إذا كان لحكومة ابن كيران من علامة مميزة عن سابقاتها من الحكومات المتعاقبة، فهي ذلك السيل من الفضائح الذي ما انفك يجري بيننا بسخاء كبير، إذ ما يكاد يندثر أثر فضيحة حتى تنفجر في وجوهنا أخرى أكثر غرابة: " شكولاتة" الكروج، "كراطة" أوزين، "غرفة النوم" بمكتب عبد القادر عمارة، "الكوبل" بين الشوباني وبنخلدون، "جوج فرانك" أفيلال، "22 ساعة" و"استيراد النفايات" الحيطي، "الصفقات المشبوهة" بأكاديميات التربية والتكوين... وها نحن اليوم أمام فضيحة بعنوان "خدام الدولة". فعلى إثر تقرير صحفي حول تفويت بقعة أرضية بأحد الأحياء الراقية في العاصمة الإدارية، ذات مساحة إجمالية تبلغ: 4755 مترا مربعا، إلى والي جهة الرباط- سلا- القنيطرة "عبد الوافي لفتيت"، بثمن تفضيلي لا يتجاوز 350 درهما للمتر، تعالت أصوات التنديد والاحتجاج حتى من خارج حدود البلاد، عبر مختلف المنابر الإعلامية في مواقع التواصل الاجتماعي والصحف الورقية، رافضة استمرار مظاهر الريع في ظل دستور 2011. ورغبة منهما في تطويق الفضيحة وإبراء ذمة الوالي من أي شبهة، سارعت كل من وزارتي الداخلية والمالية إلى إصدار بيان مشترك، معتمدتين على مرسوم صادر في 1996/12/26، عن الوزير الأول المرحوم عبد اللطيف الفيلالي، الذي يتم بموجبه تمتيع من أسماهم "خدام الدولة" بامتيازات خاصة، وعلى كون المعني بالأمر من المسؤولين السامين المشهود لهم بالكفاءة، والحرص على خدمة الصالح العام. بيد أن ما رفع من وتيرة التذمر وأجج نيران الغضب في الصدور، هو ورود عبارة "خدام الدولة" في البيان المشترك، والكشف فيما بعد عن قائمة بأسماء مسؤولين سياسيين وشخصيات وازنة: مستشارين للملك، وزراء سابقين، موظفين سامين وأجانب... استفادوا في وقت سابق إلى جانب الوزيرين: محمد حصاد وزير الداخلية ومحمد بوسعيد وزير المالية من تجزئة "خدام الدولة". وفي ظل ارتفاع حرارة الغليان، اختار رئيس الحكومة لغرض في نفسه التواري إلى الخلف، مطالبا مناضلي حزبه بالتزام الصمت. وبقطع النظر عما إذا كان البيان بين الوزارتين، جاء للدفاع عن النخبة "المحظوظة"، وتكريس نظام الامتيازات والتوزيع غير المنصف لخيرات البلاد، متعمدا إغفال المرسوم الملكي رقم 2 .02.185 الصادر في 5 مارس 2002 المتعلق بالمحاسبة العامة، الذي ينص في المادة 82 على: "يباشر بيع العقارات من ملك الدولة الخاص، عن طريق المزاد العلني..." و"أنه لا يسمح بالبيع الرضائي سوى للجماعات والمؤسسات العمومية، أو للأشخاص الطبيعيين الراغبين في الاستثمار وإقامة مشاريع تنموية مدرة للدخل والضريبة وإحداث فرص الشغل" وهو ما لا يتوفر للأسف الشديد في حالة هذا التفويت وغيره. أو أن هذه الضجة التي أثارت حفيظة ملايين المغاربة، لا تعدو أن تكون مجرد حملة انتخابية سابقة لأوانها بقيادة الحزب الحاكم، لتهريب النقاش عن الحصيلة الهزيلة للحكومة، أو بغرض تصفية حساباته مع من يعتبرهم "الدولة العميقة"، فإن الذي يهمنا في المقام الأول، هو ما يتخلل مفهوم "خدام الدولة" من لبس، حيث أن قانون الوظيفة العمومية لا يتضمن مثل هذا المصطلح. فما هي يا ترى أهم المواصفات الواجب توفرها لدى هذه الفئة من "الخدام الأوفياء"؟ أهي الكفاءة المهنية، أم هي المواطنة الخالصة وحب الوطن، أم هو التفاني في العمل واحترام أوقات العمل...؟ وهل نساء ورجال التعليم والأطباء والممرضون والمهندسون ورجال الأمن والجيش والفلاحون والحرفيون وعمال النظافة...لا تتوفر فيهم الشروط الضرورية، أم أنهم خدام من الدرجة الثانية؟ عديدة هي الأسئلة الحارقة التي ستظل معلقة، ما لم تتوفر قوة الإرادة السياسية في الرد عنها بجرأة ومسؤولية. قبل عامين من الآن، وفي خطابه السامي بمناسبة الذكرى الخامسة عشرة لعيد العرش المجيد، يوم 30 يوليوز 2014، قال الملك محمد السادس: " أتساءل باستغراب مع المغاربة: أين هي الثروة، وهل استفاد منها جميع المغاربة، أم أنها همت بعض الفئات فقط؟ ثم رد قائلا: " إذا كان المغرب عرف تطورا ملموسا، فإن الواقع يؤكد أن هذه الثروة لا يستفيد منها جميع المواطنين. ذلك أنني ألاحظ خلال جولاتي التفقدية، بعض مظاهر الفقر والهشاشة، وحدة الفوارق الاجتماعية بين المغاربة". فهل بعد كل هذا الذي ورد على لسان أعلى سلطة بالبلاد، يستمر الحديث عن تفشي الريع بمختلف أصنافه؟ ألم يكن حريا برئيس الحكومة الخروج عن صمته ووضع حد للتمييز بين المواطنين، والمبادرة إلى اتخاذ قرار بتغيير هذا المرسوم، أم أنه لا يفلح إلا في صياغة القرارات اللاشعبية؟ فمن العار ونحن في القرن الواحد والعشرين، نتغنى صباح مساء بالمفهوم الجديد للسلطة ودولة الحق والقانون، أن يشعر المواطن بالحيف وعدم المساواة. وإلا كيف يمكن تفسير ما أقدمت عليه الحكومة من إجحاف في حق الأجراء والموظفين، سعيا إلى إسعاف صناديق التقاعد المنهوبة من الإفلاس على حسابهم، باعتمادها "الثالوث الملعون" تمديد سن التقاعد إلى 63 سنة، رفع المساهمة وتقليص المنحة ابتداء من 2017، والامتناع عن الاستجابة للمطالبة الشعبية بإسقاط معاشات الوزراء والبرلمانيين، ومراجعة قيمة منحة نهاية الخدمة...؟ بالله عليكم، ألا يكفي رجال السلطة ما يتقاضونه من أجور عالية، ويتمتعون به من تعويضات مختلفة وامتيازات كثيرة حسب درجات مسؤولياتهم، من فيلات فخمة وسيارات فارهة وخدم وحشم... حتى تمتد أيديهم إلى المال العام وعقارات الدولة؟ فليسارع رئيس الحكومة إلى إنقاذ ماء الوجه قبل فوات الأوان.