كفتات من الجيل الذهبي "منتصف الثمانينات",مازلت افرح واتنطط كلما اقترب العيد,ومازلت "مبلية" بشم الكتب الجديدة,والتي يذكرني شمها,بالرائحة التي كنت احرص على استنشاقها كلما حل موسم دراسي جديد,وعلى دفن وجهي في الملابس الجديدة,التي يرسلني عبقها عبر الزمن,لأجد نفسي طفلة صغيرة,تحتضن ملابسها وتقبلهم,وتضعهم قرب وسادتها,ولا تصدق متى يأتي الصباح وتتمكن من لبسهم.. كان يبدأ العيد عندنا,آنا وأخواتي وبنات الحي,قبل أسبوعين على الأقل,فنحرص اشد الحرص على انتهاء أعمال البيت الشاقة,من غسل أواني,تنظيف أرجاء البيت ,تصبين المفروشات وتحضير الحلويات,قبل يوم الحنة,وهو اليوم الذي يسبق العيد,والذي يعتبر يوما تاريخيا لا يجب تفويته تحت أي ظرف أو عذر,ولو بقطع الرقبة,وحينما نقول حلويات,فالأمر لم يكن يتعلق بكعب الغزال ولا بقرن وحيد القرن,بل كل ما هنالك هو حلويات لا يتعدى قوام عجينتها :سكر,دقيق,زيت,خمارة حمراء وخمارة بيضاء,ثم خبز هذه العجينة أشكالا عديدة,وتعبئتها في "سطل" خاص يتم "تغبير" شقفه,والجن الأزرق.بجلالة قدره, لم يكن ليعثر على مخبئه.. بعد انتهاء أعمال البيت والتي كنا نشارك فيها رغم صغر سننا,تارة بالترغيب وتارة بالترهيب والابتزاز العاطفي "شقاي..نشري ليك..ما تعاوني..بقاي بلاش",تأتي رحلة البحث عن "حوايج" العيد,وهي رحلة تبدأ استطلاعية ثم استكشافية قبل أن يفتح الصندوق المالي ويتقرر الشراء من عدمه,وتبدأ بعد مراجعة سجلك القانوني والعدلي داخل وخارج البيت,وبعد حصولك على حسن السيرة والسلوك وعدم تدخل فاعلي الخير والذين غالبا ما يكون طول لسانهم أضعاف طول أجسادهم الصغيرة,ولا تعرف كيف استطاعوا تسجيل ذلك الكم الهائل من المخالفات,ولا كيف ينبتون من العدم,فلا تحس إلا واحدهم بجوارك يبتسم في شماتة "حصلتك",لذلك وجب إسكاتهم قبل بدا المفاوضات مع كل من وزير المالية "الأب" ووزيرة الداخلية "الأم".. لم أكن اهتم كثيرا بالدخول إلى تلك المفاوضات من اجل شراء كسوة العيد,ربما لاني كنت واثقة من حسن سيرتي وسلوكي,أو لأنها غريزة الأمومة المحشورة في جيناتي الوراثية,وحمضي النووي,والتي تجعلني مستعدة للصبر وإيثار أشقائي على نفسي,أو لاني كنت اعشق المفاجآت,وواثقة بان قبل ليلة الحناء,سأجلس وككل عيد, أمام البيت,بعد انتهاء "رسوم" السادسة,لانتظر المشهد الذي اعشقه,واعشق تسجيله في ذاكرتي وعرضه بالبطيء,مشهد أمي وهي قادمة,تحمل كيسين بلاستيكيين- عذرا مولات زبل الطاليان -كان ما بداخل احدهما, يعلن عنه ب"قبطة" النعناع التي تترأس المشهد,وتبدو من بعيد وهي تعانق "ربطة" القزبر والبقدونس,أما الكيس الآخر فكان اسودا,إمعانا في "السوسبانس",ومع شكله الذي يعلن ما بداخله, لم يكن الأمر يحتاج لذكاء لأعرف انه الكيس الذي يحتوي على ملابس العيد.. بعد وابل من "واو" وموجة من الضحك الطفولية,وحصة من الحركات الرياضية الجنونية,توزع الأم على كل منا ملابسه,وتجلس أرضا لاسترجاع أنفاسها "جيبولي نشرب",وهي تبتسم في ظفر كأنما هي عائدة من غزوة,قبل أن تهجره و تتجهم, والقبل تنهال على وجهها صبا صبا, وعنقها يتعرض لسلسلة من العناقات الحارة,فتجاهد مبلغ جهدها لاقتلاع تلك المخلوقات الصغيرة التي تلتصق بها ك"العلقة", وهي تنادي ب"العگر" وتغمم في تبرم "بالناقص".. قبل الشروع في الحنة,والتي عادة ما تبدأ مباشرة بعد العشاء,الذي يكون استثنائيا وفي غير موعده,تشرع الأم في جمع الملابس,بعدما قمنا بقياسها أكثر من مرة, خوفها على لونها من أن "يكشف" مع هستيريا العناق والبوس والأحضان,والرقص بها في أنحاء البيت,كنا نسلم ملابسنا في خنوع,وأيادينا لا تقوى على إفلاتها,ونظراتنا تلاحقها,قبل أن ننفض كل المشاعر السلبية,و نستدير معا باتجاه واحد وفي لحظة واحدة, ننتظر في سخرية أن تطلب أختي طلبها الأخير والذي يتكرر في كل عيد "آخر بوسة ..ياكي ماما",لم يكن أمام أمي وفي كل مرة إلا أن تنصاع لطلبها الطفولي,خاصة مع تلك الملامح الملائكية التي تتقمصها في براعة منقطعة النظير,وننتظر أن تستدير إلينا بعد إجابة طلبها وهي تنحني ممسكة طرفي فستانها,طلبا للتصفيق على أداءها .. كنا نصطف أمام أمي,التي أحضرت "زلافة" فخارية,ممتلئة بخليط له رائحة كفيلة بإسقاط الزرزور من فوق السور,عرفت من بعد انه "الدوليو",كما قامت بإحضار مجمر صغير,لم أكن لأعرف دوره إلا حينما كانت تنهي أمي,عملها الفني,وتزخرف كلتا يدي,فتنتابني قشعريرة "التبوريشة",تجعلني ارتجف وأسناني تصطك,وكلما نظرت إلي متسائلة, أحاول استجماع شجاعتي ولملمة نفسي, لابتسم في تكلف,فمعنى الاستسلام وظهور أعراض مثل هذه الأعراض التي تبدو علي كلما "حنيت",هو مسح الحناء من على يدي,وحصولي بالتالي على لون شاحب في الغد.. كانت تخضب أيادي كل إناث البيت,وحتى الصغيرة منا كانت تحصل على يد أو رجل مخضبة,أما عن نقش أمي,فلم أكن لأجد له أي مدرسة فنية قادرة أن تتبناه,نقش لم يكن ليقبل به من هو في كامل قواه العقلية ولو تحت التهديد بالسلاح الأبيض,لكننا آنذاك كنا مستمتعين ونحن نرى أمي تتفنن وتفكر وتقدر,وحالما نفتي عليها بأي اقتراح,كانت تنظر إلينا نظرات " عاود اشنو", كنا نفهم معاني نظراتها باعتبار القاموس الداخلي الرائج,فلا نجد أمامنا إلا الصمت وتسليم أيادينا إليها لتفعل بها ما تشاء,وحالما تنتهي من يد,كانت تقلبها وهي تهز رأسها في رضا,وتبتسم في جذل وهي تنظر إلينا "اش كاين..",دون أن تنسى اضافة تلك النقط الشهيرة في الحناء المغربية آنذاك,نقط توضع على الظهر في مفاصل اليد,زيادة في الرونق أو تقليلا من فظاعة الجريمة الفنية ربما.. لم يكن مسموحا لنا بالنوم قبل أن تجف الحناء,وكانت أمي تحرص قبل ذهابها للنوم,على وضع ملابس كل منا قرب رأسه,وأول ما نفعله حينما نستيقظ صباحا,كان هو النظر إلى أيدينا لرؤية اللون الذي صارت عليه,ثم نغسل ونمشط شعرنا,قبل أن نشرع في تقبيل راس كل فرد في البيت,وخاصة راسي الأب والأم,الذين كانا يبادلاننا القبل,ويوزعون علينا العيدية,وبينما نلبس كانت أمي تضع على المائدة طبق الأرز بالحليب و"بوشيار" والحلوى,التي نالت العفو الملكي وأخرجت من مخبئها أخيرا,لتعانق مائدة العيد. كنا نأكل على عجل,قبل الخروج إلى الحي,لملاقاة الصديقات وبنات الجيران,اللائي كن يبادرننا بالسؤال "وريني حنتك",سبحان الله نفس "التخربيقات" في أياديهن,كأنما أمهاتنا خريجات نفس المدرسة التكعيبية ههه,بعد ذلك تبدأ زيارة الجيران وطلب السماح,ثم زيارة العائلة,ثم عامة الشعب,وحينما تسمع عامة الشعب فهذا يعني البيت اللي عجبك ادخله,فأنت مرحب بك أينما ذهبت كونه يوم عيد,وكل من دخلت عنده ظنك ابن احد زواره,وكنا نستغل ذلك اليوم لمباركة العيد للجيران الجدد,والنساء "الحاجبات" ومن هن في فترة عدة.. كان واحدة منا "صاك" صغير لجمع العيدية,والسعيدة من استطاعت جمع اكبر قدر من المال,كنا نشتري "لاستيك" ونرسم "البيسو" في الأرض,وننفق في سخاء لشراء البالونات الملونة,وحلوى "البيضة" و"ساشي" الليمونادة,كنا نرهف السمع وأول ما نسمع "تاغروين يا لمعايل",نطير للظفر بحلوى أو علكة,بعد تقبيل يد العجائز ورؤوسهم,والابتسام في وجوههم في امتنان, وهم الذين كانوا يوزعون "التاغروين" هذه على الأطفال وحتى الكبار.. كان يوم العيد يعني رسوم متحركة,ولكن بعد حصة طويلة من الطرب الأندلسي,أما بعد الظهر فكان يعني مسرحية نجتمع كلنا لمشاهدتها,قبل أن تنضج وجبة الغداء,التي غالبا ما تكون إما لحم بالبرقوق,نضج على "الفاخر",أو دجاج محمر..وهكذا تبقى حلاوة العيد في أفواهنا,وفي أعماقنا إلى العيد التالي,وتغرس في لاوعينا روائح ومذاقات,حالما نشتمهم أو نتذوقهم,يقفز بنا الزمن إلى أحداث مضت,ووجوه عبرت,وابتسامات رسمت..