يقول علماء النفس الاجتماعي أن الشعور بالأمان والسلام هو الدافع الأساسي لإقدام الإنسان وإحجامه في هذه الحياة. فما من سلوك يعتقد فيه الإنسان السكينة والطمأنينة إلا سلكه، تحقيقا للراحة النفسية الدافعة لاستمراره، ودفعا للخوف الكابح لسيره. فلكي تنهض الأمةُ حضارتُها، علومُها، سياستُها، اقتصادُها، مجموعُها لا بد لها من مُزايلة حالة الفوضى والاضطرابات وضمان السلم الفردي والجماعي. فما هي نظرة الإسلام للسلم الاجتماعي؟ وما الضمانات الشرعية لتحقيقه أفرادا وجماعات؟ (1) الإسلام يعتبر السلم الاجتماعي فريضة واجبة وجوبا شرعيا وليس حقا فقط، إنه فريضة عينية على الفرد تجاه مجتمعه، وفريضة عينية كذلك على الدولة تجاه مواطنيها. بل يصنف علماء الشرع السلم الاجتماعي كضرورة من ضرورات "العمران الأخوي والإنساني"، استجابة للنداء القرآني: (يأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة، ولا تتبعوا خطوات الشيطان، إنه لكم عدو مبين).1 ولذلك نرى أن المنطق القرآني يدعو صراحة إلى السلم الاجتماعي كمدخل للأمن العام، باعتباره محددا لاستقرار البلاد وسعة أرزاق العباد، وحافزا للإنتاج والإبداع والابتكار. إبراهيم الخليل عليه السلام فطن لأهمية السلم الاجتماعي في دعائه الحضاري حيث يحكي لنا القرآن العظيم ذلك: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر. قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار.وبيس المصير).2 أمن روحي واقتصادي، يتحقق بهما الأمن السياسي والسلم الاجتماعي. هذا العدل هو من يثمر السلم الاجتماعي؛ لأن المجتمع المضطرب والظالم لأهله، المستضعِف لولدانه ونسائه هو مستنقع للفساد والاستبداد، لا مكان فيه للتنافس الشريف وللمواطنة الحقة. السِّلم هو أُتْرُجَّة العدل، ريحها طيب وطعمها طيب، والفوضى حَنْظَلَة الظلم، طعمها مر وريحها خبيث. الناموس الأعظم يخذل الأمة المسلمة خذلانا سياسيا، ويهزمها هزيمة عسكرية، ويؤخرها اقتصاديا وعلميا وثقافيا بظلمها لمواطنيها، بيد أن الأمم الأخرى تنتصر بعدلها وإنصافها ومساواتها بين مواطنيها. "ولذلك قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة. الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام".5 هذه الحقيقة يجهلها كثير من الفاعلين في حقل الدعوة الإسلامية. العدالة هي أول محك لبناء السلم الاجتماعي، و لهذا كان المسئول الأول في الأمة هو: "أول السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل".6 يروي لنا التاريخ نموذجا راقيا لهذه العدالة، ومثالا منقطع النظير جسدته إرادة الحاكم المسئول عن ضمان السلم الاجتماعي. يُحكى أن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان مارا بجوار بيوت المسلمين ليلا، متفقدا أحوال الناس، فسمع ضجة بأحد المنازل، فاقترب من الباب ليستمع، ثم تسور الجدار ونزل منه، فوجد رجلا وامرأة في حالة سكر وحميمية.. تقول الرواية "أن الخليفة عمر قال للرجل لا داعي لذكر اسمه : يا عدو الله أكنت ترى أن الله يسترك وأنت في معصيته ؟ فقال الرجل الذي يعرف جيدا نظام دولة الحق والقانون العمرية : يا أمير المؤمنين أنا عصيت الله في واحدة، وأنت عصيته في ثلاث(كذا!). الله يقول: (ولا تجسسوا)، وأنت تجسست علينا. والله يقول: ( واتوا البيوت من أبوابها )، وأنت صعدت الجدار ونزلت منه. والله يقول: (لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستانسون وتسلموا على أهلها)، وأنت لم تفعل ذلك".7 وهكذا لم يجد الحاكم العادل الفاروق أي مسوغ لإلقاء القبض عليه، لأن الإجراءات القانونية كانت مشوبة بالعيوب، فكان الاتهام باطلا. عمر بن الخطاب وهو الوقاف على الشرع يعلم أن إطلاق اليد بغير موجب قانوني على حقوق الناس من شأنه أن يحدث الفوضى في النظام العام نتيجة لهذا الظلم الاجتماعي. إن العدالة الاجتماعية تطمئن لها القلوب وتستريح لها النفوس، ويقوم بها وعليها السلم الاجتماعي في أبهى تجلياتها الإيمانية: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون).8 (4) من ضمانات السلم الاجتماعي أيضا: العيش الكريم، والتوزيع العادل للثروة انطلاقا من مبدأ: ( كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم).9 (2) الفلسفة القرآنية للسلم الاجتماعي تتأسس على قواعد لحماية الإنسان في معاملاته وحياته وممتلكاته وسمعته، وتحرره من كل ما يرهبه فكرا ووجدانا. جاء في الحديث النبوي الشريف: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره.التقوى ههنا(...) بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ".3 الإسلام يحمي الإنسان من الاحتقار والسخرية والإهانة والإشاعة والتجسس، ويعالج منبع الأحكام المسَبَّقة بتحريم "سوء الظن" والنهي عن مثيرات الكراهية في المجتمع: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم، ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن. ولا تلمزوا أنفسكم، ولا تنابزوا بالألقاب، بيس الاسم الفسوق بعد الإيمان، ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون. يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن، إن بعض الظن إثم، ولا تجسسوا. ولا يغتب بعضكم بعضا، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه. واتقوا الله، إن الله تواب رحيم).4 كل هذه الضمانات والتأمينات يكفل بها الإسلام عوامل السلم الاجتماعي، لأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نبني بلدا آمنا دون أن يعيش أفراده أمنا داخليا وسلما اجتماعيا يمشي بين الناس. الذي لا يعيش السلم في أقواله وأفعاله وأحواله وسيرته لن يعرف للسلم قيمة. (3) تساءل كثير من الشباب الباحث عن إيمان وصحبة ونية لنصرة قضايا الأمة عن سبب تخلفنا، وعن الفتن التي تقلبنا ذات اليمين وذات الشمال، في مقابل تطور الآخر وتقدمه ونجاحه الباهر. وتساءل كثير من الدعاة والمفكرين في العالم الإسلامي عن سبب انحطاط المسلمين، وطرحوا السؤال: لماذا تقدم الغرب وتأخرنا، رغم أننا أصحاب رسالة خاتمة ومحفوظة ؟
والحقيقة أن هذا السؤال المشروع يخفي في طياته صورة حزينة لجهلنا بحقائق الأمور، وعقما لآلة تفكيرنا؛ لأن جوهر التمكين الآفاقي يتماهى مع قانون الدنيا القائم على العدل بين الناس. فلكي يقطع الإسلام مع ثورة الجياع فرض الزكاة، وربط كثيرا من العبادات والكفارات بالإطعام والكسوة، وحرم الافتخار بكثرة المال، وأكد على تواضع الأثرياء تخفيفا للاحتقان الذي قد يصيب فئة عريضة من فقراء المجتمع الإسلامي. تشير الحكمة القرآنية في قصة يوسف الصديق (عليه السلام) لما دخل معترك الشأن العام، وعرض نفسه عزيزا على ملك مصر لإدارة الأزمة الاقتصادية وقتها إلى أن ضمان الحياة الكريمة للمواطنين لا يحقق فقط السلم الاجتماعي الداخلي، بل يساهم كذلك في نشر السلم الإقليمي ويجعل البلد ملجأ للمضطرين والخائفين وقِبلة للمستضعفين من مختلف الأقطار. ولذلك فالسلم الاجتماعي لا يقوم على عوج ولا على استثناء تاريخي، بل على برج استراتيجي وإرادة صادقة، تنشد الحياة الكريمة للناس كافة، وتعتبر أن حيازة المال والثروة مسؤولية استخلافية من باب:(مما جعلكم مستخلفين فيه)10، وليست وسيلةَ طاعةٍ استخفافيةٍ: (فاستخف قومه فأطاعوه).11 القاعدة الآمرة كانت واضحة في هذا الشأن: (وأنفقوا خيرا لأنفسكم).12 (5) إن التصور الإسلامي للسلم الاجتماعي بهذا الفهم يجعلنا نقتنع أن كثيرا من حركات الإسلام السياسي تتخندق في نفق مظلم طوعا أو كرها، دون وعي منها بحركية التاريخ المعاصر القائم على قوانين أرضية وسنن كونية لا تفرق بين المؤمن وغير المؤمن، ودون انتباه لما قد يسببه التأويل الضيق للدين واختزال تطبيقه في نطاق الجزاء والتعزير من فتن وحروب لا طائل منها، "لا يدري القاتل في أي شيء قَتَل ولا يدري المقتول على أي شيء قُتِل؟".13 كما أن كثيرا من الوعاظ والخطباء وسعيا منهم لاستثارة عواطف الناس يستنجدون بفعل "عِلّة الجماهيرية" بقواميس اللعن والطعن في الأعراض، وافتراء الكذب على الناس، ثم إصدار "فتاوى انفعالية" من التكفير والتبديع والتفسيق، وهذه كلها عوامل هدامة لا تساهم في السلم الاجتماعي، ولا يمكنها أن تؤسس لريادة الأمة وتماسك أفرادها. إن هذا التماسك السلمي في المجتمع كان أولى الأولويات في بداية تكوين جماعة المسلمين بالمدينة .. تقول كتب السير أن الصحابة ضاقوا ذرعا بأُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ زعيم حركة المنافقين الذي كان يحضر الصلوات مع المسلمين في المسجد، ويغشى مجالسهم ويمدح نبيهم، وفي نفس الوقت يخطط مع قبائل يهودية محيطة بالمدينة بتنسيق مع جبهة قريش من أجل قلب موازين القوى وتجفيف منابع الإسلام والقضاء عليه. في أحد المناسبات طلب بعضٌ من هؤلاء الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم السماح لهم بقتل أبي بن سلول رأس المنافقين بالمدينة، ولكن الرسول الكريم، الذي كان على علم بنوايا ابن سلول وتحركاته وعلى دراية بالمعطيات الجيوسياسية للمنطقة، قال للصحابة: " أتريدون أن تتحدث القبائل أن محمدا يقتل أصحابه؟ "14، منبها إياهم للدعاية الإعلامية التي يمكن أن تهز السلم الأهلي بالمدينةالمنورة وقتها جراء إعدام أبي بن سلول، خاصة وأن هذا الأخير له رهط داخلي يسانده ودعم خارجي يؤازره. نعم اقتضت الحكمة النبوية أن يكون للسلم الاجتماعي الأولوية في التدافع الأرضي، لأن اغتيال أبرز خصم سياسي في تلك المرحلة يعني فقدان الثقة عند المسلمين ذوي القرابة من أبي بن سلول في المحيط النبوي، مما قد يؤدي إلى اندلاع حرب أهلية بين الأوس والخزرج، وطرد المهاجرين من المدينة، ثم انهيار الدولة الفتية.. هذا المنطق النبوي هو الذي لم يتم ترجيحه في معركة "صفين" وقضية "التحكيم" وواقعة "الجمل"، وما زال تغييبه يتكرر للأسف الشديد نسخة طبق الأصل في كثير من بلدان الربيع العربي نتيجة غياب التربية على قيم الأمن النفسي والسلم الاجتماعي. تشير آخر إحصائيات المرصد السوري لحقوق الإنسان أن ما يزيد عن 200 ألف شخص لقوا مصرعهم منذ الفتنة السورية، حيث لفت المرصد عبر موقعه الالكتروني إلى أن نصف القتلى الذين تمكن من توثيقهم ]هم[ من المدنيين، بينهم 10377 طفلا، و 50166 أنثى فوق سن الثامنة بالإضافة إلى حوالي 30 ألف قيد الاعتقال وأكثر من 20 ألف في عداد المفقودين. كل ذلك يحدث في أرض سورية باسم الدين. كما بلغ عدد اللاجئين السوريين المسجلين في المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، أكثر من 3 ملايين، أما عدد الذين نزحوا داخل البلاد فوصل إلى 6.5 ملايين...فتنة! إن أعظم منزلق في مسار الفاعل الديني هو أن يطوع الآيات والأحاديث ويستنطقها بطريقة جامدة وتقلدانية لخدمة التصور المستبد، وتبرير استعمال العنف والاستئصال ضد المخالف/الكافر في تعارض صارخ مع المنطق القرآني والمنهج النبوي. إن الخلاف في منهج التربية أو السياسة ليس مسوغا للحكم على الآخر بضلاله الإيماني أو فساده السياسي، فقط لأنني أملك منهاجا يحوي قواعد بشرية معرضة لمعاول التاريخ والجغرافيا. فما فتئ فئام من الناس يحرضون على العنف والإخراج من الملة، وإقحام نصوص الشرع بطريقة تعسفية في خلاف أرضي سياسي محض، ينصبون هذا ويرفضون ذاك. نقرأ في كثير من هذه المراجع الشاذة نصوصا من القذف واللعن والتكفير للرموز التاريخية للمسلمين أنزه مقالتي عن نقلها ينظر أصحابها بأحادية للتاريخ الإسلامي وللمنعطفات السياسية التي وجهت مساراته، ويلبسون وقائعَ أفرزها الاجتهاد البشري الذي يصيب ويخطئ ثيابا وهمية من القدسية والعصمة، تستغل في عصرنا للاستقطاب والتعبئة "لولاية" هدامة أو"لحاكمية" ظالمة ليست على الإطلاق من مهمات الدين، ولا تبشر إلا بالفوضى والاقتتال بين أبناء المجتمع الواحد، ولا تخدم إلا المرجفين والأعداء من بعدهم. لا غرو أن الاجتهاد الديني يجب أن يتحلى بالجرأة الفقهية في عدم شرعنة كثير من منابع الظلم الاجتماعي المفضية للعنف الأسري والمدرسي، وانتشار الجريمة وتزايد حالات الانتحار، والاعتداء على الأطفال وتزويج القاصرات، وتتبع عورات الناس والتجسس على حياتهم الخاصة... ما أحوجنا إلى جبهة دعوية شبابية ومتنورة تملك رسالة شجاعة تتجاوز أغلال النخب الدينية المستعلية ووصايتها، ورؤية قادرة على التخلص من ظلال حقد التاريخ وعقدته. ثم إنه لا مناص من مناولة تجديدية لإدراك منظومة السلم الاجتماعي القائمة على تعزيز الحس الجمعي العام بين المواطنين، والتربية على قواعد السلوك المدني، وتكريس العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية في المجتمع. ( إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)15. الهوامش: 1- البقرة، الآية: 208 2- البقرة، الآية: 126 3- صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، الحديث: 2564 4- الحجرات، الآية : 11-12 5- مجموع فتاوى ابن تيمية، المجلد الثامن والعشرون، رسالة الحسبة، فصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ص: 146 6- صحيح البخاري، كتاب الزكاة، الحديث: 1423 7- عبقرية عمر، عباس محمود العقاد، ص: 137-138 8- الأنعام، الآية: 82 9- الحشر، الآية: 7 10- الحديد، الآية : 7 11- الزخرف، الآية: 54 12- التغابن، الآية: 16 13- صحيح مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، الحديث: 2908 14- السيرة النبوية، ابن هشام، الجزء 3 ص: 200 15- الأنفال: 73