صاحبنا سعيد هو مواطن مغربي، لم ينل من السعادة سوى الاسم، كان ككل صباح يرتب خيباته، يصحا باكرا، يرتشف قهوته المرة مع سيجارة من النوع الغير مصنف، يلملم جراحاته الغابرة، و ينظم وقته الرتيب بتنفيذ الأوامر و تجنب النواهي، يجلس على مكتبه الخشبي في الإدارة المغيبة بقرارات ارتجالية، يمارس هوايته المفضلة في محو الذاكرة و معانقة النسيان، فيتغلب عليه التذكر و تصحوا معها أيام الدراسة و الجامعة و طموحات لم يكتب لها الاكتمال، تذكر النضال خطأ ضمن فصائل طلابية محسوبة على أحزاب إدارية، و تذكر حكاية حب صامت عاشها بخياله بكل التفاصيل، تذكر امتحانات الكتابي و الشفوي و المراجعة في الحديقة العمومية، تذكر نصوص الشعر و الغزل و الانتفاضة، و محمود درويش و هو يودع (ريتا) بعدما غلب الوطن على أنانية الحب، تذكر شاي الأم و صباحات لم تعد تتكرر، تذكر فخر الأب بمشروع ابن خنقته المحسوبية و الزبونية، تذكر الأصدقاء الذين رحلوا و الجيران الذين تفرقوا، تذكر و تذكر حتى لم يعد له من الذكرى سوى طعم الغياب. فصار مشروع الباحث الأكاديمي، مجرد موظف بسرداب الإدارة، يختم بشكل آلي معاملات المراجعين، و يوزع ابتسامات مصطنعة على الزملاء و المدراء و التافهين، يقضي معظم وقته في اجترار الكلمات المسهمة و المتقاطعة، و عندما ينسدل ستار التوقيت المستمر، يختفي وراء قنينات الخمر، كممارسة يومية حتى يعود النفس المتشضية على النسيان، و ليمارس المحو على ذاكرة ترفض الفقدان، يسأله صاحبه عن أحواله، فيجيب: أنا بخير، فقط القليل من وجع القلب، و موجات من الاختناق، و تعكر المزاج و العصبية، و الهذيان و بعض الجروح و الآلام، و أيضا الكثير من الخذلان، يضحك صاحبه الذي بدأ الخمر يلعب برأسه، و يسأله عن أحوال الزوجة و الأبناء، فيجيب: الأبناء ينتظرون دورهم في مسطرة النظام، يعلمونهم الخنوع و الخضوع، و قلة الاستفسار و السؤال، و الكثير من الحفظ و التذكر، حتى ينتجون أجساد طيعة في خدمة النظام، و حتى يكون تأثيث المشهد الدرامي لمنظومة تعليمية لا تجيد سوى صناعة الغباء، أما الزوجة فقد تعبت من واقع الحال و سافرت بتذكرة ذهاب بلا عودة مع المسلسلات التركية، مابين أنقرة و اسطنبول و أزمير، تناجي قصص الحب، و تحاكي أبطالها الوسيمين، بعدما تعبت من التأنيب و التوبيخ و لعن الطموحات المحدودة و الآمال المسدودة، هكذا صارت الحياة يا عزيزي غربة و جمود، يضحك صاحبي و يغير الحوار من ضجر النفس و دواخل الأنا و الأخر، إلى نتائج مباريات البارسا و الريال. في هذه اللحظة ينتابني هدوء مفاجئ و كريه، حيث يصوم اللسان عن النطق، أدرك جيدا حينها أن سيلا من الدموع يتبعه، و أن عاصفة من الشجون سوف تشن هجمتها على في أية لحظة، فخيباتي استثنائية، ربما هي ضريبة أن تكون طيبا حد السذاجة، فتذاكر النسيان صارت باهضة الثمن، و العمر سمفونية رديئة و مكررة. هذه بكل اختصار حكاية سعيد، و هي حكاية كل من ينتمي إلى المغرب العميق.