر بأنه بشر مثل سائر الناس، قد يخطئ في ظنه وقد يصيب .. ومن ثم، فلو كان ذلك الحديث قد جعل الحوار ثنائيا، دار بين اليهودي والنبي فحسب، لما كانت هناك أي مشكلة على الإطلاق، وإنما سيحصل منه نفع إن كان جواب النبي صحيحا، وسينتفي عنه الضرر إن كان جوابه خاطئا؛ إذ لا تأثير لذلك الخطإ لا على الإسلام، ولا على النبي، ولا على المسلمين ..
أما وأن الجواب من عند الله، ثم يكون فيه جهل فظيع بأبسط الحقائق العلمية، فيجعل منيَّ المرأة إذا علا هو السبب في أنوثة الجنين، ومنيَّ الرجل إذا علا هو السبب في ذكوريته؛ فهذا مما لا يجوز في حقه تعالى، لأنه يعبّر عن جهل شنيع بأبسط الحقائق العلمية، ننزه الله تعالى عنه تنزيها كبيرا، ولهذا فإنني أعتبر أن التصديق بهذا الحديث يؤدي إلى كارثة عظمى لا تدانيها كارثة في حجمها وخطورتها على الإسلام والمسلمين؛ إذ لا ينحصر أثرها المدمّرُ في التشكيك بنبوة محمد وحسب؛ بل يتجاوز ذلك إلى التشكُّك في ربوبية الله سبحانه وتعالى.. لأنه ليس من المقبول لا عقلا ولا نقلا ولا منطقا أن يكون إله، هو الخالق الصانع المصور، ثم لا يعرف كيف يتكون خلقه. كما أنه ليس من العقل ولا من الصواب بله الحكمة، أن نؤمن بإله جاهل بمعلومة كانت معروفة عند الجاهليين في أعماق باديتهم،، حيث كانت نساؤهم تعرف أن منيّ الرجل هو وحده المسؤول عن جنس الجنين، ولذلك أسمعتْ زوجةُ أبي حمزة زوجَها الذي هجرها لأنها كانت تلد له البنات دون البنين، شعرا تبرئ فيه ذمتها من مسؤولية إنجاب البنات ، وتُحَمِّله إياها، قائلة وهي ترقّص ابنتها:
ما لأبي حمزة لا يأتينا
يظل في البيت الذي يلينا غضبانَ ألا نَلِد البنينا
تالله ما ذاك بأيدينا
وإنما نأخذ ما أُعطينا
فنحن كالأرض لزارعينا
نُنبت ما قد زرعوه فينا
فكيف تكون زوجة أبي حمزة الجاهليةُ أعلمَ من الله بأنه لا يدَ للمرأة في جنس الجنين، وإنما هي كالأرض تُنبت ما يُزرع فيها !؟
وإني لأشهِد الله أني بريء مما تفترون
الهوامش
1 انظر الحلقة السابقة بعنوان : ((الشيخ الفزازي يناظر بالمناكير))